بداية الوصول في شرح كفاية الأصول المجلد 5

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: آل شیخ راضی، محمد طاهر، 1904 - م.

عنوان العقد: کفایه الاصول .شرح

عنوان المؤلف واسمه: بداية الوصول في شرح كفاية الأصول/ تالیف محمد طاهر آل الشیخ راضی (قدس سره)؛ اشرف علي طبعه و تصحیحة محمد عبدالحکیم الموسوي البکاء.

تفاصيل النشر: تهران: دارالهدی، 14 ق. = 20م. = -13.

مواصفات المظهر: ج.

شابک : دوره 964-497-056-X : ؛ ج. 4 964-497-060-8 : ؛ ج.5، چاپ دوم 964-497-061-6 : ؛ ج. 7، چاپ دوم 964-497-063-2 : ؛ ج.8، چاپ دوم 964-497-064-0 :

يادداشت : الفهرسة على أساس المجلد الرابع، 1426ق. = 2005م. = 1384.

لسان : العربية.

ملحوظة : الكتاب الحالي هو وصف "کفایة الاصول" آخوند الخراساني يكون.

ملحوظة : چاپ دوم.

ملحوظة : ج.5، 7 و 8 (چاپ دوم: 1426ق. = 2005م.= 1384).

موضوع : آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق. . کفایه الاصول -- نقد و تفسیر

موضوع : اصول فقه شیعه

معرف المضافة: موسوی بکاء، محمدعبدالحکیم

معرف المضافة: آخوند خراسانی، محمدکاظم بن حسین، 1255 - 1329ق . کفایه الاصول. شرح

تصنيف الكونجرس: BP159/8/آ3ک 70212 1300ی الف

تصنيف ديوي: 297/312

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 2954810

المقصد السادس: الامارات

اشارة

المقصد السادس في بيان الامارات المعتبرة شرعا أو عقلا و قبل الخوض في ذلك، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الاحكام (1)، و إن كان خارجا من مسائل الفن (2)، و كان أشبه

______________________________

بسم اللّه الرحمن الرحيم، و به نستعين، و صلى اللّه على محمد و اهل بيته اجمعين (1) الطريق العقلي الى الحكم اما قطعي، او ظني، و سيأتي خروج القطع عن مسائل فن الاصول، و اما الظني فغير المعتبر منه واضح خروجه، و يدخل المعتبر منه فيه كالظن الانسدادي على الحكومة لا على الكشف، بان تكون نتيجة دليل الانسداد حجية الظن عقلا لا لكشفها عن اعتباره شرعا، فانه يكون كسائر الامارات الخاصة المعتبرة شرعا.

فتحصّل: ان الامارات الشرعية كخبر الواحد الثقة و الامارة العقلية، اما غير المعتبر منها كالظن القياسي فانه خارج عمّا يبحث هنا، و الظن العقلي المعتبر تارة يكون اعتباره عقليا كالانسداد على الحكومة، و اخرى يكون شرعيا كالانسداد على الكشف، و حينئذ يدخل في الامارات المعتبرة شرعا.

فهذا المقصد السادس للامارات الشرعية المعتبرة كخبر الواحد و الامارات العقلية المعتبرة عقلا كالانسداد على الحكومة، و اما الانسداد على الكشف فهو من الامارات الشرعية.

(2) لا يخفى ان اندراج المسائل في الفن انما هو حيث يدخل في الغرض الجامع لمسائل العلم، و قد تقدّم في اول مقدمة الكتاب ان الغرض من علم الاصول هو الاستنباط للحكم الشرعي و ما ينتهي اليه في مقام العمل بعد الفحص و اليأس عن الظفر بالدليل.

اما خروجه عن الاستنباط فلوضوح ان الاستنباط هو استلزام الحكم لما يبحث عنه من مسائل الاصول، كالبحث عن مثل مقدمة الواجب، فان اللزوم بين وجوب

ص: 1

بمسائل الكلام، لشدة مناسبته مع المقام (1).

______________________________

المقدمة و وجوب ذيها و عدمه يستلزم وجوب المقدمة و عدم وجوبها، و من الواضح ان القطع بالحكم ليس شيئا يستلزم الحكم فانه نفس حضور الحكم.

لا يقال: ان مباحث القطع غير منحصرة في البحث عن القطع بالحكم، فان من جملتها مسألة التجري، و سيأتي انه يمكن عقدها مسألة اصولية، و منها اخذ الحكم في الموضوع للحكم، و اخذه في موضوع حكم نفسه، و قيام الامارات مقامه، و هذه كلها من مباحث الاصول.

فانه يقال: اما مسالة التجري و ان امكن عقدها مسألة اصولية، إلّا ان المهم في البحث عنها هو الثواب و العقاب، و ليس هما من الاحكام الشرعية، و اما اخذ القطع في الموضوع فان الحكم يستند استنباطه الى الدليل الدال على اخذ القطع موضوعا للحكم لا الى القطع، و الّا كان البحث عن موضوعات الاحكام من مسائل الاصول، و هو واضح البطلان.

و اما اخذه في موضوع نفسه، فمضافا الى عدم إمكانه في نفسه كما سيأتي بيانه، ان الذي يقع في طريق الحكم هو نتيجة البحث عن امكان اخذه لا نفس القطع.

و اما قيام الامارات مقامه فهو في الحقيقة من لواحق الامارات دون القطع بالحكم.

و اما خروجه عن ما ينتهي اليه بعد الفحص و اليأس، فلوضوح ان القطع غير منوطة حجيته بالفحص و اليأس عن الظفر بالدليل، فان القطع بالشي ء هو نفس وصوله و حضوره حقيقة بنظر القاطع، و لا يعقل ان يكون وصول الشي ء حقيقة منوطا بالفحص

(1) ظاهره امران:

الاول: خروج مباحث القطع عن علم الكلام ايضا، و لكنه اشبه به من غيره.

الثاني: ان لمباحث القطع شدة مناسبة مع مسائل علم الاصول.

ص: 2

خروج مباحث القطع عن علم الاصول

اما خروجه عنه، فلان البحث في علم الكلام ليس هو عن مطلق المسائل العقلية، بل عن خصوص ما يتعلق منها بأحوال المبدأ و المعاد، و من الواضح خروج مباحث القطع الستة عن ذلك.

و الذي يتوهّم كونه من مسائل علم الكلام هو البحث عن التجري، الّا ان التأمل فيه يقتضي كونه ليس منه ايضا، لان البحث في التجري هو في صحة عقاب المتجري و عدم صحته، و انه من الطاغي على مولاه أولا؟ و لا اختصاص لذلك بخصوص كون المولى هو الشارع او غيره، و علم الكلام يرجع الى البحث عما يخص احوال الشارع بما هو مبدأ المبادئ و غاية الغايات.

و اما كون القطع أشبه بالكلام من غيره، فلان البحث فيه عقلي كما انه عقلي في علم الكلام، بخلاف فن الاصول فانه لا اختصاص له بكون مسائله عقلية، بل هو اعم منها و من غيرها من المباحث المتعلقة بحجية الظواهر، و الخبر، و مباحث الالفاظ كصيغة الامر، و غيرها من مباحث علم الاصول.

و اما شدة مناسبة البحث عما يتعلق بالقطع لفن الاصول، فلوضوح ان القطع بعد ان كان وصولا للحكم الشرعي، و علم الاصول يبحث عن الحجية على الحكم الشرعي، كانت له مناسبة أكيدة معه، لذا ناسب ان يبحث عنه في هذا الفن، و قد اشار الى خروجه عن علم الكلام و مشابهته له بقوله: «و كان أشبه بمسائل الكلام»، و اشار الى شدة مناسبته مع علم الاصول اقتضت البحث عنه في ضمنه بقوله: «لشدة مناسبته مع المقام» المراد من المقام هو علم الاصول.

و لا يخفى ان هذا تعليل لقوله: «لا بأس بصرف الكلام الى بيان بعض ما للقطع من الاحكام».

ص: 3

إرادة خصوص المجتهد من المكلف

فاعلم: أن البالغ الذي وضع عليه القلم (1)، إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري، متعلق به أو بمقلديه، فإما أن يحصل له القطع

______________________________

(1) جعل المصنف المقسم للقسمة الآتية هو من وضع عليه القلم، و عدل عما في الرسالة، فان المكلف فيها هو المقسم، لانه قال فيها: المكلف اذا التفت الى آخر ما ذكره من التقسيم.

اما البالغ فهو توضيحي لإغناء قوله من وضع عليه القلم عنه، كما ان المكلف مغن عنه، لوضوح ان المكلف و من وضع عليه القلم لا يكونان إلّا للبالغ، و قد ذكر المصنف وجه عدوله عن المكلف في حاشيته على الرسالة: من ان ظواهر مبادئ المشتقات هو الفعلي منها، فمطابق المكلف هو المتلبّس بما هو تكليف بالفعل، و في بعض الاقسام الآتية ما لا يكون التكليف فيها فعليا، كالمكلف الذي ينتهي امره الى البراءة العقلية منها و النقلية، فانه لا تكليف فعلي في مقامها، لوضوح عدم كون التكليف في المورد الذي لا دليل عليه بالغا مرتبة البعث و الزجر، اذ لا يعقل البعث و الزجر الّا لمن يمكن منه الانبعاث و الانزجار، و حيث المفروض انه لا وصول للتكليف بنحو من انحاء الوصول و الانبعاث و الانزجار يستحيل من المجهول المطلق، فلا يعقل في مثل هذا بلوغ التكليف لمرتبة الفعلية التي هي مرتبة البعث و الزجر، و لا بد من كونه في مثلها انشائيا لا فعليا.

و لا يقول قائل: ان من وضع عليه القلم ايضا كذلك لظهوره في من وضع عليه قلم التكليف الفعلي.

فانّا نقول: ان الظاهر من وضع القلم هو المرحلة الاولى من وضعه، و اول مرحلة لوضع القلم هو التكليف في مرحلة جعل القانون.

و المسلم ان وضع القلم يصح ان يراد منها مرحلة جعل القانون لا وضع القلم عليه، فان الظاهر منها كالظاهر من المكلف، لان مرحلة جعل القانون ليس وضعا

ص: 4

به، أولا، و على الثاني، لا بد من انتهائه إلى ما استقل به العقل، من اتباع الظن لو حصل له، و قد تمت مقدمات الانسداد- على تقدير الحكومة- و إلا فالرجوع إلى الاصول العقلية: من البراءة و الاشتغال و التخيير، على تفصيل يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى. (1)

______________________________

عليه بل هي وضع للقانون، هذا كله بناء على ما يظهر من المصنف من كون مراده من التكليف الفعلي هو البالغ مرتبة البعث و الزجر.

و اما ما يظهر منه في بعض المقامات من ان مراده من الفعلي هو كون التكليف بحيث لو علم به لكان بعثا و زجرا بالفعل، فلا فرق على هذا بين المكلف و من وضع عليه القلم، لان الفعلية بهذا المعنى هي مرتبة الانشاء.

ثم لا يخفى ان المراد من المقسم سواء كان المكلف، او من وضع عليه القلم هو خصوص المجتهد دون المقلد، و لذا صرّح المصنف بتعميم الحكم له و لمقلديه، لبداهة ان المكلف الذي اذا التفت الى الحكم، فاما ان يقطع به اولا، او يظن به، او يشك به، هو خصوص المجتهد، لانه هو الذي يجيئه النبأ، و هو الذي يستطيع ان يتمسك بقبح العقاب بلا بيان، او بدليل الرفع، او بلا تنقض اليقين بالشك، لان من يعرف مدلول آية النبأ- مثلا- و يصح له التمسك بالبراءة بعد الفحص عن الدليل، و من يحصل له اليقين بالحكم الكلي و الشك فيه هو خصوص المجتهد، دون الجاهل المقلد، لعدم معرفته بمدلول الادلة و عدم قدرته على الفحص عن الدليل ليكون شكّه موضوعا للبراءة او الاستصحاب، و هو واضح.

(1) ينبغي ان لا يخفى ان قيد الالتفات ليس بقيد توضيحي، بدعوى ان المكلف من تلبّس بالتكليف، و التكليف يتوقف على الالتفات، لبداهة عدم توقف التكليف على الالتفات، لان الجاهل المقصّر مكلف قطعا و هو لا التفات له، مع انه لم يؤخذ المكلف في عنوان المصنف. و البالغ الذي وضع عليه القلم يشمل الملتفت و غير الملتفت.

ص: 5

.....

______________________________

و اما السبب في اخذ قيد الالتفات خصوصا على عنوان المصنف و جعله القسمة ثنائية القاطع و غير القاطع، و القطع لا يتوقف على الالتفات، لتحقق القطع الارتكازي مع عدم الالتفات كما ان عدم القطع لا يتوقف على الالتفات و هو واضح، فلأنه لما كان الغرض من التقسيم بيان حكم العمل عند المجتهد الذي يستند في مقام فتواه و عمله و عمل مقلديه الى احد هذين الامرين، فلا مناص من اخذ قيد الالتفات، لانحصار ذلك بالملتفت.

ثم انه قد جعل المصنف القسمة العرضية ثنائية، و أن من وضع عليه القلم اما ان يحصل له القطع ام لا، و ان كان من لا يحصل له القطع لا بالحكم الواقعي و لا بالحكم الظاهري: تارة تتم عنده مقدمات الانسداد على الحكومة. و اخرى يكون مرجعه الاصول العملية، إلّا ان هذه القسمة الثانية طولية، لانها اقسام من لا يحصل له القطع ... و لا بد من بيان امور توضيحا لهذه القسمة:

الاول: ان مورد جعل الحكم الظاهري يدخل في القطع، لانه عمم القطع الى الحكم الظاهري كمورد الامارات، بناء على جعل الحكم في موردها سواء كان حكما طريقيا او نفسيا بناء على السببية، و كالاستصحاب بناء على جعل الحكم الظاهري فيه كما هو مختار المصنف.

الثاني: انه جعل الحكم الملتفت اليه هو خصوص الحكم الفعلي، لانه بعد ان دخل الحكم الظاهري في القطع فلا مانع من تقييد الحكم بالفعلي، بخلاف قسمة الرسالة، فانه سيأتي عدم امكان اخذ الفعلية فيه كما سيأتي بيانه.

الثالث: انه في الظن الانسدادي و مورد الاصول العملية المذكورة من البراءة و الاشتغال و التخيير لا بد و ان لا يكون فيها حكم ظاهري، و إلّا لكانت داخلة في القطع.

اما الظن الانسدادي فلانه بناء على الحكومة هو كون الظن عند العقل منجزا لو اصاب، و عذرا لو خالف، فليس في مورده جعل حكم اصلا، بل هو كون الظن

ص: 6

.....

______________________________

كالقطع فحيث انه ظن بالحكم الفعلي فلا قطع بالحكم الواقعي، و حيث انه صرف التنجيز و العذرية فلا حكم ظاهري في مورده، فلا قطع بالحكم الظاهري فيه، بخلافه على الكشف، فانه بناء عليه يكون الظن الانسدادي كالامارات الخاصة مثل خبر الواحد موردا لجعل الحكم الظاهري، لان نتيجة الانسداد على الكشف هو كشف تمامية المقدمات عن اعتبار الشارع للظن كالخبر.

و اما البراءة، فالعقلية منها هي قبح العقاب بلا بيان، و ليس لسانها لسان جعل الحكم، مضافا الى انه لا سبيل للعقل الى ان يكون جاعلا للحكم.

و اما النقلية منها كدليل الرفع، فلان لسانها لسان رفع الحكم لا اثبات الحكم، فلا يكون دليلها متكفلا لجعل الحكم.

و اما الاشتغال و هي كون شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني فليس في مورده جعل حكم لا واقعي و لا ظاهري، لانه هو حكم العقل بعدم معذورية من شغلت ذمته إلّا باليقين بالفراغ منه في مقام الامتثال، فالحكم الواقعي في مورد الاشتغال غير مقطوع به، و ليس هناك حكم ظاهري تدل عليه قاعدة الشغل، بل لا دلالة لها إلا الحكم بشغل الذمة.

و اما التخيير فمراده هو التخيير العقلي كما في مورد دوران الامر بين المحذورين، و حكم العقل بالتخيير فيه لا يتضمن حكما واقعيا و لا ظاهريا.

اما عدم الحكم الواقعي، فلوضوح انه في مقام تردد الحكم بين الحرمة و الوجوب، فلا قطع بالحكم الواقعي فيه لفرض التردد المقتضي لعدم معلومية الحكم.

و اما عدم الحكم الظاهري، فلوضوح ان التخيير في دوران الامر بين المحذورين انما هو لعدم امكان ان يخلو المكلف من ان يفعل او يترك، كما يأتي بيانه مفصلا في مقامه.

ص: 7

.....

______________________________

اذا عرفت هذه الامور ... تعرف ان من وضع عليه القلم اذا التفت: فاما ان يحصل له قطع بحكم واقعي، او حكم ظاهري متعلق به، كاحكام الصلاة و الزكاة المستفاد بعضها من الاجماعات المحصلة و الأخبار المتواترة، و بعضها من اخبار الآحاد المقطوع بحجيتها، كما سيأتي تحقيقه في مبحث خبر الواحد، او بمقلديه كاحكام الحيض و النفاس. و اما ان لا يحصل له القطع لا بالحكم الواقعي و لا الظاهري:

فتارة تتم له مقدمات الانسداد، و كان بناؤه فيها على الحكومة دون الكشف، كما هو رأي المصنف في نتيجة دليل الانسداد.

و اخرى لا تتم، فيكون مرجعه اما البراءة كما في مقام الشك في اصل التكليف، او الاشتغال، كما في مورد الشك في المكلف به كالتكليف المعلوم المردد بين المتباينين.

و ثالثة التخيير، كما في مقام دوران الامر بين الوجوب و الحرمة، كصلاة الجمعة في الغيبة.

و منه اتضح: ان الاستصحاب داخل في القطع، لانه يتضمن لسانه جعل الحكم الظاهري عند المصنف، كما يأتي في محله إن شاء اللّه.

و لا يخفى ان التقييد بالالتفات و ان اوجب خروج غير الملتفت، كالجاهل المقصر و القاصر، إلّا انه لما كان المهم بيان ما يقع للمجتهد من حيثية للفعل في مقام العمل، و لذا يكون الحصر في حصول القطع و عدمه عقليا، لذا كان خروج غير الملتفت لا غضاضة فيه: اولا، لان حكم الجاهل المقصر حكم العامد، و حكم الجاهل القاصر حكم الملتفت المعذور، و ليس لهما حكم غير حكم الملتفت، لذا كان التقييد بالالتفات مما لا مانع عنه.

و ثانيا: لان حصول القطع بالحكم، و الظن الانسدادي به، و معرفة ان المورد له حكم البراءة او الاشتغال او التخيير لا يعقل ان يتأتى لغير الملتفت.

ص: 8

الفرق بين قسمة المصنف (قده) و قسمة الشيخ (قده)

و إنما عممنا متعلق القطع، لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلقا بالاحكام الواقعية، و خصصنا بالفعلي، لاختصاصها بما إذا كان متعلقا به- على ما ستطلع عليه (1)- و لذلك عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة- أعلى اللّه مقامه- من

______________________________

(1) لا يخفى ان الفرق بين قسمة المصنف و قسمة الشيخ هو ان المصنف عمم القطع الى القطع بالحكم الواقعي و الحكم الظاهري، و الشيخ خصص القطع بالقطع بالحكم الواقعي، و المصنف خصص الحكم بالفعلي، و الشيخ عممه الى الحكم الانشائي و الفعلي، و لأجل هذين الأمرين عدل المصنف عن قسمة الشيخ في الرسائل، لان الشيخ قال فيها: المكلف اذا التفت الى حكم شرعي فإما أن يحصل له القطع الى آخر ما ذكره، و قد جعل القسمة ثلاثية: قطع، و ظن، و شك، فلم يعمم القطع الى القطع بالحكم الظاهري، لانه لو عممه لما جعل الظن بالحكم في قبال القطع، للزوم التكرار على ذلك، فان الظن يكون داخلا في القطع، فذكره مرة ثانية من التكرار الذي لا فائدة فيه، و لم يقيد الشيخ الحكم بالفعلي كما خصصه المصنف بذلك، لانه حيث لم يعمم القطع بالحكم الى القطع بالحكم الظاهري، و جعل الظن في قبال القطع، فلا بد و ان يكون الحكم المقسم لتعلق القطع و الظن و الشك هو الحكم الانشائي دون الفعلي، لانه في مورد الحكم الظاهري و هو مورد الامارات كالخبر الواحد و الاستصحاب بناء على جعل الحكم فيه، لا يعقل ان يكون الحكم المتعلق للظن أو الشك هو الحكم الفعلي، لوضوح انه بعد الالتزام بالحكم الظاهري على طبق مورد الامارة او الاستصحاب يلزم الظن باجتماع الحكمين الفعليين، الحكم الواقعي الذي هو متعلق الظن، و الحكم الظاهري المجعول في مورد الظن، و احتمال اجتماعهما في مورد الشك، و حيث ان اجتماع الحكمين الفعليين محال، و الظن بالمحال او احتماله كالقطع به محال ايضا، فلا يعقل ان يكون الحكم الواقعي المقسم لهذه الثلاثة هو الحكم الفعلي، لعدم اطراده في جميع الاقسام كما عرفت، فلا بد

ص: 9

.....

______________________________

و ان يكون الحكم في قسمة الشيخ هو الحكم الانشائي دون الفعلي، بخلاف قسمة المصنف، فانه حيث عمم القطع الى الحكم الظاهري لذا امكن تقييده بالفعلي.

اما الداعي للتعميم في القطع الى الحكم الظاهري و للتخصيص بالحكم الفعلي:

اما للتعميم، فلان اكثر احكام القطع الآتية- كالتنجيز، و التعذير، و التجري، و اخذه في موضوع نفسه، و انه لا فرق بين اسبابه و اشخاص القاطعين و سايرها لا تختص بالحكم الواقعي، فان التنجيز كما يحصل في القطع بالحكم الواقعي، كذلك يحصل في القطع بالحكم الظاهري، و كذلك التجري، فان قبحه و عدم قبحه لا يختص بالتجري في الحكم الواقعي، فان من قطع بالخمر و شربها فلم تكن خمرا، او استصحب خمرية ما كان متيقنا بخمريته و تجرأ بشربه فلم يكن خمرا، فان الحال فيهما سواء، فلا فرق في التجري بين عصيان الحكم الواقعي، او عصيان الحكم الظاهري.

نعم قيام الامارات مقام القطع مما يختص بالقطع بالحكم الواقعي كما سيأتي بيانه، فاذا كان اكثر احكام القطع مما لا اختصاص لها بالقطع بالحكم الواقعي، و تعم القطع بالحكم الظاهري، لذا كان اللازم تعميم القطع في القسمة الى الواقعي و الظاهري.

و اما الداعي للتخصيص بالفعلي، فلان الحكم ما لم يبلغ مرتبة الفعلية، بان يكون تحريكا نحو الشي ء بالفعل او زجرا عنه بالفعل لا يترتب عليه اثره المهم منه.

و الى ما ذكرنا اشار المصنف بقوله: «و انما عممنا متعلق القطع» للقطع بالحكم الظاهري «لعدم اختصاص احكامه»: أي لعدم اختصاص احكام القطع «بما اذا كان متعلقا بالاحكام الواقعية». و اشار الى سبب التخصيص بالفعلي بقوله:

«و خصصنا بالفعلي ... الى آخر الجملة».

ص: 10

تثليث الاقسام (1).

و إن أبيت إلا عن ذلك، فالاولى أن يقال: إن المكلف إما أن يحصل له القطع أو لا، و على الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا، لئلا تتداخل الاقسام فيما يذكر لها من الاحكام، و مرجعه على الاخير إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير القاطع، و من يقوم عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محله- إن شاء اللّه تعالى- حسبما يقتضي دليلها.

أمور فى بيان أحكام القطع

اشارة

و كيف كان فبيان أحكام القطع و أقسامه، يستدعي رسم أمور (2):

______________________________

(1) أي و لاجل عدم التعميم الى الظاهري في قسمة الشيخ، و عدم التخصيص للحكم بالفعلي فيها ايضا، عدلنا الى هذه القسمة التي فيها تعميم القطع الى الحكم الظاهري، و تخصيص الحكم بالفعلي.

(2) حاصله: ان تقسيم الرسالة كما يرد عليه ما ذكرنا من ناحية نفس التثليث، و انه لا بد من تعميم القطع الى الحكم الظاهري، و لازمه تثنية القسمة- يرد عليه لزوم تداخل الاقسام من ناحية جعله الاقسام الثلاثة قطع و ظن و شك، و الظن هو رجحان احد المحتملين على الآخر، و الشك تساوي الطرفين، و جعل مورد الظن مورد قيام الامارات، و مورد الشك مورد قيام الاصول.

و من الواضح انه ربما يكون مورد الظن مورد قيام الاصول، كما لو حصل الظن من طريق غير معتبر، فانه مع قيام الظن لا بد من الرجوع الى الاصول.

و ربما يكون مورد الشك مورد قيام الامارات، كما لو قامت امارة على حكم و لم يحصل منها ظن بل كنا شاكين فيه، فانه مع الشك لا بد من اتباع الامارة، و عدم الرجوع الى الاصول، و هذا هو تداخل الاقسام، فان لازم تقسيم الرسالة هو حصر مورد الامارات بالظن، و حصر مورد الاصول بالشك، مع ان مورد الامارة كما عرفت ربما يكون مع الشك، كما فيما لو لم يحصل الظن من الامارة المعتبرة، فيدخل مثل هذا في حكم الظن الذي جعله هو المورد المنحصر لقيام الامارة، و ربما

ص: 11

.....

______________________________

يدخل مورد الظن في مورد الشك، كما في الظن الحاصل من الامارة غير المعتبرة، فانه و ان كان ظنا، إلّا انه لا بد من اتباع حكم الشك فيه، من الرجوع الى الاصول الذي كان في قسمة الرسالة منحصرا في مورد الشك، فدخل كل من القسمين في الآخر، و اذا تداخلت الاقسام بطلت القسمة، لان القسمة انما هي لتمييز حكم كل قسم عن القسم الآخر، و لازمه ان لا يسري حكم القسم الى القسم الآخر، و إلّا لم يكن لكل قسم حكم يخصه، فاذا سرى حكم احد القسمين، او حكم كل من القسمين الى الآخر بطلت القسمة، فلذلك اذا اريد تثليث القسمة، فلا بد و ان تكون على غير النحو المذكور في الرسالة في تقسيم المكلف الى قاطع و ظان و شاك، بل بان يكون بنحو ما ذكره المصنف من تقسيم المكلف الى من يحصل له القطع بالحكم الواقعي، و من لا يحصل له القطع به، و تقسيم من لا يحصل له القطع الى من يقوم عنده دليل معتبر، و لا بد من الاخذ بمؤداه، سواء كان ظانا او شاكا و الى من لا يقوم عنده دليل معتبر، سواء كان ظانا او شاكا، و مرجعه الى الاصول، و على هذا لا تتداخل الاقسام، و هو واضح.

لا يقال: ان هذا من تثنية القسمة لا من تثليثها، فانه قسم اولا المكلف الى قاطع، و غير قاطع، ثم قسم غير القاطع الى قسمين، و اي فرق بين هذه القسمة التي اعتبرها قسمة ثلاثية، و بين القسمة السابقة التي اعتبرها ثنائية؟ فانه ايضا قسم اولا من وضع عليه القلم الى من يحصل له القطع بالحكم الواقعي أو الظاهري، و الى من لا يحصل له القطع، ثم قسم من لا يحصل له القطع الى من تمت عنده مقدمات الانسداد و يلزمه اتباع الظن، و الى من لا يتم عنده الانسداد و مرجعه الاصول.

فانه يقال: حيث كان الظن الانسدادي، و الرجوع الى الاصول مشتركين في عدم الحكم في موردهما لا واقعا و لا ظاهرا، فهما قسمان طوليان في القسمة، و هنا حيث كان في مقام قيام الطريق المعتبر حكم ظاهري، و ليس في مورد الاصول حكم ظاهري، فهما قسمان عرضيان في القسمة، فلذا كانت هذه القسمة من تثليث

ص: 12

.....

______________________________

القسمة، و القسمة الاولى من تثنية القسمة. و على كل فقد اشار الى ما ذكرنا بقوله:

«و ان ابيت الا عن ذلك» أي و ان ابيت الا و ان تثلث القسمة «فالاولى ان يقال:

ان المكلف اما ان يحصل له القطع» بالحكم الواقعي «اولا، و على الثاني» و هو من لا يحصل له القطع «اما ان يقوم عنده طريق معتبر، اولا» و حكم الذي لا يقوم عنده طريق معتبر هو الرجوع الى القواعد المقررة، كما يشير اليه، و قد اقحم بينه و بين حكمه الاشارة الى انه على تقسيم الرسالة يلزم التداخل في الاقسام كما عرفت «لئلا تتداخل الاقسام فيما يذكر لها من الاحكام» لما مر من ان رب ظان يلزمه الرجوع الى القواعد، و رب شاك يلزمه الاخذ بمؤدى الامارة و الطريق المعتبر.

ثم اشار الى حكم من لا يقوم عنده الطريق بقوله: «و مرجعه على الاخير الى القواعد المقررة عقلا و نقلا لغير القاطع» و هو القسم الاول «و» لغير «من يقوم عنده الطريق» و هو القسم الثاني.

و لا يخفى انه على هذه القسمة يدخل الاستصحاب في القسم الاخير، ثم لا يخفى ان الحصر في القسمة سواء على قسمة المصنف الثنائية، او على قسمة الرسالة الثلاثية المرددة بين القاطع و الظان و الشاك، او على قسمة المصنف هذه الثلاثية، هو حصر عقلي، لدورانه بين النفي و الاثبات، لوضوح ان الحصر بين حصول القطع و عدمه للملتفت، و حصر الملتفت بين كونه قاطعا او لا، و حصر غير القاطع بين كونه اما ان يترجح عنده احد الطرفين فيكون ظانا، او لا يترجح احدهما فيكون شاكا، حصر لا يمكن ان يفرض غيره، فهو عقلي، لبداهة ان الحصر العقلي هو الحصر الذي لا يمكن ان يفرض العقل غيره.

و اما حكم الاقسام و انحصارها في الامارات و الاصول فهو حصر استقرائي لا عقلي، لامكان ان يحكم الشارع بان من تقوم عنده الامارة حكمه الاحتياط في بعض المقامات، أو ان يحكم الشارع للشاك في مورد البراءة بالاحتياط، او في مورد الاشتغال بالبراءة، او في التخيير بالبراءة، و غير ذلك، فالحصر استقرائي، أي انا

ص: 13

الامر الاول: لزوم العمل بالقطع عقلا

اشارة

الامر الاول: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا، و لزوم الحركة على طبقه جزما، و كونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذم و العقاب على مخالفته، و عذرا فيما أخطأ قصورا، و تأثيره في ذلك لازم، و صريح الوجدان به شاهد و حاكم، فلا حاجة إلى مزيد بيان و إقامة برهان.

و لا يخفى أن ذلك لا يكون بجعل جاعل، لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشي ء و لوازمه، بل عرضا يتبع جعله بسيطا.

و لذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضا، مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين اعتقادا مطلقا، و حقيقة في صورة الاصابة، كما لا يخفى (1).

______________________________

استقرينا فوجدنا ان الشارع في مورد الشك في اصل التكليف حكم بالبراءة، و في الشك في المكلف به حكم العقل بالاشتغال، لعدم حكم من الشارع فيه، و كذلك في مورد التخيير العقلي، و في اليقين السابق و الشك اللاحق حكم بلزوم ترتيب آثار اليقين، و كان من الممكن ان يحكم بالبراءة او الاحتياط.

(1) المراد من وجوب العمل على وفق القطع، و لزوم الحركة على طبقة، اما ان يكون هو الحكم بعصيان المكلف، و استحقاقه الذم و العقاب لو خالف ما قطع به لو كان مصيبا في قطعه، و استحقاقه المدح و الثواب لو جرى على وفق ما قطع به، و كان كذلك.

و اما ان يكون المراد به هو حجية القطع و تمامية طريقيته.

و لا يخفى ان الاول من لوازم الثاني، فان الحكم بالعصيان في المخالفة، و الاطاعة في الموافقة انما هو لكون القطع هو الحجة التامة و الطريق الكامل، فالعمدة هو الثاني، و هو كون القطع حجة موجبا لتنجز التكليف لو اصاب، و عذرا لو خالف.

و قد استدل على كون حجيته ذاتية له بأدلة:

ص: 14

.....

______________________________

الاول: لزوم التسلسل لو لم تكن كذلك.

و توضيحه: ان حجية القطع لو لم تكن ذاتية له، بان كانت محتاجة الى جعل جاعل لها، و اعتبار معتبر اياها، سواء من العقلاء او من الشارع، فوصول هذا الجعل و هذه الحجية للقطع اما ان يكون بالقطع، او بغيره من الظن او الشك.

و لا ريب ان كل ما كان مجعولا من العقلاء أو من الشارع، لا بد من اقامة حجة على ذلك الجعل، لوضوح عدم حجية الجعل ما لم يكن واصلا، و من البديهي عدم حجية الظن و الشك بذاتهما، فكونهما حجة على حجية القطع هو من ثبوت الحجة بغير حجة، و وصول حجية القطع بالقطع يحتاج الى حجية القطع على وصول هذا الجعل و الاعتبار للقطع، و لا فرق بين قطع و قطع، فننقل الكلام الى هذا القطع القائم على حجية القطع، فاما ان يكون محتاجا الى جعل اولا، فان احتاج الى جعل، فوصول جعله لا بد و ان يكون بالقطع ايضا، و هلم جرا، فيتسلسل.

و اما ان لا يحتاج الى جعل، و عدم احتياجه اليه انما هو لكونه بما هو قطع غير محتاج الى جعل، و حينئذ لا بد و ان لا يكون فرق بين قطع و قطع، لانه متى كان لازما ذاتيا لقطع بما هو قطع، فلا بد و ان يكون من ذاتيات ماهية القطع، و تستوي فيه جميع افراد الماهية، و لعله اشار الى هذا بقوله: «و تأثيره في ذلك لازم».

الثاني: من الادلة هو حكم الوجدان و البداهة في ذلك و أنه من البديهيات كون حجية القطع لا بجعل جاعل من دون حاجة فيه الى اقامة برهان، فان البرهان ما لم يرجع الى البديهي لا يكون صحيحا، و ما لم تكن حجية القطع بديهية لا يكون مرجع البرهان الى امر بديهي، و تمامية البرهان على حجية القطع انما هو بوصول مقدماته بالقطع، ليستلزم القطع بالمقدمات القطع بالنتيجة، فلو لم تكن حجية القطع بديهية لما امكن اقامة حجة نظرية عليه، و مع كونها بديهية لا تحتاج الى اقامة الحجة اذ لا حجة على البديهي، فانه مثل امتناع اجتماع النقيضين و ارتفاعهما و كون الكل اعظم من جزئه لا يمكن اقامة الحجة عليه، بل هو أبده من كل البديهيات لاحتياج

ص: 15

.....

______________________________

كل بديهي الى القطع به و لا عكس، و الى هذا اشار بقوله: «و صريح الوجدان به شاهد فلا حاجة الى مزيد بيان و اقامة برهان».

الثالث- من الادلة-: ان حجية القطع غير قابلة للجعل لا تكوينا و لا تشريعا.

و توضيحه يحتاج الى بيان امور:

الاول: ان حقيقة القطع هي الانكشاف التام لمتعلقه و حضوره للقاطع حضورا تاما ليس فيه موقع احتمال، و ليس القطع الا ذلك الانكشاف الكامل و النورية التامة لمتعلقه، فحقيقة القطع حقيقة النورية المحضة و الطريقية التامة و الإراءة التي لا فوقها إراءة، فهذه هي حقيقة ذات القطع، و لازم هذه الحقيقة انه عند تعلقها بالمقطوع يكون المقطوع واصلا تام الوصول بمعنى انه يتنجز لو كان حكما و يدرك العقل لكونه مرشدا لزوم الحركة على طبقه، و استحقاق الذم و العقاب على المخالفة لو اصاب و العذر لو اخطأ.

الثاني: ان الجعل تكويني و تشريعي، و الجعل التكويني بسيط و مركب و هو الجعل التاليفي.

و الجعل البسيط هو افاضة الوجود على الماهية و جعل الماهية موجودة.

و الجعل المركب المعبر عنه بالجعل التاليفي هو الربط بين مجعولين كجعل الجسم ابيض فانه جعل تاليفي بين ماهية الجسم المجعول لها الوجود و ماهية البياض المجعول لها وجود ايضا.

و اما الجعل بالتبع هو كون الجعل لشي ء بالذات و لغيره بالعرض كنسبة الجعل للزوجية بتبع جعل الاثنين، فانه ليس هناك إلّا جعل واحد هو اول بالذات لماهية الاثنين، و ثان بالعرض للازم الذاتي لها و هو الزوجية، و ليس للوازم الماهية جعل غير جعل الماهية لوضوح انها لو احتاجت الى الجعل في كونها لازمة للماهية لما كانت من لوازم ذات الماهية و لكانت ماهية من الماهيات لا لوازم الماهية.

ص: 16

.....

______________________________

الثالث: انه لا جعل للماهية بما هي ماهية فان الماهيات من حيث هي هي لا مجعولة و لا لا مجعولة، و انما تجعل الماهية بجعل وجودها و افاضة الوجود عليها من علة العلل و مفيض الوجود على هياكل الماهيات، فالمجعول وجود الماهية لا نفس الماهية.

و لا فرق في هذا بين القول باصالة الوجود و اصالة الماهية، فانه على القول باصالة الوجود فالامر واضح، و اما بناء على اصالة الماهية فان القائل باصالتها يقول بلزوم اكتساب الماهية من حيث هي هي حيثية من الجاعل حتى تكون مجعولة، و اما الماهية من حيث هي هي فلا يقول احد باصالتها كما هو مبين في محله.

اذا عرفت ذلك فحجية القطع اما طريقيته و نوريته و انكشاف الاشياء به، و هذه هي حقيقة ماهية القطع، و قد عرفت ان لا جعل للماهية من حيث هي هي و انما المجعول وجودها، فوجود الطريقية و النورية و الانكشاف موجود لا نفس الطريقية و النورية و الانكشاف، و لذا تسمعهم يقولون انه لا جعل بين الشي ء و نفسه.

و ان كان المراد من حجية القطع هو كونه منجزا لو اصاب و عذرا لو خالف، فقد عرفت انه لا جعل بين الماهية و لوازمها، و عرفت ايضا ان لازم ذات الحضور التام للشي ء ذلك فيما اذا كان حكما، فان لازم حضور الحكم حضورا تاما عند القاطع هو لزوم الحركة على طبقه و ان قطعه منجز الواقع لو اصاب و عذر لو خالف، فالحركة على طبق القطع و كونه منجزا و عذرا لازم ماهية القطع التي هي عين الحضور و عين الانكشاف التام عند القاطع، و لا جعل للوازم الماهية لا بسيطا و لا مؤلفا، و انما هي مجعولة بالتبع بمعنى ان وجود القطع وجود بالذات لماهية هذا الحضور التام و وجود بالعرض للوازمها، و هي لزوم الحركة و التنجيز و العذرية.

فحجية القطع اما لا جعل لها اصلا فيما اذا كان المراد منها طريقيته و الانكشاف به.

ص: 17

.....

______________________________

و اما ان تكون مجعولة بالتبع فقط و لا جعل لها لا بسيطا و لا تأليفيا فيما اذا كان المراد منها لزوم الحركة و التنجز و العذرية.

و حيث ان حجية القطع عند المصنف هي لزوم الحركة على طبقه و كونه موجبا للتنجز و العذرية فقد اشار الى كونها غير مجعولة تكوينا إلّا بالجعل التبعي بقوله:

«و لا يخفى ان ذلك لا يكون بجعل جاعل لعدم جعل تأليفي حقيقة بين الشي ء و لوازمه» الذاتية له، و لم يشر الى عدم الجعل بالجعل البسيط، لوضوح عدم احتماله لفرض لكونها لوازم ماهية القطع فجعلها ان كان لا بد و ان يكون تأليفيا لا بسيطا، و اشار الى كونها مجعولة بقوله: «بل عرضا» أي انها مجعولة بالجعل العرضي «بتبع جعله» أي بتبع جعل القطع جعلا «بسيطا» لان افاضة الوجود على ماهية القطع من الجعل البسيط، فوجود القطع جعل بالذات لماهية القطع و جعل بالعرض و بالتبع للوازم ماهية القطع، هذا كله في الجعل التكويني.

و اما جعل حجية القطع تشريعا فغير معقول لوجهين:

الاول: ان الجعل التشريعي انما هو اعتبار لما ليس بكائن ليكون باعتبار الشارع له، و قد عرفت ان طريقية القطع و الانكشاف به هي حقيقة القطع، فهي كائنة بكون القطع بل هي نفس كون القطع، فلا معنى لجعل الحجية للقطع تشريعا بمعنى جعل طريقيته و الانكشاف به، لانها تكون اعتبار لما هو كائن لا لما لم يكن.

و اما جعل الحجية له بمعنى جعل لوازمه فقد عرفت ايضا انها مجعولة بتبع جعل القطع تكوينا، فاعتبارها ايضا اعتبار لما هو كائن.

و بعبارة اخرى: ان نفس ماهية القطع بما هي ماهية القطع غير قابلة للجعل لا تكوينا و لا تشريعا، اما تكوينا فلان الماهيات في مقام ماهويتها لا مجعولة و لا لا مجعولة، و اما تشريعا فلانه لا معنى لاعتبار ذاتية الذات للذات، و انما جعلها بجعل وجودها.

ص: 18

.....

______________________________

و اما لوازم القطع فهي مما يترتب وجودها قهرا بتبع وجود القطع، فجعل وجودها تكوينا انما هو بتبع وجود القطع تكوينا، و اما تشريعا فحيث انها مما تكون قهرا بتبع كون القطع فلا معنى لاعتبارها تشريعا للقطع، لان اعتبارها اعتبار ما هو كائن لا لما لم يكن.

الثاني: ان جعل الشارع بما هو شارع لا بما هو جاعل الممكنات و معطيها الوجود هو تصرفه في الحكم، فجعل الشارع للقطع هو تصرفه في حكمه اما وضعا او رفعا، اما وضعا فبان يقطع القاطع بالخمر فيكون قاطعا بحرمة المائع الخمري فيضع الشارع الحرمة ايضا لهذا المقطوع بحرمته، و اما رفعا فبان يرفع الحرمة عن الخمر المقطوع بها.

و كلا الامرين غير معقول اما وضعا فلوضوح محالية جعل الحرمة للخمر المقطوع بها للزوم اجتماع المثلين واقعا فيما اصاب القطع لفرض جعل الحرمة لنفس الخمر اولا في قوله: الخمر حرام، و جعلها لها ثانيا حال كونها مقطوعا بها، و اجتماع المثلين بنظر القاطع سواء اصاب القطع ام اخطأ لكون القاطع حال قطعه لا يرى نفسه الا مصيبا.

و اما رفعا فللزوم اجتماع الضدين واقعا فيما اصاب، لانه بعد جعل الحرمة لذات الخمر فرفع الحرمة عن الخمر المقطوع بها و كانت خمرا واقعا لازمه كون الخمر واقعا حراما و غير حرام، و لزوم اجتماع الضدين بنظر القاطع سواء اصاب ام اخطأ لما عرفت من كون القاطع يرى نفسه حال قطعه مصيبا، فهو يرى دائما ان ما قطع بخمريته محكوم بالحرمة و محكوم بضدها في آن واحد.

و المصنف قد اشار الى الوجهين لانه بعد ان اشار الى امتناع الجعل تكوينا لحجية القطع اشار الى عدم جعلها تشريعا بان امتناعه مما ينقدح من امتناع الجعل التكويني بقوله: «و بذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره» أي مما ذكر من امتناع الجعل التكويني انقدح امتناع التصرف في القطع تشريعا بالمنع عن تأثير القطع لأثره، و انما ذكر المنع

ص: 19

مراتب الحكم و ترتب استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الفعلي

ثم لا يذهب عليك أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث و الزجر لم يصر فعليا، و ما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز، و استحقاق العقوبة على المخالفة (1)، و إن كان ربما يوجب موافقته استحقاق

______________________________

دون الوضع لوضوح المحالية فيه لان اعتبار الشارع للمنع و الرفع عما هو كائن قهرا واضح المحالية، و بهذا اشار الى الوجه الاول.

و قد اشار الى الوجه الثاني بقوله: «انه يلزم منه اجتماع الضدين» في تصرفه في حكم القطع منعا عنه و رفعا له «اعتقادا مطلقا» أي بنظر القاطع «و» يلزم في المنع اجتماع الضدين «حقيقة في صورة الاصابة» كما عرفت و انما لم يذكر امتناع تصرف الشارع وضعا بلزوم اجتماع المثلين في نظر القاطع دائما اصاب ام اخطأ و اجتماع المثلين واقعا في صورة الاصابة به لانه ايضا اجتماع الضدين، لانه اوضح في المحالية في اجتماع المثلين.

(1) قد سبق من المصنف في ان الداعي لتقييده للحكم و تخصيصه له بالفعلي لاختصاص آثار الحكم من كونه موجبا لاستحقاق العقاب على مخالفته و للثواب على اطاعته، و آثار القطع به من كونه موجبا للتنجز لو اصاب و للعذر لو خالف، و للتجري و عدمه، و قيام الامارة مقامه، و كونه حجة من أي جهة حصل و لأي شخص تحقق عنده، و ساير آثار الحكم من استحالة اجتماع مثليه او ضديه و غير ذلك انما هي آثار الحكم البالغ مرتبة الفعلية، فلا بأس ببيان مراتب الحكم هنا و ان كان يأتي التعرض لها في ما يأتي ايضا ان شاء اللّه.

فنقول ان للحكم أربع مراتب:

الاولى: مرتبة الاقتضاء و الشأنية و هي مرتبة ثبوت الحكم بثبوت مقتضيه و هي المصلحة الداعية اليه، فان الحكم في مرتبة مصلحته له ثبوت اقتضائي بمعنى اقتضاء المصلحة له، و له ثبوت شأني في هذه المرحلة بمعنى ان الطبيعة ذات المصلحة لها الشأن و الاستعداد لان يتعلق بها الحكم المجعول على وفق مصلحتها.

ص: 20

.....

______________________________

الثانية: مرتبة الانشاء و هي التي يعبر عنها بمرتبة جعل القانون و هي المرتبة التي يكون الحكم قد انشأ و وجد بوجود انشائي و جعل من الامور المدونة، و الحكم في هذه المرتبة له وجود، بخلافه في المرتبة الاولى فانه بذاته لا وجود له و انما الموجود مقتضيه و مصلحته، و الحكم في هذه المرتبة و ان كان له وجود بإنشائه إلّا ان مجرد انشاء المعنى باللفظ ما لم يكن باعثا و محركا لا يكون طلبا بالحمل الشائع، و الحكم في هذه المرتبة ليس باعثا و لا زاجرا بحيث لو اطلع العبد على الحكم في هذه المرتبة لا يلزمه العقل بالحركة على طبقه، لعدم استحقاق العقاب على مخالفته في هذه المرتبة، لانها مرتبة حدها كون الحكم منشأ و مدونا و لم يقصد بعد به البعث و التحريك و ان يكون داعيا بالفعل للعبد للاتيان بمتعلقة، فلم يقصد مشرع هذا الحكم و منشؤه ان يحرك العبد به بالفعل، فلا يحكم العقل باستحقاق العقاب مخالفة الحكم و هو في هذه المرتبة و هذا الحد.

الثالث: مرتبة الفعلية و هي مرتبة كون الحكم باعثا و زاجرا و محركا للعبد لإتيان متعلقه، و هذه هي المرتبة التي يكون الحكم فيها طلبا بالحمل الشائع و بعثا جديا كذلك، و عليه ترتب جميع ما للحكم من الآثار، و لذا قال (قدس سره): «و خصصنا بالفعلي لاختصاصها بما اذا كان متعلقا به: أي ان القطع بالحكم بهذه المرتبة تترتب عليه جميع احكام القطع الآتية التي هي من آثار الحكم في هذه المرتبة.

الرابعة: مرتبة التنجز و هذه المرتبة ليست مرتبة يترقى الحكم اليها، كما ترقى من مرتبة الاقتضاء الى مرتبة الانشاء، و من مرتبة الانشاء الى مرتبة الفعلية، لان مرتبة التنجز هي عبارة عن كون العقل حيث يبلغ الحكم الى مرتبة الفعلية ينتزع منه انه منجز و انه يستحق العبد العقاب على مخالفته، فنسبة مرتبة الفعلية الى مرتبة التنجز نسبة منشأ الانتزاع الى ما ينتزع منه، فليست هذه المرتبة من مراتب ترقي الحكم، فان المولى اذا بلغ حكمه الى كونه قد توجه الى العبد محركا له للاتيان ينتزع العقل منه كونه منجزا و كونه يستحق العقاب على مخالفته.

ص: 21

المثوبة (1)، و ذلك لان الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر و لا نهي، و لا مخالفته عن عمد بعصيان، بل كان مما سكت اللّه عنه (2)،

______________________________

و لم يشر المصنف هنا الى المرتبتين الاوليين و لكنه اشار الى المرتبتين الاخيرتين بقوله: «ان التكليف ما لم يكر يبلغ مرتبة البعث و الزجر لم يصر فعليا» لان هذه المرتبة هي المرتبة التي يكون الحكم فيها فعليا «و ما لم يصر فعليا لم يكر يبلغ مرتبة التنجز و استحقاق العقوبة على المخالفة».

(1) توضيحه: ان استحقاق المثوبة بما هي اطاعة للامر الموجه الى العبد هي كاستحقاق العقاب على المخالفة انما تنتزع من الحكم البالغ مرتبة الفعلية، و لكن حيث كان الحكم في مرتبة الانشاء بل و في مرتبة الاقتضاء واجدا للمصلحة، و ما فيه المصلحة لا بد و ان يكون محبوبا فهو واجد للمحبوبية ايضا، و اتيان ما أحبه المولى قيام من العبد بمراسم العبودية و وظائف الرقية، و لذا كان يوجب موافقته استحقاق المثوبة، بخلاف استحقاق العقاب فانه مما يترتب على الطغيان و هتك حرمة المولى، و اتيان ما فيه المفسدة ما لم يزجر عنه المولى لا يكون اتيانه من العبد هتكا و طغيانا.

و تعبيره بربما لعله لان عدم بلوغ الحكم الى مرتبة الفعلية انما هو لمانع يمنع عن ذلك، و ربما كان مما يترتب عليه مفسدة فلا يكون اتيان ما فيه المصلحة محبوبا. نعم فيما كان المانع عن الفعلية هو التسهيل و امثاله كان اتيان ما فيه المصلحة محبوبا.

(2) حاصله: ما عرفت من ان الحكم في غير مرتبة الفعلية ليس طلبا بالحمل الشائع، و انما يكون طلبا بالحمل الشائع حيث يكون باعثا و زاجرا بالفعل، و هو مراده من قوله: «ما لم يبلغ تلك المرتبة» أي مرتبة الفعلية «لم يكن حقيقة بامر و لا نهي» فان كونه حكما حقيقة هو كونه حكما و طلبا بالحمل الشائع المنوط كونه كذلك بكونه امرا باعثا و نهيا زاجرا «و» هو في غير هذه المرتبة «لا» تكون «مخالفته عن عمد بعصيان» لعدم كون مخالفته هتكا للمولى و لا طغيانا عليه «بل» الحكم في مرتبة الانشاء فضلا عن مرتبة الاقتضاء «كان مما سكت اللّه عنه».

ص: 22

كما في الخبر (1)، فلاحظ و تدبر.

نعم، في كونه بهذه المرتبة موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدين أو المثلين، على ما يأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى، مع ما هو التحقيق في دفعه، في التوفيق بين الحكم الواقعي و الظاهري، فانتظر (2).

______________________________

(1) و هو المروي عن أمير المؤمنين عليه افضل الصلاة و السلام قال عليه السّلام: (ان اللّه تعالى حدد حدودا فلا تعتدوها، و فرض فرائض فلا تعصوها، و سكت عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا لها فلا تتكلفوها رحمة من اللّه لكم)(1).

(2) حاصله: انه بعد ان كان الحكم ذو الآثار هو البالغ مرتبة الفعلية، فمورد الوظائف المقررة للجاهل بالحكم هو مورد الشك بالحكم الفعلي كالبراءة الشرعية و هي رفع ما لا يعملون مثلا، و من الواضح ان لازم الشك بالحكم الفعلي احتمال وجوده، ففي مورد احتمال وجود الحكم الفعلي اللازم قد ورد الترخيص من الشارع، و لازم هذا احتمال اجتماع الحكم الفعلي اللازم مع الترخيص الفعلي فيه و هما متنافيان، و لا ريب في ان احتمال اجتماع المتنافيين محال كالعلم باجتماعها للزوم كون المحال معلوم العدم، و هذا هو الاشكال المعروف بلزوم اجتماع الحكم الواقعي و الظاهري في موارد الاصول بناء على جعل الحكم الظاهري في مواردها، و يلزم منه اجتماع المثلين فيما كان الحكم الظاهري موافقا للحكم الواقعي، و اجتماع الضدين فيما كانا متخالفين. و اما بناء على عدم جعل الحكم الظاهري في مورد الاصول، فالاشكال فيه: اما من ناحية منافاة اجتماع الحكم الفعلي اللزومي مع الترخيص فيه. او من جهة منافاة الترخيص فيه بما هو مشكوك فيه لحكم الاباحة فيه بما انها حكم واقعي له، و سيأتي الكلام في ذلك تفصيلا اشكالا و جوابا في مبحث

ص: 23


1- 1. ( 1) نهج البلاغة، الحكم 102.

الامر الثاني: التجري و الانقياد

اشارة

الأمر الثاني: قد عرفت أنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة، و المثوبة على الموافقة في صورة الاصابة (1)، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الاصابة على التجري بمخالفته، و استحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئا (2)؟

______________________________

الامارات ان شاء اللّه تعالى. و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «نعم في كونه» أي في كون الحكم «بهذه المرتبة» و هي الرتبة الفعلية «موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل» كرفع ما لا يعملون مثلا «اشكال» من حيث «لزوم» احتمال «اجتماع الضدين» فيما كان الحكم الفعلي لزوميا «او المثلين» فيما كان الحكم الفعلي الواقعي اباحة مثلا «على ما يأتي تفصيله ان شاء اللّه تعالى الى آخر الجملة».

(1) لا يخفى ان القطع قد يصيب الواقع و قد يخطئه، فمع اصابة القطع للواقع لا اشكال في استحقاق العقاب مع مخالفة العبد لامر المولى، و في استحقاق المثوبة في موافقته له و امتثاله لما امر به.

و انما الكلام في استحقاق العقاب في حال الخطأ بان يقطع العبد بأمر المولى فيخالفه و يكون قد اخطأ في قطعه، كما لو قطع بان هذا المائع المخصوص خمر مع علمه بحرمة شرب الخمر فشربه فكان ماء و تبين خطأه في قطعه، فهل يستحق العقاب ام لا؟ و كذا فيما لو قطع بأمر المولى و وافقه فانكشف خطأه و لم يكن للمولى امر فهل يستحق الثواب ام لا؟

(2) لا يخفى ان التجري لغة هي الجرأة على مخالفة المولى و هتك حرمته و الطغيان عليه سواء اصاب في قطعه ام أخطأ، و كذلك الانقياد لغة هو التزام العبد بمراسم العبودية و شئون الرقية في موافقته لأمر المولى سواء اصاب في قطعه ام أخطأ.

و لكن الاصطلاح استقر على اطلاق التجري على خصوص من خالف المولى و قد كان مخطئا في قطعه، و على اطلاق الانقياد على خصوص من وافق امر المولى و قد كان مخطئا في قطعه، و لذا قال (قدس سره): «فهل يوجب استحقاقها» أي

ص: 24

الحق أنه يوجبه، لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته، و ذمه على تجريه، و هتك حرمته لمولاه و خروجه عن رسوم عبوديته (1)، و كونه

______________________________

استحقاق العقوبة «في صورة عدم الاصابة على التجري بمخالفته» بحسب قطعه لا واقعا «و» هل يوجب «استحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته» ايضا بحسب قطعه لا واقعا «أو لا يوجب شيئا» أي لا يوجب التجري استحقاق العقاب و لا الانقياد استحقاق الثواب.

(1) استدل على استحقاق العقوبة على التجري و استحقاق المثوبة على الانقياد بالوجدان، و توضيحه: انه يتحصّل من كلام القوم اطلاق الوجدان على معنيين:

الاول: كون المطلق عليه الوجدان من مصاديق القضايا الوجدانية او الفطرية التي هي احدى الضروريات الست، فان الضروريات عندهم ست:

الاولى: البديهيات الاوليّة ككون الكل اعظم من الجزء، و كون السلب و الايجاب لا يجتمعان و لا يرتفعان.

الثانية: المشاهدات و تسمى الحسيات و هي المحسوسات بالحسّ الظاهري، ككون هذا الجسم اسود و ذاك ابيض، و هذا مرّ و هذا حلو أو حامض و هذا صوت مشتمل على الحروف الهجائية و هذا صوت لم يشتمل عليها.

او بالحس الباطني كالوجدانيات و هي ككون ان لنا علما بكذا و جهلا بكذا، و لنا شوق الى شي ء و ليس لنا شوق الى شي ء آخر.

الثالثة: الفطريات كانقسام الزوج الى متساويين، و هي المعبّر عنها بالقضايا التي قياساتها معها.

الرابعة: التجريبيات ككون هذا العقار نافعا، و ذاك العقار مسهلا و آخر سمّا، فانها ضرورة تحصل من التجربة.

الخامسة: المتواترات كحكمنا بوجود امريكا.

ص: 25

.....

______________________________

السادسة: الحدسيات ككون القمر نوره مستفاد من غيره، و هي ضرورة سببها اختلاف القمر في تشكيلاته الشهرية ابتداء و انتهاء، و لا اشكال ان مثل طريقية القطع و كاشفيّته من الامور الضروريّة الوجدانيّة.

و ربما يظهر من بعض الكلاميين ان الحسن و القبح العقليين من الضروريات الوجدانية لانفعال النفس بالظلم و العدوان و انبساطها بالعدل و الاحسان.

و قد ظهر من بعضهم انها من الفطريات و من القضايا التي قياساتها معها، الّا ان الانصاف انهما أي قاعدتي الحسن و القبح ليستا من الوجدانيات، اذ لا يختلف الناس في الوجدانيات فلا ينكر احد ان لنا علما و شوقا، و لا ينكر ايضا احد كاشفية القطع مع انه قد وقع الخلاف في القاعدتين.

و مما ذكرنا يتضح ايضا انهما ليستا من الفطريات، لما ذكرنا من عدم الاختلاف في الامور التي قياساتها معها كانقسام الزوج.

و دعوى انفعال النفس بالظلم و انبساطها بالعدل ففيها اولا: ان الظالم لا تنفعل نفسه بالظلم بل تنبسط به.

و ثانيا: ان هذا الانفعال و الانبساط انما هو لأثر القاعدتين عند العقلاء.

الثاني: اطلاق الوجدان على الامور التي بنى عليها العقلاء حفظا للنظام و ابقاء للنوع، و هي من المشهورات لا من الضروريات.

و المصرّح به في كلام جماعة من المحققين ان حسن العدل و قبح الظلم من القضايا المشهورة التي بنى عليها العقلاء، فان بناء العقلاء قد تم على مدح فاعل العدل و ذم فاعل الظلم حفظا للنظام و ابقاء للنوع، و ليست هي من الضروريات، و انما هي من المشهورات.

و على كل فالوجدان شاهد بان التجري و الانقياد من مصاديق قاعدة الحسن و القبح العقلي، لوضوح كون التجري على المولى هتكا لحرمته و طغيانا عليه و خروج من العبد عن رسوم العبودية و مراسيم الرقيّة لمولاه، و الانقياد محافظة على حرمة

ص: 26

بصدد الطغيان، و عزمه على العصيان، و صحة مثوبته، و مدحه على إقامته بما هو قضية عبوديته، من العزم على موافقته و البناء على إطاعته (1)، و إن قلنا بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة، ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة، بمجرد سوء سريرته أو حسنها، و إن كان مستحقا للوم أو المدح بما يستتبعانه، كسائر الصفات و الاخلاق الذميمة أو الحسنة.

______________________________

المولى و خضوع له و قيام من العبد برسم العبودية و مراسيم الرقية لمولاه، فالتجري من الظلم الذي يستحق فاعله الذم و العقاب، و الانقياد من العدل الذي يستحق فاعله المدح و الثواب.

و لا فرق بالوجدان بين المتجري المخطئ في قطعه و بين المخالف المصيب في قطعه في كون كل منهما واجدا لتمام ما يحصل به الهتك للمولى من قبل العبد، و كل منهما هاتك لحرمة مولاه و طاغ عليه من غير فرق، و كلاهما قد فعل ما يستحق مرتكبه للذم و العقاب من دون أي فرق بينهما، و مثله عدم الفرق بين المنقاد و المطيع و كلاهما قد فعل ما يستحق فاعله للمدح و الثواب.

(1) المراد من الطغيان الذي كان المتجري بصدده و من العصيان الذي عزم المتجري عليه، هو الطغيان بخصوص المخالفة في حال اصابة القطع، و العزم على العصيان المتحقق ايضا بخصوص المخالفة في مورد الاصابة، فان المتجري قد اتى بكل ما يمكن ان يتحقق منه فيما لو كان قطعه مصيبا للواقع، لوضوح كون اصابة الواقع و عدم اصابته ليست من افعال القاطع، فانه قد فعل مطابق ما يراه انه هو الواقع، فان كون ما فعله من الواقع أو ليس من الواقع ليس من افعال القاطع الآتي بما يراه انه من الواقع، ففي صدق عنوان الهتك و الظلم لا فرق بينهما اصلا.

و اتضح مما ذكرنا ان العزم الذي يتساوى فيه المتجري و العاصي هو العزم البالغ مرتبة التحريك للعضلات، دون العزم الذي لم يبلغ هذه المرتبة، و اليه يشير المصنف في كلامه الآتي.

ص: 27

و بالجملة: ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها إلا مدحا أو لوما، و إنما يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافا إلى أحدهما، إذا صار بصدد الجري على طبقها و العمل على وفقها و جزم و عزم، و ذلك لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك، و حسنها معه، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الاطاعة و العصيان، و ما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان (1).

______________________________

(1) توضيحه: هو ان المرتكب لما قطع بانه لا يرضى به مولاه انما نشأ ارتكابه له من ترجيحه باختياره لان يرجح و يفعل ما يوافق شهواته و ملائمات نفسه على تركه لرضا مولاه، و يكشف هذا الترجيح ان طبعه و سريرته تدعوه لان يرجح ما يرضى به نفسه على ما يرضى به مولاه.

و لا اشكال ان من له مثل هذا له طبع شرير و سريرة سيئة، و من الواضح ايضا ان نفس الطبع الشرير و السريرة السيئة ليس من مصاديق الظلم للمولى و الطغيان عليه و الهتك لحرمته، و قد عرفت ان الوجدان الحاكم باستحقاق الذم و العقاب انما يحكم على ما به هتك و ظلم للمولى، و انما يتحقق ذلك من العبد حيث يجري باختياره مرجحا لما يوافق طبعه على ما يوافق رضا مولاه، بأن يتحرك و يفعل غير مبال بان يكون هاتكا و ظالما.

و بعبارة اخرى: ان هنا ثلاث مراتب:

الاولى: ان يكون له طبع الشر و سوء السريرة من دون ان يكون له شوق و رغبة في الارتكاب، كمثل الذي لم ير الخمر و لم يسمع بها و لكنه كان بحيث لو رآها و عرفها و قدر عليها لشربها مع علمه بعدم رضا المولى بشربه لها.

الثانية: من يحصل له الشوق و الرغبة في الارتكاب، و لا يمنعه عدم رضا المولى بذلك و انما تمنعه موانع آخر كمثل ان لا يكون له مال يشتريها به.

ص: 28

.....

______________________________

و هاتان المرتبتان ليستا من مصاديق الظلم و الهتك، لوضوح عدم كونه متحركا بالفعل للظلم و الهتك، و ان كان له طبع شرير و سريرة سيئة و شوق و رغبة و لكنه لم يصدر عنهما التحريك بالفعل.

و هاتان المرتبتان متحققتان ايضا لمن له طبع خير و سريرة طيبة.

فانه ربما لا يكون له شوق الى الاطاعة لعدم أمر مولاه له أو لعدم علمه بأمره قصورا لا تقصيرا و كان بحيث لو علم لامتثل، و ربما يكون له شوق و رغبة و لكن يمنعه مثلا عدم دخوله تحت عنوان التكليف كغير المستطيع للحج و هو مشتاق و راغب في اتيانه.

و من الواضح: ان العبد الذي له طبع شرير و رغبة في ارتكاب ما لا يرضى به مولاه متصف بما يلام و يعاتب عليه و ان كان لا يستحق الذم و العقاب، و العبد الذي له طبع طيب و رغبة في الامتثال متصف بما يمدح و يثنى عليه، و لكنه لم يحصل منه ما يستحق به المثوبة على فعل بحيث يكون له بحسب وجدان العقل حق بالفعل عند مولاه.

الثالثة: مرتبة الجري و العمل على طبق العزم المحرك، و في هذه المرتبة يستحق المتجري الذم و العقاب و المنقاد المدح و الثواب، و اتضح مما ذكرنا انه هناك لوم من دون استحقاق العقاب، و ذم مع استحقاق العقاب، و مدح من دون استحقاق الثواب، و مدح مع الاستحقاق. و قد اشار الى المرتبتين الاوليين بقوله: «و ان قلنا بانه لا يستحق مؤاخذة او مثوبة ما لم يعزم على المخالفة او الموافقة بمجرد سوء سريرته» من له طبع شرير و رغبة في المخالفة و لم يتحرك اليها و لم يخالف لا يستحق عقابا «او حسنها» أي من له حسن السريرة و الطبع الطيب و الرغبة للامتثال و لم يفعل و لا يكون له موافقة فعلا فانه ايضا لا يكون له عند مولاه حق الثواب مستحقا له «و ان كان الاول مستحقا للوم او» الثاني يستحق «المدح بما يستتبعانه كسائر الصفات و الاخلاق الذميمة او الحسنة» أي ان المتصف بمحض الطبع الشرير و سوء

ص: 29

.....

______________________________

السريرة و المتصف بالطبع الطيب و حسن السريرة قد اتصف اولهما بالخلق الذميم و الثاني بالخلق الحسن، كمثل من له طبع البخل و طبع الكرم و طبع الجبن و الشجاعة و ساير الاخلاق و الملكات المستحسنة و المذمومة فانهما له واقع متحقق لهما اقتضاء الشر المستتبع للذم و اقتضاء الخير المستتبع للمدح، فانه من الواضح المشاهد أن لنفس الصفات و الملكات مرتبة من المدح و الذم بما هي صفات و ملكات من دون ان يصدر منهما ما يشاكلها من فعل الخير و فعل الشر، و لكنه محض المدح الذي لا استحقاق فيه للثواب و محض الذم الذي لا استحقاق فيه للعقاب، و لذا قال (قدس سره):

«و بالجملة ما دامت فيه صفة كامنة» لم يتحرك معها الى الفعل «لا يستحق بها الا مدحا او لوما» من دون استحقاق للجزاء بالثواب او العقاب و اشار الى المرتبة الثالثة بقوله: «و انما يستحق الجزاء بالمثوبة او العقوبة مضافا الى احدهما» أي مضافا الى استحقاق المدح او اللوم «اذا صار العبد بصدد الجري على طبقها» أي بصدد الجري على طبق تلك الصفة الكامنة «و العمل على وفقها و» لم يكن عمله عن غفلة و لا شعور بل كان عن «جزم و عزم و ذلك لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء سريرته من دون ذلك» أي من دون ان يجري على طبقها و يعمل على وفقها و ان حدث من سوء سريرته شوق الى الارتكاب و لكنه لم يرتكب «و حسنها معه» أي و حسن المؤاخذة مع الجري على طبقها و العمل على وفقها «كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال الى آخر الجملة»، فان الوجدان هو الحاكم المستقل في باب الاطاعة و العصيان سواء كان مستنده الفطرة او غيرها من الضروريات، او كان مستنده بناء العقلاء الذي هو من المشهورات.

و على كل فالوجدان هو الحاكم بالاستقلال في هذا الباب من دون مشاركة للشرع معه في الحكم، لوضوح ان حكم الشارع بما هو رئيس العقلاء ليس حكما منه بما هو شارع، و حكمه بما هو شارع مرجعه الى امره بذلك، و نفس امره يحتاج الى

ص: 30

و لكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح، و الوجوب أو الحرمة واقعا، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير ما هو عليه من الحكم و الصفة، و لا يغير جهة حسنه أو قبحه بجهة أصلا (1)، ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون

______________________________

حكم يلزم باطاعته و ليس هو الشارع ايضا لتسلسل الاحكام حينئذ فيتمحض الحكم للوجدان و العقل بذلك.

(1) لا يخفى ان القائلين باستحقاق العقاب على التجري لانه هتك و طغيان على المولى اختلفوا في كون معنونه هل هو الفعل المتجرى به، او انه نفس القصد و الارادة البالغة لتحريك العضلات و الجري و العمل على وفق ما قطع به دون مقدماتها من الجزم و العزم و بقية المقدمات التي سيأتي الاشارة اليها ان شاء اللّه.

و لا يخفى انه بناء على ان المعنون هو الفعل المتجرى به لا بد من الالتزام بعدم بقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه من عنوانه الواقعي، فلو كان واقعا واجبا قطع العبد بحرمته و تجرأ على ارتكابه بما هو حرام عنده، فلا بد و ان يكون الفعل الذي يستحق المتجري العقاب عليه لانه صار معنونا بعنوان الهتك لا يكون باقيا على ما هو عليه من كونه واجبا واقعا، لعدم معقولية العقاب على ما هو الواجب.

نعم يمكن الالتزام بكونه باقيا على عنوانه الواقعي غير المؤثر فعلا، و انما المؤثر فعلا هو العنوان الثانوي الطارئ عليه و هو عنوان التجري و الهتك للمولى المنطبق عليه فعلا.

و المصنف (قدس سره) اختار الثاني و هو كون المعنون بعنوان التجري المستحق للعقاب عليه هو القصد و الارادة المحركة للعضلات و الجري على وفق ما قطع بحرمته مثلا، و على هذا فلا داعي لتغير الفعل عما هو عليه لعدم انطباق عنوان عليه موجب لتغيره، فهو باق على ما هو عليه من عنوانه الحسن او القبيح الواقعيين و على ما هو عليه من الوجوب او الحرمة واقعا، فما قطع بكونه قبيحا و كان حسنا في الواقع باق

ص: 31

من الوجوه و الاعتبارات التي بها يكون الحسن و القبح عقلا و لا ملاكا للمحبوبية و المبغوضية شرعا، ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية و المحبوبية للمولى، بسبب قطع العبد بكونه محبوبا أو مبغوضا له.

فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له، و لو اعتقد العبد بأنه عدوه، و كذا قتل عدوه، مع القطع بأنه ابنه، لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا (1).

______________________________

على حسنه و لا يكون قبيحا، و ما قطع بكونه حراما و كان واجبا باق على وجوبه و لا يصير قبيحا و لا حراما عقلا بسبب كونه فعلا قد تجرأ به العبد على مولاه، لان العبد انما يستحق العقاب على ارادته و قصده اليه المحرك لعضلاته نحو الفعل و القصد هو المعنون بعنوان الهتك و الطغيان، و لذا قال (قدس سره): «و لكن ذلك» أي شهادة الوجدان الحاكم بصحة مؤاخذة المتجري لا يستلزم تغيير الفعل المتجرى به عن عنوانه الواقعي، لعدم صيرورة الفعل نفسه بواسطة التجري عنوانا للهتك، بل نلتزم بصحة المؤاخذة على العزم و الارادة و المثوبة عليهما ايضا «مع بقاء الفعل المتجرى به او المنقاد به على ما هو عليه من الحسن او القبح و الوجوب او الحرمة واقعا بلا حدوث تفاوت فيه» أي من دون تفاوت في نفس الفعل «بسبب تعلق القطع» به «ب» عنوان هو «غير ما هو عليه من» العنوان الذي له واقعا، و لا فرق بين ان يكون متعلق القطع «الحكم» كما لو قطع بوجوب الجمعة و كانت محرمة واقعا فتركها «و» بين ان يكون متعلق القطع «الصفة» كما لو قطع بخمرية مائع فشربه «و لا يغير جهة حسنه او قبحه بجهة اصلا» أي لا يغير القطع بحسنه قبحه الواقعي و لا يغير القطع بقبح الفعل حسنه الواقعي، فما للفعل من الجهة الواقعية باقية على ما هي عليها لا تتغير بسبب تعلق القطع بخلافها.

(1) هذا شروع في الاستدلال على كون الفعل المتجرى به ليس هو معنون عنوان الهتك و الظلم للمولى، فلا بد و ان يكون معنون عنوان الهتك هو الارادة، لوضوح

ص: 32

.....

______________________________

دورانه بينهما لان ما قبل الارادة ليس بهتك و لا طغيان كما مر، و اذا ثبت انه ليس هو الفعل المتجرى به يثبت انه الارادة.

و قد استدل عليه بدليلين:

الاول: ما اشار اليه بقوله: «ضرورة ان القطع بالحسن الى آخره».

و حاصله: ان تغير الفعل عما له من العنوان الواقعي لا يعقل ان يكون الا لاجل انطباق عنوان ثانوي عليه، و ليس للفعل عنوان ثانوي منطبق عليه سوى كونه متعلقا للقطع و كونه مقطوعا به، فالفعل الحسن واقعا المقطوع بقبحه فعلا لم يطرأ عليه الا عنوان كونه مقطوعا بقبحه بالفعل، فلا بد من ان يكون هذا العنوان الطارئ هو الموجب لتغيره عن عنوانه الواقعي.

و من الواضح: ان تغير الشي ء عما هو عليه لا يكون إلّا بنحوين: اما لكونه بسبب العنوان الثانوي يكون مصداقا من مصاديق العدل او الظلم.

او لكونه يكون بواسطة العنوان الطارئ ذا مفسدة او مصلحة بالفعل، و من البين ان القطع بقبح ما هو حسن واقعا لا يغير حسنه واقعا و يصيره قبيحا فعلا، فما هو عدل في الواقع لا يكون من الظلم بسبب القطع بكونه منه، لوضوح عدم صيرورته بواسطة القطع مما يوجب خللا في النظام بعد ان كان مما يستقيم به النظام واقعا.

و من الواضح ايضا ان القطع بمفسدة ما فيه المصلحة واقعا لا يجعله ذا مفسدة بالفعل ليوجب تغيره عما هو عليه من المحبوبية واقعا الى المبغوضية فعلا، لبداهة ان المصالح و المفاسد مما تترتب على ذوات الافعال من دون دخل للقطع بها في وجودها و عدمها.

فاذا عرفت انه ليس للفعل المتجرى به عنوان ثانوي في المقام غير عنوان القطع به على خلاف ما هو عليه، و قد تبين ايضا ان هذا العنوان لا يوجب تغير الا في عنوان العدل و الظلم الواقعيين و لا في المصلحة و المفسدة الواقعيتين ايضا- فلا مناص عن

ص: 33

هذا مع أن الفعل المتجرئ به أو المنقاد به، بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختياريا، فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالبا بهذا العنوان مما يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا؟ و من مناطات الوجوب أو الحرمة شرعا؟ و لا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية (1).

______________________________

الالتزام ببقاء الفعل المتجرى به على ما هو عليه من عنوانه الواقعي و ما له من مصلحة او مفسدة كذلك، و لا يتغير بسبب التجري به عما هو عليه مما له واقعا.

و قد اشار الى النحو الاول بقوله: «ضرورة ان القطع بالحسن او القبح لا يكون من الوجوه و الاعتبارات التي بها يكون الحسن و القبح عقلا» لما عرفت من كون ما ليس بمخل بالنظام واقعا لا يكون مخلا به فعلا بواسطة القطع بكونه مخلا به خطأ.

و قد اشار الى النحو الثاني بقوله: «و لا ملاكا للمحبوبية و المبغوضية شرعا ضرورة عدم تغير الفعل عما هو عليه من المبغوضية و المحبوبية للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوبا» و هو مبغوض للمولى واقعا «او» بسبب قطع العبد بكونه «مبغوضا له» أي للمولى و هو محبوب له واقعا، ثم ايضاحا لذلك مثل مثالا لبقاء الفعل على ما هو عليه واقعا سواء في الانقياد او التجري، و انه لا يتغير واقعا عما هو عليه بسبب القطع بخلاف ما له من عنوانه الواقعي و هو قوله «فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له و لو اعتقد العبد بانه عدوه» فقتله انقيادا له «و كذا قتل عدوه مع القطع بانه ابنه» فقتله العبد متجريا عليه «لا يخرج عن كونه محبوبا» للمولى لانه عدوه واقعا.

(1) هذا هو الدليل الثاني الذي اقامه على بقاء الفعل المتجرى به او المنقاد به على ما هو عليه مما له من العنوان الواقعي.

ص: 34

.....

______________________________

و حاصله: ان العناوين التي تكون موضوعا لاستحقاق العقاب و الثواب هي العناوين المنظورة بالاستقلال، دون العناوين التي كانت منظورة بما هي آلة للغير و لحاظها لحاظ آلي، لوضوح ان المنظور بالنظر الآلي غير مقصود بالذات و انما هو محض طريق الى غيره، و كثيرا ما لا يكون ملتفتا اليه، و لا بد ان يكون ما هو الموضوع في استحقاق الثواب و العقاب ملتفتا اليه دائما، لوضوح ان العقاب و الثواب على الافعال انما هو على الاختياري منها، و الاختيار منوط بالالتفات لوضوح ان الفعل المغفول عنه ليس من الافعال الاختيارية للفاعل المختار و انما هو من افعال الغافل دون المختار.

و من الواضح ايضا: ان من يحصل له القطع بشي ء يكون نفس ذلك الشي ء بما هو و بذاته حاضرا عنده لا بما هو مقطوع به، و كثيرا ما يغفل القاطع بشي ء عن الالتفات الى ذلك الشي ء بما هو مقطوع به و بما هو متعنون بهذا العنوان، و انما الملتفت اليه دائما عند القاطع هو نفس ذلك الشي ء بذاته و بعنوانه الخاص به دون عنوان كونه مقطوعا به.

و القائل بان معنون عنوان التجري و الانقياد هو الفعل المتجرى به و المنقاد به لا يلتزم بالتفصيل بين حال الالتفات و عدمه، و قد عرفت ايضا انه ليس في المقام عنوان للفعل غير عنوان ذاته من العناوين الثانوية الموجبة لكونه من مصاديق التجري او الانقياد الا عنوان كونه مقطوعا به، و هذا العنوان الثانوي لا يصح ان يكون من مصاديق التجري و الانقياد دائما، بل ربما يلتفت اليه و ربما لا يلتفت، بل الغالب ان يكون مما لا يلتفت اليه، و قد عرفت ان عنوان الموضوع الموجب لاستحقاق الثواب و العقاب لا بد و ان يكون ملتفتا اليه دائما لا طورا و طورا، لما عرفت من انه حال كونه مغفولا عنه لا يكون الفعل من الافعال الاختيارية، و ما لم يكن الفعل اختياريا لا يوجب استحقاق ثواب او عقاب و الى هذا اشار بقوله: «هذا مع ان الفعل المتجرى به او المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة و الوجوب لا يكون اختياريا» و انما

ص: 35

.....

______________________________

اختياريته بعنوانه الخاص بذاته، مثلا شرب الخمر بما هو شرب خمر له حكم الحرمة يقع بالاختيار من الشارب لانه ملتفت اليه بهذا العنوان الخاص به، و اما شرب الخمر الحرام بما هو مقطوع بحرمته لا يكون دائما من الافعال الاختيارية بهذا العنوان الثانوي و هو كونه مقطوعا بحرمته، لعدم الالتفات اليه غالبا بما هو مقطوع بحرمته، بل الملتفت اليه هو كونه شرب خمر حرام لا شرب حرام بعنوان كونه مقطوعا بحرمته «فان» من الواضح ان «القاطع لا يقصده إلّا بما قطع انه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي» و هو عنوان كونه شرب خمر حرام مثلا «لا بعنوانه الطارئ الآلي» و هو كون هذا الشراب مقطوعا بحرمته بعنوان كونه مقطوعا بها «بل لا يكون غالبا بهذا العنوان» الطارئ الآلي «مما يلتفت اليه».

ثم اشار الى انه ما لم يكن عنوان الموضوع ملتفتا اليه لا يكون معنونا بالعنوان الحسن او القبح عقلا و لا يكون واجبا او حراما شرعا بقوله: «فكيف يكون من جهات الحسن او القبح عقلا و من مناطات الوجوب او الحرمة شرعا»، ثم اشار الى المناط لكون الفعل المغفول عن عنوانه لا يكون حسنا و لا قبيحا و لا واجبا و لا حراما بقوله: «و لا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلّا اذا كانت اختيارية» و الفعل المغفول عن عنوانه بما هو مغفول عنه ليس من الافعال الماتي بها بعنوانها الاختياري.

و بعبارة اخرى: ان الماء المقطوع بكونه خمرا قد شربه المتجرى بعنوان كونه خمرا، و بهذا العنوان لم يكن، اذ ليس هو خمرا واقعا، بل هو ماء- مثلا- فبهذا العنوان لم يصدر منه فعل اختياري، اذ لم يكن خمرا و بعنوان كونه ماء لم يكن مقصودا اتيانه بهذا العنوان، و ما لم يكن العنوان مقصودا لا يكون حصول العنوان في الخارج امرا اختياريا للفاعل، فبالنسبة الى الخمرية و المائية لم يحصل منه فعل اختياري لعدم الخمرية و عدم قصد المائية، و بالنسبة الى عنوان كونه مقطوعا به قد عرفت انه مغفول عنه غالبا، فلم يصدر من المتجري فعل اختياري اصلا كما صرح بذلك المصنف في حاشيته على الرسائل، و سيأتي التعرض له في المقام ايضا.

ص: 36

إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع، و هل كان العقاب عليها إلا عقابا على ما ليس بالاختيار (1)؟

قلت: العقاب إنما يكون على قصد العصيان و العزم على الطغيان، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار (2).

______________________________

(1) حاصله: ان المتجري و هو القاطع المخطئ في قطعه من الواضح انه لم يشرب خمرا ليكون فاعلا لما هو الحرام واقعا و مخالفا للمولى بارتكابه للمنهي عنه واقعا، و انما شرب ماء لا خمرا، و شرب الماء بما هو مقطوع بكونه خمرا لا عقاب عليه لكونه غير اختياري بهذا العنوان غالبا كما مر، و لم يفعل المتجري الا فعلا واحدا و هو ليس بشرب للخمر واقعا و لا يستحق العقاب عليه بما هو مقطوع الخمرية، فلم يصدر من المتجري فعل يستحق عليه العقاب اصلا لعدم شربه الخمر، و لكون العقاب على شرب ما قطع بكونه خمرا عقابا على ما لا بالاختيار فلا وجه للقول باستحقاق المتجري للعقاب، و حيث ان المتجري هو المخطئ في قطعه فلا يكون ما شربه القاطع خمرا واقعا، و لوضوح هذا لم يشر اليه و انما اشار الى عدم عقابه على مخالفة القطع بما هو مخالفة القطع بقوله: «اذا لم يكن الفعل كذلك» أي اذا لم يكن الفعل معاقبا عليه بما هو مقطوع به «فلا وجه لاستحقاق المتجري العقوبة على مخالفة القطع» لكون مخالفة القطع بما هي مخالفة القطع غير اختيارية، و لذا قال: «و هل كان العقاب عليها الا عقابا على ما ليس بالاختيار».

(2) حاصله: ان العقاب ليس على الفعل حتى يرد هذا الاشكال من كون الفعل المتجرى به ليس بخمر واقعا و بعنوان كونه مقطوعا به ليس باختياري غالبا فلا وجه للعقاب، فان العقاب انما هو على قصد العصيان و العزم على الطغيان لا على الفعل المتجرى به حتى يرد الاشكال المذكور.

ص: 37

.....

______________________________

و لا يخفى ان مراد المصنف من العزم ليس هو العزم بحسب الاصطلاح في مقدمات الفعل الاختياري، بل مراده منه هو كونه بمعنى القصد و الارادة، فهو عطف تفسير على القصد، و اما العزم بحسب الاصطلاح فهو من مقدمات القصد و الارادة كما اشار اليه المصنف في حاشيته على الرسائل.

و حاصله: ان الفعل الاختياري مسبوق بمقدمات ست: تصوره، و التصديق بفائدته، و الجزم و هو عقد القلب على انه ينبغي صدوره و رفع موانع عدمه، و العزم و هو الشوق اليه غير البالغ حد الارادة، و الارادة و هي الشوق البالغ حد التحريك للعضلات، و تحريك العضلات اليه.

و بعضهم يعدها سبعا لانه يجعل بين تصوره و التصديق بفائدته ميل ما اليه و هيجان رغبة له ليدعوه الى النظر في فائدته و التصديق بها.

و على كل فالعزم بحسب الاصطلاح من مقدمات الارادة، لان كل مقدمة سابقة من هذه المقدمات هي كعلة للاحقها فهي كسلسلة علل و معلولات الى ان تنتهي الى الفعل الاختياري.

و على كل فالعزم بحسب الاصطلاح ليس هو الارادة، و لكن مراد المصنف من قوله و العزم على الطغيان المعطوف على قصد العصيان هو العزم بمعنى القصد و الارادة.

و حاصل الجواب: ان العقاب على ارادة الفعل المتجرى به دون نفس الفعل، فلا يرد الاشكال و لذا قال: «العقاب انما يكون على قصد العصيان و العزم على الطغيان لا على الفعل الصادر بهذا العنوان» أي بعنوان كونه مقطوعا به، فان الفعل بهذا العنوان الآلي يكون صدوره «بلا اختيار» و لا عقاب على الفعل حيث يكون صدوره بلا اختيار.

ص: 38

إن قلت: إن القصد و العزم إنما يكون من مبادئ الاختيار، و هي ليست باختيارية، و إلا لتسلسل (1).

قلت: مضافا إلى أن الاختيار و إن لم يكن بالاختيار، إلا أن بعض مبادئه غالبا يكون وجوده بالاختيار، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة و اللوم و المذمة (2).

______________________________

(1) حاصله: ان العقاب اذا كان على ما يصدر بالاختيار فكيف يمكن الالتزام بالعقاب على نفس ارادة الفعل المتجرى به، فان الارادة من مبادئ الفعل الاختياري و هي نفس الاختيار التي بها يكون الفعل اختياريا، و اما نفس الاختيار فلا يعقل ان يكون اختياريا و إلّا لزم التسلسل، لوضوح ان اختيارية نفس الاختيار اذا كانت موقوفة على الاختيار فننقل الكلام الى ذلك الاختيار التي صار نفس الاختيار الآخر به اختياريا، فانه لا فرق بين اختيار و اختيار، فاذا كان الاختيار الآخر محتاجا في اختياريته الى الاختيار فالاختيار السابق عليه مثله و هلم جرا فيلزم التسلسل، فلا يعقل ان يكون اختيارية الاختيار موقوفة على الاختيار، لان حكم الامثال واحد، و لذا قال: «ان قلت ان القصد و العزم انما يكون من مبادئ الاختيار» أي ان العزم و القصد من مبادئ الفعل الاختياري «و هي» أي مبادئ الفعل الاختياري نفسها «ليست باختيارية» أي لا يعقل ان تكون هي ايضا اختياريتها موقوفة على الاختيار «و إلّا لتسلسل» كما عرفت.

و الحاصل: ان الالتزام بالعقاب على نفس الارادة التي هي نفس الاختيار التزام بالعقاب على ما ليس بالاختيار، فلا يعقل ان يكون معنون الهتك و الطغيان نفس الارادة و القصد، لبداهة لزوم كون معنون الحسن و القبح أو الواجب و الحرام أمرا اختياريا.

(2) اجاب (قدس سره) عن الاشكال بجوابين: الاول: ما اشار اليه بقوله: مضافا، الثاني ما اشار اليه بقوله: يمكن ان يقال.

ص: 39

.....

______________________________

و حاصل الجواب الاول: ان الارادة و ان لم تكن بالاختيار للزوم التسلسل، إلّا انه يكفي في صحة العقاب على الامر غير الاختياري كون بعض مبادئه اختيارية و بعض مبادي الارادة اختياري غالبا بل دائما و هو التصديق بالفائدة، و الجزم الذي هو عقد القلب على دفع الموانع و سد ثغور العدم، فان العبد يمكنه ان يتأمل و لا يصدق بفائدة المحرم المنحصرة تلك الفائدة في ملائمتها لشهوته فقط، فانه اذا تأمل و عرف ما يترتب عليه من المضار و المفاسد و الهتك لمولاه و الطغيان عليه، و ما يستلزم ذلك من تبعات العقوبة و اللوم و الذم- لا يحصل له التصديق بفائدة ليس فيها سوى الملاءمة لشهوته فقط، و يمكنه ان يتأمل ايضا فلا يجزم بلزوم سد ثغور عدم هذا الشي ء الذي يترتب على وجوده مفاسد و هتك لمن لا ينبغي هتكه و الجرأة عليه، بل ينبغي اطاعته و القيام بمراسم العبودية، لانه بهتكه له يستحق العقاب من مولاه و اللوم و الذم من العقلاء.

و بالجملة: انه ليس كل ما لا بالاختيار لا يقتضي استحقاق العقوبة، بل اللااختيار الذي بعض مقدماته اختيارية مما يستحق فاعله العقاب عليه، و اللااختيار الذي لا يستحق فاعله العقاب هو اللااختيار الذي ليس له مقدمة اختيارية سواء لم تكن له مقدمة كنفس تصور الشي ء او تكون له مقدمة و لكنها غير اختيارية كالميل الجزئي المتعقب للتصور، و الى هذا اشار بقوله: «مضافا الى ان الاختيار و ان لم يكن بالاختيار» و إلّا لتسلسل فنفس الاختيار ليس اختياريا «إلّا ان بعض مبادئه غالبا» بل دائما مثل التصديق و الجزم «يكون وجوده» أي وجود بعض مبادئه مثل التصديق و الجزم «بالاختيار للتمكن من عدمه» أي للتمكن من عدم التصديق و الجزم «بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه» و ما بنى على ارتكابه «من» المفاسد ك «تبعة العقوبة و اللوم و المذمة» فيستطيع ان لا يصدق و لا يجزم بارتكاب ما يترتب عليه تلك التبعات. هذا حاصل الجواب الاول و لا بد من التأمل فيه جدا،

ص: 40

يمكن أن يقال: إن حسن المؤاخذة و العقوبة إنما يكون من تبعة بعده عن سيده بتجريه عليه (1)، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة، فكما أنه يوجب البعد عنه، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة، فانه و إن لم يكن باختياره (2) إلا أنه بسوء سريرته و خبث باطنه،

______________________________

لان الالتزام بعقاب المتجري على نفس الفعل المتجرى به أو بعدم العقاب على المتجرى اصلا هو اهون من هذا الالتزام.

و حيث كان مبنى هذه التعليقة مقصورا على توضيح ما افاده دون النقض و الابرام لذا اعرضنا عن التعرض لما يمكن ان يرد عليه نقضا و حلا.

(1) هذا هو الجواب الثاني و حاصله: ان العقاب انما يقبح على ما لا بالاختيار فيما كان ذلك راجعا الى المولى او الى شخص آخر، بان يقهر المولى عبده و يقسره على الفعل، او يقهره و يقسره عليه شخص آخر، مثلا ان يغل يديه و يفتح فمه و يوجر الخمر في فمه.

و اما اذا كان عدم الاختيار في العبد راجعا الى نفس العبد فلا مانع من صحة عقابه و ان كان لا اختيار له، لان مرجع عدم اختياره الى نفسه لا الى غيره، و عدم صحة عقاب غير المختار انما هو فيما اذا كان لا اختياره راجعا الى غيره، و المقام من قبيل الثاني، فان عدم اختيارية ارادة العبد ترجع الى نفسه لا الى غيره، فان سببها سوء سريرته و خبث باطنه و نقصانه و استعداده ذاتا بحسب هذا النقصان لجرأته على مولاه.

(2) يحتمل ان يكون مراده من هذه العبارة هو ان العقاب انما هو على التجري على المولى سواء في المصادفة و المخالفة لعصيان في مقام اصابة القاطع في قطعه او في صورة عدم اصابته في قطعه، فان تجري العبد و هتكه لمولاه و طغيانه عليه في كليهما على حد سواء، ففي صورة الاصابة انما يستحق العقاب على تجريه و في صورة الخطأ ايضا يستحق العقاب على تجريه، و لا خصوصية للمصادفة و عدم المصادفة.

ص: 41

بحسب نقصانه و اقتضاء استعداده ذاتا و إمكانا، و إذا انتهى الامر إليه يرتفع الاشكال و ينقطع السؤال بلم فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات.

و بذلك أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر و العاصي الكفر و العصيان؟ و المطيع و المؤمن الاطاعة و الايمان؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم يكون ناهقا؟ و الانسان لم يكون ناطقا؟

و بالجملة: تفاوت أفراد الانسان في القرب منه- جل شأنه و عظمت كبرياؤه- و البعد عنه، سبب لاختلافها في استحقاق الجنة و درجاتها، و النار و دركاتها، و موجب لتفاوتها في نيل الشفاعة و عدم نيلها، و تفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيا، و الذاتي لا يعلل (1).

______________________________

و يحتمل ان يكون مراده منها ان القوم يلتزمون بصحة عقاب العاصي، و لا فرق بين العاصي و المتجري الا بالمصادفة و عدم المصادفة، و هي ليست من الامور الاختيارية، و ان كان سيأتي منه ما ينافي هذا الاحتمال، لصدق عنوان المخالفة على العاصي دون المتجري لا لعنوان المصادفة لان المخالفة اختيارية و ان لم تكن المصادفة كذلك.

(1) هذا تصريح منه (قدس سره) بصحة العقاب على ما لا بالاختيار اذا انتهى الى سوء السريرة، و لا بد من التأمل فيه و في ما بعده من عبارته (قدس سره) فانه بظاهره مناف لضروريات مذهب الامامية.

لا يخفى ان المصنف انما التزم بان العقاب يصح ان يكون على ما لا بالاختيار، لتنزله عن الجواب الاول و هو ان الارادة و ان كانت غير اختيارية إلّا ان بعض مقدماتها اختيارية كالجزم و العزم، و اذا كان لغير الاختياري مقدمات اختيارية صح العقاب عليه كوضع السم في الطعام، فان الموت المتسبب عن اكل السم و ان لم يكن من افعال الواضع للسم بالمباشرة فهو غير اختياري له، و لكن لما كان وضع السم من الامور الاختيارية للواضع و هو مقدمة يترتب عليها استعمال السم القاتل صح

ص: 42

.....

______________________________

العقاب للواضع للسم على موت المستعمل للسم، لان مقدمة الموت بالسم اختيارية للواضع.

و المصنف بعد تنزله عن هذا الجواب و التزامه بصحة العقاب على الارادة و ان كانت غير اختيارية دون الفعل المتجرى به التزم بصحة العقاب على ما لا بالاختيار و انه من لوازم البعد عن المولى، و البعد عن المولى من لوازم خبث السريرة، و خبث السريرة ذاتي و الذاتي لا يعلل، و هذا مخالف بظاهره لما هو من ضروريات مذهب الامامية من انه لا عقاب على ما لا بالاختيار، و لا يصح العقاب عند الامامية الا على الفعل الاختياري و لا ينبغي الالتزام بذلك، بل يمكن الالتزام بالعقاب على نفس الفعل المتجرى به دون الارادة كما التزم به جماعة من المحققين.

و ما اورده المصنف عليهم يمكن الجواب عنه فان ما اورده عليهم يتلخص في ايرادات ثلاثة:

الاول: ان الواقع انما يتغير عن حكمه الواقعي للعنوان الثانوي و ينحصر في امرين انطباق عنوان الظلم عليه او طروء مفسدة عليه بواسطة عنوان ثانوي، و ليس في المقام الا عنوان كونه مقطوعا به، و القطع بقبح شي ء ليس بقبيح واقعا لا يصيره قبيحا و لا يوجب ايضا طروء مفسدة عليه.

الثاني: ان عنوان كونه مقطوعا به مغفول عنه غالبا، و الفعل الاختياري الذي يصح العقاب عليه لا بد و ان يكون ملتفتا اليه، لان غير الملتفت اليه ليس باختياري.

الثالث: ان بعض انواع التجري لا يكون فيه فعل اختياري صادر من المتجري، كمن شرب مائعا لانه قطع بكونه خمرا و كان في الواقع ماء، لان شرب الخمر الذي قصده المتجري لم يقع منه، و شرب الماء الذي صدر منه لم يكن مقصودا له، و لا بد في الفعل الاختياري ان يكون مقصودا للفاعل، و القائل بالعقاب على الفعل المتجري به لا يفرق بين انواع التجري.

ص: 43

ان قلت: على هذا فلا فائدة في بعث الرسل و انزال الكتب و الوعظ و الانذار.

قلت: ذلك لينتفع به من حسنت سريرته و طابت طينته لتكمل به نفسه و يخلص مع ربه انسه ما كنا لنهتدي لو لا ان هدانا اللّه، قال اللّه تبارك و تعالى: فذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين، و ليكون حجة على من

______________________________

و الجواب عن الايرادين الاولين: ان العنوان المنطبق على الفعل المتجرى به الموجب لصحة العقاب عليه ليس هو عنوان كونه مقطوعا به، بل هو لان ما اتى به مصداق عنوان الهتك و الطغيان على المولى، و من الواضح ان المتجري قد اتى بالفعل مع التفاته الى ان فعله هتك لحرمة المولى و طغيان عليه، فينطبق على فعله عنوان الظلم الموجب لصحة العقاب على نفس الفعل، و ليس هذا العنوان مغفولا عنه بل هو ملتفت اليه دائما، و بهذا يرتفع الايرادان الاول و الثاني، لانهما انما يردان حيث يكون العنوان عنوان كونه مقطوعا به.

و الجواب عن الثالث: انه قد صدر من المتجري فعل اختياري لوضوح انه قد صدر منه شرب باختياره، غاية الامر انه اخطأ في تطبيق عنوانه و الخطأ في التطبيق لا يرفع الاختيارية، لان اختيارية الفعل هي كون الفاعل يحرك عضلاته نحو الفعل باختياره لا بقسر قاسر يقسره على الفعل و لا ان يكون فاعلا بالطبع كحركة الجسم النامي في نموه، و من الواضح ان فعل المتجري لم يكن لقسر قاسر و ليست حركة طبيعية له، فلا بد و ان تكون حركة اختيارية.

و لو تنزلنا فقلنا ان هذا النوع من فعل المتجري من الافعال القسرية غير الاختيارية، فالالتزام بالتفصيل في فعل المتجري و عدم العقاب على هذا النوع من التجري اهون من الالتزام بما ينافي ما هو من ضروريات مذهب الامامية و لا بد من تأويل ما دلالته من الآيات و الروايات على ذلك.

ص: 44

دلالة الآيات و الروايات على استحقاق المتجري للعقاب

ساءت سريرته و خبثت طينته ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة كيلا يكون للناس على اللّه حجة بل كان له حجة بالغة.

و لا يخفى أن في الآيات و الروايات، شهادة على صحة ما حكم به الوجدان الحاكم على الاطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة و المثوبة (1)،

______________________________

(1) اما الآيات فمثل قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ 2] و قوله تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا(1) و قوله تعالى: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ 4] فان ظاهر هذه الآيات و امثالها هي المؤاخذة على ما لا بالاختيار، فان المحاسبة على ما في النفس و السؤال عما في الفؤاد و المؤاخذة بما كسبت القلوب كل ذلك على امر غير اختياري، لان ما في النفس و ما في الفؤاد و ما في القلوب من غير الاختياري.

و الجواب عنه: اولا ان ظواهر القرآن الكريم لا يمكن الأخذ بها مع قيام البرهان على ما لا يوافق ظواهرها، فان مثل وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(2) و مثل قوله عزّ و جل: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ 6] لا بد من تأويله بكون مجيئه تبارك و تعالى لا بد و ان يكون غير مجي ء الملك الذي هو من صفات ما له الجسم، و كذلك يداه فانه لا بد من تأويله لئلا يستلزم تجسيما عليه تبارك و تعالى عن ذلك.

و ثانيا: انه يمكن ان يكون المراد من المحاسبة على ما في النفس و السؤال عن ما في الفؤاد و المؤاخذة على ما كسبت القلوب هي محاسبة النفس و الفؤاد و القلب على العقد و الجزم، و البناء على ما ينافي ما قام البرهان على بطلانه و دعت الرسل الى التكذيب به كالعقائد الفاسدة و الاحتمالات الباطلة.

و من الواضح ان عقد القلب على العقائد الفاسدة من الامور الاختيارية، و على هذا فلا ربط له بالارادة المحركة للعضلات في المتجري.

ص: 45


1- 3. ( 2) الاسراء: 36.
2- 5. ( 4) الفجر: 22.

.....

______________________________

و اما الروايات فهي مثل ما ورد ان نية الكافر شر من عمله، و مضمون ما ورد من التعليل لخلود اهل النار بان عزمهم على الاستمرار في الكفر لو كانوا من المخلدين في الدنيا، فان نية الكافر و عزمه ليس من الافعال الخارجية و هما من الافعال النفسية و من الامور غير الاختيارية له.

و الجواب عنه: اما عن الرواية الاولى، فأولا: ان المدعى في المقام هو كون الارادة التي هي الجزء الاخير من العلة هي مصداق التجري و معنون الهتك و الطغيان دون الفعل المتجرى به، و ليس المراد من نية الكافر التي هي شر من عمله هي الارادة، لوضوح انه بناء على ما ذكره المصنف يكون المراد من العمل الذي هو شر ايضا و لكنه دون النية هو الارادة في مورد التجري، لما بينه من عدم الاستحقاق للعقاب على نفس الفعل في مورد التجري، و من المتسالم عليه عند الكل ان ما عدا الارادة من مقدماتها لا عقاب عليها فلا تكون هذه الرواية شاهدا على خصوص ما هو المدعى في المقام، و يشترك الطرفان في لزوم تأويل هذه الرواية.

و يمكن ان يكون السبب لكون نية الكافر شرا من عمله ان عمل الكافر في فعل المحرمات لا يختلف عن عمل الفاسق في فعلها بما هي من الاعمال، فان الكافر- مثلا- لا يصلي و الفاسق لا يصلي، و الكافر لا يزكي و لا يحج و الفاسق ايضا لا يزكي و لا يحج، فكلاهما على حد سواء من ناحية تركهما لما هو الواجب، و كذلك في فعل المحرم، فان الكافر يشرب الخمر و الفاسق يشربها ايضا، فشرب الخمر بما هو شرب خمر قد حصل من الكافر و الفاسق على حد سواء، و لكن الكافر يترك الواجبات و يفعل المحرمات مستحلا لها بانيا على انها ليست بواجبات و لا محرمات، بخلاف الفاسق فانه يفعلها مع بنائه على انه قد عصى اللّه فيها و ترك ما هو واجب عليه و فعل ما هو محرم عليه، و بسبب هذين البناءين اختلف الكافر و العاصي، و اتضح ان السبب في كون فعل الكافر محققا لكفره دون فعل العاصي انما هو لاجل بنائه في فعله على الاستحلال و هو الذي جعل فعله محققا لكفره عملا، فلذا كان بناؤه و نيته اشد

ص: 46

.....

______________________________

إثما من عمله الذي يشترك فيه مع العاصي، فنية الكافر انما كانت شرا من عمله لانها هي التي جعلت عمله من محققات كفره، و اما نفس عمله بما هو عمل ليس له بذاته هذا الاقتضاء.

و هناك اجوبة اخرى عن هذه الرواية تركناها مراعاة لعدم التطويل، فلتطلب من محالها ..

و لا يخفى انه مما ذكرنا ظهر الجواب عن اشكال آخر في الرواية، و هو انه لو سلمنا صحة العقاب على النية فلما ذا كان عقابها اشد من عقابه على العمل، لوضوح ان شدة الشر تستلزم شدة العقاب، و الرواية قد دلت على ان النية شر من العمل، فلا بد و ان يكون عقابها اشد من عقاب العمل، فانك قد عرفت ان شرية النية من العمل انما هو العمل بسببها صار مصداقا و محققا للكفر، فالعقاب على العمل الذي به تحقق الكفر لا على النية، و لكن حيث كان السبب فيه هي النية لذا كانت شرا من نفس العمل بما هو عمل.

و اما الرواية الثانية، فحاصله: انه ايضا ليس المراد من العزم المستوجب للخلود هو الارادة، لوضوح انه لم يخلد في الدنيا حتى تكون له ارادة خالدة بخلوده، و انما كان له بناء على انه لو خلد في الدنيا لاستمر كفره و طغيانه، فلا بد من تأويل هذه الرواية المنافية لقيام الاجماع و النصوص و بناء العقلاء على عدم العقاب على مقدمات الارادة.

و يمكن ان يقال في تأويلها: ان المراد من كون بناء الكافر على الاستمرار على الكفر موجبا لخلوده في النار هو الكناية عن ان الكافر اذا مات على الكفر بانيا عليه فقد مات على صحيفة مظلمة سوداء خالية عن أي نور يربطه باللّه، فخلوده في النار لا لعدم الاقتضاء من ناحية نور رحمة اللّه، بل لعدم القابلية من ناحية الكافر فان أفقه لا قابلية له لان يكون مطلقا لنور الرحمة و محلا للتفضل و التكرم من قدس الفضل و اللطف، فنية الكافر و بناؤه على الاستمرار على الكفر و الطغيان منعه عن ان

ص: 47

و معه لا حاجة إلى ما استدل على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله:

إنه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته و اختياره، مع بطلانه و فساده (1)، إذ للخصم أن يقول بأن استحقاق

______________________________

يكون محلا لفيض الرحمة و اللطف، فلذا كان خلوده في النار مسببا عن ذلك البناء الذي هو السبب في ختم صحيفته مقطوعة الربط عنه تبارك و تعالى، بخلاف العاصي المقترف للذنب بسبب شهوته و هو مؤمن و معترف بان هناك دارا و حشرا يستحق العاصي فيها العقاب على ذنوبه، فانه لا بد و ان لا تنقطع العصمة بينه و بين اللّه، و من الضروري ان يكون دائما خائفا من ذلك اليوم الذي يقف فيه للحساب بين يديه، فلا تكون مختومة بسواد لا ألق فيه و ظلام لا نور فيه، فهو محل للفضل و الرحمة، فلا يعقل ان يخلد في العقاب بعد ان كان فضل اللّه و رحمته تام الاقتضاء وافق العاصي قابل لانبثاق ذلك النور، نسأله تعالت عظمته و غلبت قدرته و رحمته ان لا يحرمنا من لطفه و فضله و هو ارحم الراحمين.

و انما تعرضنا لخصوص ما ذكرنا من الآيات و الروايات مع ان هناك روايات و آيات أخر لذكرها بالخصوص في بعض حواشي الكتاب.

و على كل فبعد قيام الاجماع مؤيدا بكثير من الآيات و الروايات ايضا و بناء العقلاء على عدم الاستحقاق في مقدمات الارادة فلا بد من تأويل ما دل على خلاف ذلك.

(1) لا يخفى ان المنفصلة الآتية التي استدل بها على عقاب المتجري نتيجتها ثبوت العقاب على الفعل المتجرى به دون الارادة و العزم كما هو رأي المصنف، فالمستدل بها و ان وافق المصنف في استحقاق المتجري للعقاب، لكنه خالفه في كونه على نفس الفعل المتجرى به دون الارادة.

ص: 48

.....

______________________________

و على كل فقد استدل على عقاب المتجري بهذه المنفصلة المشتملة على شقوق اربعة، و بعد بطلان ثلاثة منها يتعين الشق المدعى و هو استحقاق المتجري للعقاب كالعاصي المصيب في قطعه.

و بيانها ان نفرض ان هناك شخصين و ما يعين قطع كل منهما بخمرية مائع منهما فشرب كل منهما المائع الذي قطع بخمريته فصادف احدهما بقطعه الواقع و كان ما شربه خمرا واقعا، و أخطأ الآخر في قطعه فكان ما شربه ماء، فلا يخلو الحال بالنسبة اليهما عن شقوق اربعة:

لانهما اما ان لا يصح عقابهما معا.

او يصح عقابهما معا و هو المدعى.

او يصح عقاب المتجري و هو المخالف للواقع في قطعه دون المرتكب للحرام و هو المصيب في قطعه.

او انه انما يصح عقاب المصيب في قطعه دون المتجري الذي خالف قطعه الواقع، كما يدعيه المنكر لاستحقاق المتجري للعقاب.

و لا يخفى انه لا سبيل للاول و هو عدم صحة عقابهما معا لتظافر العقل و النقل على استحقاق المرتكب للحرام و هو المصيب في قطعه لطغيانه على مولاه و هتكه لحرمته، و ارتكابه ما هو المنهي عنه المبغوض للمولى واقعا.

و منه يظهر: انه لا سبيل الى الشق الثالث بالاولوية و هو عقاب المتجري دون المصيب.

و يبقى الشق الثاني و هو عقابهما معا و هو المدعى، و الشق الرابع و هو عقاب خصوص المصيب دون المتجري باطل فيتعين الشق الثاني و بطلان الرابع، بان نقول ان استحقاق المصيب في قطعه دون المتجري لازمه اناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار و هو باطل، و ما يستلزم الباطل باطل ايضا و هو استحقاق خصوص المصيب دون المتجري.

ص: 49

.....

______________________________

و توضيحه: ان المتجري و المصيب متساويان في جميع ما صدر منهما بالاختيار، فان المصيب قاطع و المتجري قاطع ايضا، و المصيب اقدم على ارتكاب ما علم بانه منهي عنه و مبغوض لمولاه و المتجري مثله ايضا، و ان كلا منهما قد شرب باختياره ما اعتقد بكونه خمرا حراما، و لا فرق بينهما الا في كون احدهما صادف في قطعه الواقع و الآخر و هو المتجري لم يصادف قطعه الواقع، و من الواضح ان المصادفة و عدم المصادفة مما ليست تحت اختيارهما معا، لوضوح ان مطابقة ما شربه لكونه خمرا في الواقع ليست معلولة لقطعه بكونه خمرا، اذ لو كان قطعه علة لذلك لما تحقق مصداق للتجري اصلا، و من الواضح ان شربه بما هو شرب ليس علة لخمرية الخمر في الواقع، كما ان عدم المطابقة للواقع في فعل المتجري ايضا ليست باختياره و هو واضح جدا، لبداهة انه كان معتقدا المطابقة لا لعدم المطابقة، فالمصادفة و عدم المصادفة لا يعقل ان تكون هي السبب في الاستحقاق و عدم الاستحقاق بعد ما عرفت من كونهما امرين غير اختياريين بالنسبة اليهما معا.

و بعد ما ظهر ان المصيب و المتجري متساويان في كل ما صدر منهما بالاختيار، و الفرق بينهما انما هو في الخارج عن اختيارهما و هو المصادفة و عدمها.

يتبين ان القول بالتفصيل في استحقاق خصوص المصيب للعقاب دون المتجري لازمه اناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار، فان المصيب لا يختلف عن المتجري الا في كون ما قطع به صادف الواقع و لم يصادفه فعل المتجري، فتخصيص استحقاق العقاب بخصوص المصيب دون المتجري مرجعه الى اناطة استحقاق العقوبة في المصيب بما هو خارج عن اختياره، و هو بديهي البطلان، لعدم امكان استحقاق اناطة العقوبة بما لا بالاختيار، فما يستلزم هذا اللازم الباطل و هو القول بالتفصيل باستحقاق خصوص المصيب للعقاب دون المتجري باطل ايضا، و بعد بطلان هذا الشق كالشقين السابقين يتعين الشق الثاني و هو استحقاقهما معا للعقاب.

ص: 50

.....

______________________________

و قد تعرض المصنف في عبارته التي اشار فيها الى هذا الاستدلال لخصوص شق التفصيل دون الشقين السابقين، و هو عدم عقابهما معا و عقاب خصوص المتجري دون المصيب، لوضوح بطلانهما، و هذه عبارته التي اشار بها الى هذا الاستدلال «انه لولاه» أي ان الامر يكون مرجعه لو لا استحقاق المتجري للعقاب بان نقول بعدم استحقاقه له «مع استحقاق العاصي له» أي للعقاب دون المتجري الى ما «يلزم» منه «اناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار» لما هو واضح «من» كون «مصادفة قطعه» من الامور «الخارجة عن تحت قدرته و اختياره مع بطلانه و فساده» أي مع بطلان و فساد اناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار.

و لا يخفى ايضا ان نتيجة هذا الاستدلال بهذه المنفصلة هو كون العقاب في المتجري على الفعل المتجرى به للتصريح بكونهما متساويين في جميع ما صدر منهما بالاختيار، و هو الفعل الذي صدر من كل منهما باختياره و هو شرب المائع، غايته انه كان في المصيب شرب خمر و في المتجري شرب ماء، و لهذه الجهة تعرض المصنف لرده:

اولا: بما اشار اليه بقوله: «و معه لا حاجة الى ما استدل الى آخره» و حاصله: ان الاستدلال الصحيح على استحقاق المتجري للعقاب و انه لا فرق بينه و بين العاصي ما ذكرناه من تساويهما فيما به الطغيان و الظلم للمولى و هو الإرادة دون الفعل، لما اورده عليه من انحصار العنوان الثانوي بكونه مقطوعا به، و قد تقدم منه الايراد عليه، و مع تمامية ما ذكرناه من الاستدلال على عقابهما معا على العزم و الإرادة دون الفعل المتجرى به لا حاجة الى هذا الاستدلال الذي لازمه كون عقابهما على الفعل في العاصي و على الفعل المتجرى به في المتجرى.

ص: 51

العاصي دونه، إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه، و هو مخالفته عن عمد و اختيار، و عدم تحققه فيه لعدم مخالفته أصلا، و لو بلا اختيار (1)،

______________________________

(1) هذا هو الرد الثاني لهذا الاستدلال، و حاصله: انه للقائل بالتفصيل ان يقول ان العاصي و المتجري لم يتساويا في جميع ما صدر منهما بالاختيار، و انه لا فرق بينهما الا في المصادفة و عدم المصادفة و هي غير اختيارية، بل هناك امر اختياري صدر من العاصي و لم يصدر من المتجري و هو المخالفة عن عمد، فان المخالفة عن عمد قد صدرت من العاصي باختياره، فانه قد قصد المخالفة لمولاه متعمدا، و قد وقعت منه هذه المخالفة، و لم تقع هذه المخالفة عن عمد من المتجري، لوضوح انه لم يصادف الواقع فلم تقع المخالفة منه و ان كان قد قصدها، و ليس العقاب منوطا بعنوان المصادفة الذي هو غير اختياري، بل هو منوط بعنوان المخالفة من عمد الذي هذا العنوان متحقق في العاصي دون المتجري.

نعم المصادفة غير الاختيارية صارت سببا لتحقق العنوان الاختياري المقصود للفاعل في فعله، و لا مانع من ان يكون هناك امر غير اختياري محققا لما هو المقصود بالاختيار و هو موجود في ساير الامور الاختيارية، فان القاصد لقتل شخص و ازهاق نفسه ربما تتوسط بين ما يعده القاتل لازهاق نفس المقتول و بين الازهاق كثير من الامور غير الاختيارية، كمثل ان تصيب الآلة- مثلا- مقتلا منه و ان ينزف دمه او انه ربما لا تصيب الآلة مقتلا و لكن كان المضروب محتاجا الى طبيب و لم يحصل الطبيب، و امثال هذه الاشياء، فان كونها غير اختيارية للقاتل لا تمنع من صدق كونه قاصدا للقتل و الازهاق و قد فعله و استند اليه عن عمد و اختيار، فالمصادفة و ان لم تكن باختيار العاصي إلّا انه قد تحقق منه العنوان المقصود له بالاختيار و هو المخالفة للمولى عن عمد، و ان صارت المصادفة سببا لتحققه.

و على كل فقد كان هناك شي ء لم يتساو فيه العاصي و المتجري، و هو امر اختياري قد صدر من العاصي و لم يصدر من المتجري، و ان كان عدم صدوره من

ص: 52

بل عدم صدور فعل منه في بعض افراده بالاختيار، كما في التجري بارتكاب ما قطع أنه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع مثلا بأن مائعا خمر، مع أنه لم يكن بالخمر (1)، فيحتاج إلى إثبات أن

______________________________

المتجري لا يرجع الى اختياره، إلّا ان صدوره من العاصي كان بالاختيار و هو المخالفة عن عمد، و هذا هو المناط لاستحقاق العقاب في العاصي دون المتجري، لانه شرب الخمر المنهي عن شربها و لم يشربها المتجري و ان قصد شربها، و الى هذا اشار بقوله: «اذ للخصم ان يقول» بعدم مساواة العاصي و المتجري مما هو مناط استحقاق العقاب مع كونه من الامور الاختيارية و هو المخالفة عن عمد و لذلك كان له ان يقول «بان استحقاق العاصي دونه» أي دون المتجري «انما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه» أي في العاصي «و هو مخالفته عن عمد و اختيار و عدم تحققه» أي و عدم تحقق هذا السبب و هو المخالفة عن عمد «فيه» أي في المتجري «لعدم مخالفته اصلا و لو بلا اختيار» أي و لو كان عدم مخالفته مسببة عن عدم اختياره لفرض كونه كان قاصدا للمخالفة، و حيث لم يصادف في قطعه لم تحصل منه المخالفة، فعدم حصولها منه كان امرا غير اختياري له، إلّا انه على كل حال لم تصدر منه مخالفة عن عمد التي هي المناط في استحقاق العقاب.

(1) حاصله، ان المتجري تارة: يتجرى في الحكم بان يعتقد- مثلا- ان التصوير حرام فيفعله و ينكشف كونه مكروها لا محرما، فيكون قد صدر منه فعل بالاختيار و هو التصوير إلّا انه لم يكن ما صدر منه حراما واقعا، فالمتجري هنا فاعل مختار فيما فعله و هو التصوير، غايته انه كان يعتقد ان ما فعله باختياره حرام فانكشف خطأه، و ان ما فعله بالاختيار لم يكن حراما واقعا.

و اخرى: يتجرى في الموضوع بان يعتقد ان هذا المائع خمر فيشربه، فان الحكم و هو كون الخمر حراما ما لم يقع خطأ فيه، و انما وقع الخطأ في موضوع هذا الحكم و هو الخمر، فلم يكن ما شربه خمرا، و المتجري في الموضوع لم يصدر منه فعل

ص: 53

المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية، كما عرفت بما لا مزيد عليه (1).

______________________________

اختياري اصلا لان ما شربه لم يكن شرب خمر الذي هو العنوان المقصود للفاعل، و شرب الماء و ان صدر منه إلّا انه لم يكن مقصودا منه، و الفعل الاختياري هو الصادر من الفاعل بعنوانه مقصودا له و ملتفتا اليه، و شرب الماء لم يكن مقصودا له و لا ملتفتا اليه، فما قصده في فعله لم يقع منه، و ما فعله لم يكن مقصودا منه، فلم يصدر من المتجري في الموضوع فعل بالاختيار اصلا، و الى هذا اشار بقوله: «بل عدم صدور فعل منه في بعض افراده بالاختيار» و هو المتجري في الموضوع و ذلك «كما في المتجري بارتكاب ما قطع انه من مصاديق الحرام كما اذا قطع مثلا بان مائعا خمر» فشربه «مع انه لم يكن بالخمر» فشرب الخمر لم يقع و شرب الماء غير مقصود و لا ملتفت اليه فلم يقع من المتجري هنا فعل اختياري اصلا.

(1) مراده (قدس سره): انه لو كان الاستدلال على عقاب المتجري بالمنفصلة المذكورة التي لازمها كون العقاب في التجري على الفعل المتجري به، لكان لازمه التفصيل في المتجري بين المتجري في الحكم و المتجري في الموضوع، لوضوح عدم صحة العقاب على الافعال غير الاختيارية، و المتجري في الموضوع لم يصدر منه فعل اختياري، فالقول بعقاب المتجري مطلقا سواء كان في الحكم او في الموضوع لا بد له من اقامة دليل آخر غير المنفصلة لاثبات ذلك، بحيث يكون مؤدى ذلك الدليل هو ان المخالفة الاعتقادية مطلقا كالمخالفة الواقعية، و الى هذا اشار بقوله: «فيحتاج» أي القائل بعقاب المتجري مطلقا «الى اثبات ان المخالفة الاعتقادية» المتحققة في مطلق التجري هي «سبب» للعقاب «ك» المخالفة «الواقعية».

و حيث ان المصنف قد اقام الدليل على عقابه مطلقا لكون مصداق الهتك و الطغيان عنده هي الارادة و العزم الموجودة في المخالفة الاعتقادية و المخالفة الواقعية على حد سواء، لذلك قال (قدس سره): «كما عرفت بما لا مزيد عليه» فالمنفصلة

ص: 54

كلام صاحب الفصول في تداخل العقابين و الايراد عليه

ثم لا يذهب عليك: إنه ليس في المعصية الحقيقية إلا منشأ واحد لاستحقاق العقوبة، و هو هتك واحد، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم، مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلا عقوبة واحدة، كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما، كما لا يخفى (1).

______________________________

المذكورة لا تصلح دليلا لا مكان الخدشة فيها بوجود الفرق بين العاصي و المتجري، و لكونها لا تصلح ايضا لاثبات العقاب لمطلق المتجري.

(1) لا يخفى ان صاحب الفصول التزم في المعصية الحقيقية بتداخل العقابين فيها، و السبب في هذا الالتزام هو كون الموجب لاستحقاق العقاب عنده امرين: التجري، و المخالفة العمدية، و قد عرفت في اول هذه المسألة ان التجري- حقيقة- هو اظهار هتك المولى و الطغيان عليه، و هذا موجود في العاصي المصيب في قطعه و في المخطئ في قطعه، و لكن التعبير الاصطلاحي قد خصصه بخصوص المخطئ في قطعه، فاذا كان التجري بما هو تجر حقيقة لا اصطلاحا موجبا لاستحقاق العقاب، و المخالفة العمدية ايضا موجبا آخر لاستحقاق العقاب لانها فعل ما هو مبغوض المولى، و ان منطبق التجري هو الفعل المتجرى به دون العزم و الارادة، فلازم هذه الامور كون فعل العاصي منطبقا للعنوانين الذي كان كل واحد منهما موجبا لاستحقاق العقاب، و حيث كان من المتسالم عليه ان العاصي له عقاب واحد فمن اللازم الالتزام بتداخل العقابين في العاصي المرتكب للمعصية الحقيقية لكون فعله منطبقا للتجري و للمخالفة العمدية، فلذا التزم بتداخل العقابين في المعصية الحقيقية.

و المصنف حيث يرى ان المتجري و العاصي على حد سواء في استحقاق العقاب و ليس له إلّا منشأ واحد و هو هتك حرمة المولى و الطغيان عليه ...

ص: 55

.....

______________________________

لذلك اورد على صاحب الفصول اولا: بانه لا وجه للالتزام بتداخل العقابين في المعصية الحقيقية، بعد ان لم يكن فيها ما يوجب استحقاق العقاب الا منشأ واحد، و هو هتك حرمة المولى و الطغيان عليه، و ليست المخالفة العمدية بما هي مخالفة عمدية مما توجب استحقاق العقاب، فليس هناك منشآن للعقاب حتى نضطر الى الالتزام بالتداخل، و الى هذا اشار بقوله: «ثم لا يذهب عليك انه ليس في المعصية الحقيقية الا منشأ واحد لاستحقاق العقاب» و ذلك المنشأ الواحد هو هتك حرمة المولى و الطغيان عليه، و لذا قال (قدس سره): «و هو هتك واحد فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم مع ضرورة ان المعصية الواحدة لا توجب الا عقوبة واحدة».

و حيث لم تكن المخالفة العمدية مما يوجب استحقاق العقاب و انما الموجب له هو الهتك و الطغيان، و ليس في المعصية الحقيقية الا هتك واحد و طغيان واحد، فلذا لم يكن فيها الا عقاب واحد، فهي معصية واحدة و لها عقوبة واحدة، اذ لا يعقل مع وحدة السبب حقيقة تعدد المسبب حقيقة، مع ان تعدد العقاب مع وحدة السبب من الظلم الممتنع على الشارع الذي فعله محض العدل و اللطف، و على غيره من المولي الملتزمين بما بنى عليه العقلاء في امورهم، و لا يصح عند العقلاء عقاب بلا سبب.

و ثانيا: بانه لو كانت المعصية الحقيقية منطبقا لعنوانين كان كل واحد منهما موجبا لاستحقاق العقاب، فلا وجه للالتزام بالتداخل بعد تحقق منشأيه، فان مراد صاحب الفصول من التداخل في المعصية الحقيقية ان كان الالتزام بعقاب واحد شديد فيها، دون العقاب في المتجري المخطئ في قطعه فان عقابه اخف من عقاب العاصي فهذا ليس من التداخل الحقيقي، فان وحدة العقاب مع شدته ليس من التداخل الحقيقي.

و ان كان مراده من التداخل هو التداخل الحقيقي كالحكم على القاتل المرتد بقتل واحد فهذا انما هو حيث لا يمكن التعدد، لوضوح عدم امكان قتل الحي مرتين، و العاصي ليس كذلك لامكان عقابه بعقابين، فاذا كان ما فعله موجبا لاستحقاق

ص: 56

منشأ توهّم صاحب الفصول

و لا منشأ لتوهمه، إلا بداهة أنه ليس في معصية واحدة إلا عقوبة واحدة، مع الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف بنحو الإن عن وحدة السبب (1).

______________________________

عقابين فلا وجه للالتزام بتداخل عقابه حقيقة، و الى هذا اشار بقوله: «كما لا وجه لتداخلهما» أي العقابين «على تقدير استحقاقهما» فيما لو كانت المعصية الحقيقية مما توجب استحقاق عقابين.

(1) لا يخفى ان الذي دعا صاحب الفصول الى الالتزام بتداخل العقابين في المعصية الواحدة الحقيقة هو شهادة الوجدان عند عامة المتشرعة و العقلاء، ان من شرب الخمر المنهي عنها مرة واحدة لا يستحق إلّا عقوبة واحدة، و حيث يرى ان فيها مناطين لاستحقاق العقاب التزم بتداخل العقابين.

و لكنما كان عليه ان يكشف من هذا التسالم بشهادة الوجدان ان ليس في المعصية الواحدة الحقيقية الا استحقاق واحد لعقوبة واحدة، لضرورة كشف المسبب الواحد الشخصي عن سبب واحد شخصي، لما برهن عليه في محله ان المعلول الواحد الشخصي يستلزم عقلا وحدة العلة الواحدة الشخصية، لمحالية صدور الكثير من الواحد الشخصي، و محالية تحقق المعلول من دون علة.

و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و لا منشأ لتوهمه» من الالتزام بتداخل العقابين «إلّا بداهة ان ليس في معصية واحدة الا عقوبة واحدة» بشهادة الوجدان و تسالم المتشرعة و العقلاء ان ليس لمن شرب خمرا مرة واحدة الا عقوبة واحدة، و لازم هذا الكشف ان ليس هناك لاستحقاق العقاب الا مناط واحد، و ليس لازم ذلك الالتزام بتداخل العقاب، لما عرفت من ان المعلول الواحد يكشف إنا عن سبب واحد، و لذا قال: «مع الغفلة عن ان وحدة المسبب تكشف بنحو الإن» و هو كشف المعلول عن العلة، في قبال الكشف اللمي و هو كشف العلة عن المعلول.

ص: 57

الامر الثالث: اقسام القطع

اشارة

الأمر الثالث: إنه قد عرفت أن القطع بالتكليف أخطأ أو أصاب، يوجب عقلا استحقاق المدح و الثواب، أو الذم و العقاب، من دون أن يؤخذ شرعا في خطاب (1)، و قد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف

______________________________

و على كل فمقامنا من الكشف الإنّي، و هو كشف المسبب الواحد المعلول عن وحدة العلة، فلازم العقوبة الواحدة هو الكشف إنا «عن وحدة السبب» فليس في المعصية الحقيقية الواحدة الا مناط واحد لاستحقاق عقوبة واحدة.

(1) هذا الامر الثالث لبيان ان القطع قد يكون طريقا محضا لثبوت الحكم المرتب على موضوعه كالحرمة المترتبة على نفس الخمر، فالحرمة حكم كلي موضوعها نفس الخمر من دون دخالة للقطع الا في كونه طريقا محضا في فعلية هذه الحرمة بفعلية موضوعها و هو الخمر، فان اصاب القطع كان هذا التكليف منجزا واقعا و ان اخطأ كان منجزا بنظر القاطع لا واقعا، و على الاول تترتب الاطاعة و العصيان واقعا بالامتثال و عدم الامتثال، و على الثاني يترتب الانقياد و التجري اصطلاحا كما مر مفصلا، و الى هذا اشار بقوله: «انه قد عرفت ان القطع بالتكليف اخطأ او اصاب يوجب عقلا استحقاق المدح و الثواب» في الاطاعة و الانقياد «او الذم و العقاب» في العصيان و التجري، لكن هذا حكم للقطع الطريقي المحض المتعلق بحكم مترتب على موضوعه الخاص من دون دخالة للقطع، و الى هذا اشار بقوله: «من دون ان يؤخذ شرعا في خطاب» كما انه سيتضح في القسم الثاني من امكان اخذ القطع موضوعا لحكم شرعي فلا يكون طريقا محضا.

لا يقال: ان القطع في باب الاطاعة و الانقياد و العصيان و التجري هو موضوع لاستحقاق العقاب و الثواب.

فانه يقال: موضوعية القطع الطريقي لحكم العقل باستحقاق الثواب و العقاب لا ينافي كونه طريقا محضا لثبوت الحكم المترتب على موضوع من الموضوعات، كالحرمة المترتبة على الخمر، و الوجوب المترتب على الصلاة.

ص: 58

القطع الموضوعي و اقسامه الاربعة

متعلقه، لا يماثله و لا يضاده، كما إذا ورد مثلا في الخطاب أنه إذا قطعت بوجوب شي ء يجب عليك التصدق بكذا (1) تارة بنحو يكون تمام

______________________________

(1) توضيحه: ان التقسيم ابتداء في اخذ القطع موضوعا للحكم انه تارة: يؤخذ موضوعا في الحكم نفسه، او في حكم مثل حكمه، او ضده، و سيأتي التعرّض لهذا في الامر الرابع.

و اخرى: يؤخذ القطع بشي ء موضوعا لحكم آخر، و هو على ثلاثة اقسام:

الاول: ان يكون القطع بموضوع ذي حكم موضوعا لحكم آخر، مثلا كأخذ القطع بملكية زيد لشي ء موضوعا في وجوب الشهادة له في مورد المخاصمة، او كالقطع باتيان الركعتين الأوليين تماما في الرباعية موضوعا للبناء على الاكثر في الشك بين الاثنين و الثلاث او بين الثلاث و الاربع.

الثاني: ان يكون القطع بموضوع لا حكم له موضوعا لحكم آخر، كما لو نذر انه اذا تيقن بحياة شخص كان مسافرا مثلا ان يتصدق، و لا منافاة لهذا لما يقال من انه لا تخلو واقعة عن حكم، فان المراد منها هي الأفعال التي تكون من الشخص في الخارج فانها لا تخلو، اما ان تكون واجبة أو محرمة او مستحبة او مكروهة او مباحة، لا أن كل شي ء و لو كان موضوعا من الموضوعات الخارجية، فلا بد و ان يكون ذا حكم بما هو موضوع خارجي، و حياة زيد بما هي حياة زيد موضوع لا حكم له.

الثالث: ما هو المشار اليه في المتن، و هو ان يكون القطع بحكم موضوعا لحكم آخر، كما لو كان القطع بوجوب شي ء موضوعا لوجوب التصدق بشي ء، كما لو نذر ذلك، و هو مراده من قوله (قده): «و قد يؤخذ» أي القطع «في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه» أي يخالف متعلق القطع، و مراده من قوله يخالف متعلقه هو ان تكون النسبة بين القطع بالوجوب و وجوب التصدق نسبة الخلافين، فانهما يجتمعان اذ لا مانع من اجتماع القطع بوجوب شي ء مع وجوب التصدق، بخلاف اخذ القطع بالحكم موضوعا لنفس ذلك الحكم او موضوعا لحكم مماثل للحكم المتعلق به القطع،

ص: 59

الموضوع، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا و لو أخطأ موجبا لذلك، و أخرى بنحو يكون جزؤه و قيده، بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجبا له، و في كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف و حاك عن متعلقه، و آخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به (1)، و ذلك لان

______________________________

ككون القطع بوجوب شي ء موضوعا لوجوبه ايضا، او اخذ القطع بحكم موضوعا لحكم يضاد ذلك الحكم كاخذ القطع بوجوب شي ء موضوعا لحرمة ذلك الشي ء، فان البحث عن هذه الثلاثة ياتي في الامر الرابع كما اشير اليه اولا، و لم يشر المصنف هنا الى اخذه في موضوع حكم نفسه، بل اشار الى اخذه في حكم مماثل له او مضاد له بقوله: «لا يماثله و لا يضاده» فان اخذ القطع بوجوب شي ء- مثلا- موضوعا لوجوبه ايضا من اجتماع المثلين، و اخذ القطع بوجوب شي ء موضوعا لحرمة ذلك الشي ء من اجتماع الضدين، و اما اخذ القطع بوجوب شي ء موضوعا لوجوب التصدق فهو يخالفه، و لا مانع من اجتماع الخلافين كالحلاوة و الحموضة، و ليس هو كاجتماع المثلين كبياضين او سوادين في جسم خاص محدود بحيث يكون ذلك الجسم المحدود بحدّيه من مبدئه الى منتهاه ذا بياضين بجميعه، او ذا سوادين بجميعه، او كاجتماع الضدين ككون ذلك الجسم المحدود بحدّيه بجميعه ابيض و اسود.

و قد اشار الى مثال اخذ القطع بحكم موضوعا لحكم آخر له معه نسبة الخلاف فلا مانع من اجتماعهما بقوله: «كما اذا ورد مثلا في الخطاب انه اذا قطعت بوجوب شي ء يجب عليك التصدق بكذا» او كان هذا المضمون متعلقا لنذر، كما اذا نذر ناذر يرغب في كون صلاة الجمعة واجبة انه اذا قطع بوجوب صلاة الجمعة يتصدق بكذا.

(1) لا يخفى ان القطع بحكم الموضوع المأخوذ موضوعا لحكم آخر على اقسام اربعة، اشار اليها في المتن: لانه تارة يكون تمام الموضوع بمعنى ان يكون انكشاف خطأه لا يمنع من صحة ما ترتب عليه، كجملة الامور الاحرازية الذي كان احرازها شرطا

ص: 60

القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الاضافة- و لذا كان العلم نورا

______________________________

في صحة شي ء، كمثل شرطية احراز طهارة اللباس و البدن في الصلاة، فان المشهور على صحة صلاة من احراز طهارة لباسه و بدنه و ان انكشف بعد اتيانها بنجاستهما او نجاسة احدهما، و قد اشار الى هذا بقوله: «تارة بنحو يكون تمام الموضوع بان يكون القطع بالوجوب مطلقا و لو أخطا» القطع «موجبا لذلك» أي لوجوب التصدق كمن نذر انه اذا قطع بوجوب صلاة الجمعة يتصدق بنحو ان يكون في مقام نذره قاصدا ذلك و ان انكشف خطأ قطعه بعد ذلك.

و اخرى: يكون القطع بشي ء مأخوذا بنحو جزء الموضوع او قيد له، فيكون الموضوع للحكم المرتب عليه مركبا من القطع بذلك الشي ء و من تحقق ذلك الشي ء واقعا، كمن نذر انه ان قطع بذلك بحياة شخص يتصدق، فان الظاهر منه كون القطع و الحياة كلاهما هو الموضوع لوجوب التصدق، و لازم هذا كون القطع فيما لو اصاب موجبا لترتب ذلك الحكم، و الى هذا اشار بقوله: «و اخرى بنحو يكون» القطع بالشي ء «جزؤه و قيده» أي جزء الموضوع او قيد الموضوع المرتب عليه الحكم، بنحو يكون الموضوع مركبا منهما، و لازم كون القطع جزءا او قيدا ما اشار اليه بقوله: «بان يكون القطع به في خصوص ما اصاب موجبا له».

و على كل من هذين النحوين الذي كان القطع فيهما موضوعا للحكم.

تارة: يكون الملحوظ فيه جهة كشفه.

و اخرى: تكون الجهة الملحوظة فيه جهة صفتية، و الى هذا اشار بقوله: «و في كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف و حاك عن متعلقه و آخر بما هو صفة للقاطع او المقطوع به».

و لا يخفى ان القطع حيث كان من الصفات ذات الاضافة بمعنى انه متقوم بطرفين، و هما من تحقق عنده القطع و ما تعلق به القطع، فهو كما يكون صفة للقاطع يكون ايضا صفة لما تعلق به و هو المقطوع به.

ص: 61

لنفسه و نورا لغيره- صح أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة و حالة مخصوصة، بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصية أخرى فيه معها، كما صح أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه و حاك عنه، فتكون أقسامه أربعة، مضافا إلى ما هو طريق محض عقلا غير مأخوذ في الموضوع شرعا (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان كون القطع كاشفا تاما و كونه صفة للقاطع أو المقطوع به و ان كانا متلازمين تحققا، إلّا انه للشارع في مقام اخذ القطع موضوعا لحكمه ان يفك بينهما، و يلحظ جهة الكشف تارة، و جهة الصفتية اخرى، و هذا مما لا اشكال فيه.

و انما الاشكال في جهة الصفتية في خصوص القطع التي هي جهة غير جهة كشفه.

و لا يخفى إن في القطع جهات لا تخصه بما هو قطع: منها كونه عرضا، و منها كونه من مقولة الكيف، و منها كونه من الكيف النفساني، و هذه الجهات الثلاث لا تختص بالقطع بما هو قطع، فان جهة عرضيته تشاركه فيها سائر الاعراض، و مثلها جهة كونه كيفا و كونه نفسانيا، فلذلك اشار الى جهة الصفتية التي تخص القطع و هي كونه نورا تاما لنفسه، لبداهة كون القطع هو الحضور و الكشف التام، فلا يعقل ان يحتاج الى حضور آخر و كاشف يكشفه، و حيث انه من الامور ذات الاضافة فهو ايضا نور ينكشف به متعلقه، فهو نور لغيره و لمتعلقه، فجهة كونه نورا تاما لنفسه لا يحتاج الى نور آخر يكشفه هي جهة صفتيته، فللشارع ان يلحظ هذه الجهة في القطع في مقام اخذه موضوعا لحكم آخر، و له ان يلحظ انكشاف غيره به و هي جهة كاشفيته.

و لا يخفى ان جهة كون القطع نورا تاما صفة تخص القطع و لا يشاركه فيها غيره حتى الظن، لبداهة كونه نورا ناقصا و كشفا غير كامل، لكونه مشوبا باحتمال الخلاف، و بها يمتاز القطع عن ساير الاعراض و عن مطلق مقولة الكيف و عن خصوص النفساني منه، و عن الظن المشارك له في كل جهة عدا كونه نورا ناقصا و كشفا غير تام، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و ذلك لان القطع لما كان من الصفات

ص: 62

.....

______________________________

الحقيقية» لا الاعتبارية المحضة كالملكية و الرقية و لا الصفات التي كان الموجود في الخارج منشأ انتزاعها لا نفسها كالامكان و الانقسام بمتساويين الموصوف به العدد الزوجي، بل لنفس ماهية القطع مطابق حقيقي خارجي، إلّا انها من الصفات الحقيقية «ذات الاضافة» فانها من الماهيات التعليقية المحتاجة الى طرفين، لوضوح احتياج القطع الى قاطع و مقطوع به، و لذلك فرع عليه بقوله: «و لذا كان العلم» المراد من العلم هو القطع، و التعبير عنه بالعلم لبيان تمامية نوريته، فلاجل ذلك كان «نورا تاما لنفسه» لعدم احتياجه الى كاشف آخر يكشفه و يكون طريقا له، و حيث انه لا بد له من متعلق و متعلقه منكشف و مستنير به «و» لذلك كان القطع «نورا لغيره» ايضا ففيه جهتان جهة نوريته التامة لنفسه، و جهة تنوير غيره به، فالجهة الاولى جهة صفتيته، و الثانية جهة كاشفيته، و لما كان فيه هاتان الجهتان «صح ان يؤخذ فيه» أي صح ان يؤخذ في القطع جهته الاولى فيلاحظه الشارع و يأخذه موضوعا للحكم «بما هو صفة خاصة و حالة مخصوصة» و نور تام لنفسه، و عند ملاحظته بهذه الجهة لا تكون جهة كشف متعلقه ملحوظة، و يكون القطع الملحوظ بالجهة الاولى ملحوظا «بإلغاء جهة كشفه» لغيره، و هو تارة يكون ملحوظا بما هو تمام الموضوع، و اخرى بنحو جزء الموضوع، فيكون قد لحظ مع هذه الجهة خصوصية اخرى، و الى هذا اشار بقوله: «او اعتبار خصوصية اخرى فيه» أي في القطع كتحقق متعلقه في الخارج ايضا «معها» أي مع لحاظه بما هو صفة خاصة و حالة مخصوصة، فهذان قسمان لحاظه بنحو الصفتية تمام الموضوع و بنحو جزء الموضوع او قيده.

و للشارع ان يأخذ القطع موضوعا ملاحظا فيه جهته الثانية، و هي جهة كاشفيته و انكشاف غيره به، و هو ايضا تارة بنحو تمام الموضوع، و اخرى بنحو جزء الموضوع او قيده، و الى هذا اشار بقوله: «كما صح ان يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه و حاك عنه» بنحو تمام الموضوع او جزئه، و لذا فرع بعد هذا بقوله: «فتكون

ص: 63

قيام الامارة مقام القطع الطريقي

ثم لا ريب في قيام الطرق و الامارات المعتبرة- بدليل حجيتها و اعتبارها- مقام هذا القسم (1)، كما لا ريب في عدم قيامها بمجرد ذلك الدليل مقام

______________________________

اقسامه اربعة» فان ملاحظته بنحو الكاشفية ايضا قسمان كما عرفت، فلذلك كانت اقسام القطع الموضوعي اربعة «مضافا» هذه الاربعة «الى ما هو طريق محض عقلا» لا تصرف للشارع فيه و هو «غير مأخوذ في الموضوع شرعا» فتكون الاقسام خمسة.

(1) لا يخفى ان المهم في هذا الكلام هو ان دليل التنزيل الدال على تنزيل الظن منزلة القطع الطريقي كقوله عليه السّلام: (العمري و ابنه ثقتان فما حدثا عني فعنى يحدثان)(1) هل يمكن ان يشمل القطع المأخوذ بنحو الموضوع ام لا يمكن ان يشمله؟

و توضيحه: ان قوله عليه السّلام- العمري و ابنه ثقتان- يرجع الى اعتبار الظن الحاصل من حديث العمري بالحكم المتضمن له حديثه هو كالقطع الحاصل من سماع حديثي بنفسي، فقد جعل في هذا الحجية للظن الحاصل من مثل العمري و الغاء احتمال الخلاف الموجود في طبيعة الظن، فقول العمري ان الصادق عليه السّلام يقول اذا شككت- مثلا- فابن على الاكثر هو بمنزلة ما اذا سمعتني اقول اذا شككت فابن على الاكثر، فهذا الدليل الذي هو دليل الاعتبار للظن الحاصل من مثل حديث العمري لا اشكال في وفائه في قيام الطرق و الامارات مقام القطع الطريقي المحض: أي في حجية الطرق و الامارات المعتبرة، و انه لها ما للقطع الطريقي من الآثار، و انه كما ان القطع الطريقي الحاصل من سماع قول الامام حجة في لزوم الالتزام بما افاده من الحكم، كذلك نقل العمري لذلك فانه لا بد فيه من لزوم الالتزام بما افاده من الحكم.

فاتضح من هذا ان المتحصل من دليل الاعتبار هو الالتزام بالحكم المتعلق به الظن الحاصل من الامارة، و ان هذا الظن حجة على الواقع كما ان القطع حجة بذاته عليه، و مرجع هذا اما الى جعل الحجية للظن الطريقي مقام القطع الطريقي غير

ص: 64


1- 7. ( 1) الكافي ج 1، ص 330.

ما أخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الاقسام، بل لا بد من دليل آخر على التنزيل، فإن قضية الحجية و الاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار، لا له بما هو صفة و موضوع، ضرورة أنه كذلك يكون كسائر الموضوعات و الصفات (1).

______________________________

المأخوذ موضوعا لحكم من الاحكام، او الى جعل الحكم على طبق الامارة طريقيا او نفسيا كما سيأتي التعرّض له في مبحث الظن ان شاء اللّه، و الى هذا اشار بقوله:

«ثم لا ريب في قيام الطرق و الامارات المعتبرة» و هو عطف تفسير للطرق، فان الكلام في قيام الاصول مقام القطع الطريقي و عدم قيامها مقامه سيأتي الكلام فيه في قوله:- بعد ذلك- و اما الاصول.

و على كل فلا اشكال في قيام الطرق و الامارات «ب» واسطة «دليل حجيتها و اعتبارها مقام هذا القسم» أي مقام القطع الطريقي المحض، كما عرفت من وفاء دليل الاعتبار و الحجية بذلك.

(1) قد عرفت ان القطع المأخوذ في الموضوع يمكن ان يكون مأخوذا بنحو الصفتية، و يمكن ان يكون مأخوذا بنحو الكاشفية، و لم يتوهم احد في شمول دليل اعتبار حجية الظن لقيام الظن مقام القطع المأخوذ موضوعا بنحو الصفتية، فان القطع المأخوذ بنحو الصفتية موضوعا لحكم آخر لم يؤخذ بالنسبة الى الحكم الذي كان موضوعا فيه لكونه طريقا اليه، بل قد اخذ القطع الذي كان هو الطريق لشي ء بما هو نور موضوعا لشي ء آخر، فهو بالنسبة الى الحكم الذي لم يكن طريقا اليه قد اخذ بما هو صفة من الصفات المتكيّفة بها النفس لا بما هو طريق موصل، لما عرفت من ان طريقيّته انما هي للشي ء الذي كان متعلقا له لا للحكم الذي رتب عليه بما هو صفة، لوضوح كون القطع لم يكن طريقا اليه بل كان موضوعا له كسائر الموضوعات الخارجية، و دليل التنزيل و الاعتبار للامارة و جعلها بمنزلة القطع انما هو لترتيب آثار القطع على الظن، و آثار القطع هي لوازمه الذاتية من كونه موصلا تاما و كاشفا

ص: 65

.....

______________________________

لا كاشف اتم منه، و ايصاله و كاشفيته هي آثار طريقيّته، و اما كونه صفة تتكيف بها النفس فهي نفس ذات القطع لا آثاره، فلو دلّ دليل التنزيل على قيام الظن مقام القطع الصفتي فلا بد و ان يكون ناظرا لغير جهة كشفه و ايصاله، بل لجهة تكيف النفس به و كونه من صفاتها.

و منه ظهر: ان دليل التنزيل الدال على لزوم ترتيب آثار القطع على الظن الناظر لجهة كاشفيّة القطع و ايصاله لا يكون ناظرا لجهة كونه صفة من صفات النفس، فيحتاج تنزيل الظن مقام القطع الموضوعي الصفتي الى دليل آخر على التنزيل غير الدليل الدال على تنزيل الظن مقام القطع في آثاره، فان الملحوظ في الدليل الدال على تنزيل الظن منزلة القطع في آثاره لا بد و ان يختص بتنزيل الظن منزلة القطع الطريقي المحض، و لذا قال (قدس سره): «كما لا ريب في عدم قيامها» أي لا ريب في عدم قيام الامارة «بمجرد ذلك الدليل» الدال على اعتبارها و كونها كالقطع في آثاره «مقام» القطع الصفتي و هو «ما اخذ في الموضوع على نحو الصفتية» من تلك الاقسام التي مرّت سواء كان تمام الموضوع او جزء الموضوع، لما عرفت من عدم وفاء دليل اعتبار حجية الظن بذلك، فانها بلحاظ ما للقطع من الآثار لا بلحاظ ذات القطع و كونه صفة من صفات النفس «بل لا بد» في قيام الظن مقام القطع الموضوعي الصفتي «من دليل آخر» يدل على تنزيله غير الدليل المتكفل لكونه كالقطع الطريقي.

ثم اشار الى الوجه في ذلك، و ان دليل التنزيل الدال على كون الظن كالقطع الطريقي لا يفي بتنزيل الظن مقام القطع الموضوعي الصفتي بقوله: «فان قضية الحجية و الاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار» و هو كونه موصلا و كاشفا تاما «لا له» أي لا يدل ذلك الدليل على ترتيب ما للقطع «بما هو صفة و موضوع ضرورة انه كذلك» أي بما هو صفة و موضوع «يكون كسائر الموضوعات

ص: 66

عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي مطلقا

و منه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو نحو الكشف، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعا، كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضا، فلا يقوم مقامه شي ء بمجرد حجيته، أو قيام دليل على اعتباره، ما لم يقم دليل على تنزيله، و دخله في الموضوع كدخله (1)، و توهّم كفاية دليل الاعتبار الدال على

______________________________

و الصفات» فانه بما هو موضوع للحكم المرتب عليه لم يكن طريقا له و لا كاشفا عنه، بل هو موضوع له كسائر الموضوعات الخارجية.

(1) بعد ما عرفت من ان دليل حجية الامارة انما يدل على تنزيلها منزلة القطع الطريقي المحض، و لا يشمل تنزيل الامارة منزلة القطع الموضوعي الصفتي لان مفاد دليل الاعتبار هو كون الظن موصلا، و ان ما يتضمنه الطريق من الحكم يعتبر واصلا كالحكم الموصل له القطع، فالملحوظ في مقام التنزيل ترتيب آثار القطع على الظن، و ليس الملحوظ فيه تنزيل الظن مقام القطع المأخوذ موضوعا بما هو صفة و كيفية خاصة تتكيف بها النفس، بل لا بد في قيام الظن مقامه بهذه الملاحظة من دليل آخر يدل على كونه قد لحظ في مقام التنزيل بما هو صفة خاصة و كيفية مخصوصة.

فمن هذا البيان يتضح ايضا ان دليل الاعتبار و الحجية للظن لا يشمل القطع الموضوعي المأخوذ على نحو الكاشفية، فان الفرق بين الموضوعي الصفتي و الكاشفي هو جعله موضوعا في الاول بما هو صفة، و في الثاني بما هو كاشف عن متعلقه موضوعا للحكم المرتب عليه، فهو بالنسبة الى الحكم المرتب في كونه موضوعا كسائر الموضوعات لا فرق بينه و بين القطع الصفتي، و ليس طريقا له و لا كاشفا عنه، و انما كاشفيته الملحوظة في مقام موضوعيته انما هي بلحاظ كشفه عن متعلقه لا عن الحكم المرتب عليه، مثلا اذ لحظ القطع بالوجوب بما هو كاشف موضوعا لوجوب التصدق فكاشفية القطع الملحوظ انما هي بالنسبة الى الوجوب المتعلق به القطع، و اما بالنسبة الى وجوب التصدق فليس لكاشفيته دخل في ذلك اصلا، و هو بالنسبة الى وجوب

ص: 67

.....

______________________________

التصدق موضوع كسائر الموضوعات الخارجية، و لا فرق بينه و بين القطع الصفتي اصلا في ذلك، فاذا كان دليل حجية الامارة ناظرا الى ترتيب آثار القطع كان الملحوظ فيه ذلك، فلا يكون شاملا لتنزيل الظن مقام القطع الصفتي.

و منه يظهر انه لا يكون شاملا ايضا للقطع المأخوذ موضوعا على نحو الكاشفية، فان كاشفيته الملحوظة في مقام الموضوعية انما هي بالنسبة الى متعلقه و هو وجوب الجمعة- مثلا- لا بالنسبة الى الحكم المرتب عليه و هو وجوب التصدق، فلا فرق بين الموضوعي الصفتي و الموضوعي الكاشفي في عدم شمول دليل اعتبار حجية الامارات له، و انه لا بد له من دليل آخر يدل على تنزيل الظن منزلة القطع المأخوذ موضوعا لحكم مترتب عليه سواء كان موضوعيته بنحو الصفتية او الكاشفية، و لا فرق بينهما اصلا من جهة عدم شمول دليل اعتبار حجية الامارات لذلك، و الى هذا اشار (قدس سره) بقوله: «و منه قد انقدح عدم قيامها» أي عدم قيام الامارات «بذاك الدليل» الدال على قيامها مقام القطع الطريقي المحض، و انه لا يفي بقيامها «مقام ما اخذ في الموضوع على» نحو «الكشف» لما عرفت من عدم الفرق بين القطع الموضوعي الصفتي و الكاشفي في ذلك «فان القطع المأخوذ بهذا النحو» أي بنحو الكاشفية «في الموضوع شرعا» كما اخذ القطع بالوجوب بنحو الكاشفية موضوعا للتصدق فانه مثل القطع الصفتي و كلاهما موضوع كسائر الموضوعات الخارجية لا فرق بينهما و بينها اصلا فهي «كسائر ما لها دخل في الموضوعات» الخارجية الماخوذة موضوعا للاحكام المرتبة عليه، فالقطع المأخوذ موضوعا بنحو الكشف كالقطع الصفتي «ايضا»، و قد عرفت انه لا يقوم مقام الظن الذي قام الدليل على قيامه مقام القطع الطريقي، لعدم وفاء دليل اعتباره بذلك «فلا يقوم مقامه» أي لا يقوم مقام القطع المأخوذ بنحو الكشف «شي ء» من الظن الحاصل من الطرق و الامارات «بمجرد» قيام الدليل الدال على «حجيته او قيام دليل على اعتباره ما لم يقم دليل» آخر يدل «على تنزيله و» ان يكون ذلك الدليل الآخر قد

ص: 68

كلام الشيخ الأعظم (قده) و النظر فيه

الغاء احتمال خلافه و جعله بمنزلة القطع، من جهة كونه موضوعا و من جهة كونه طريقا فيقوم مقامه طريقا كان أو موضوعا (1)، فاسد جدا فإن

______________________________

قام بلحاظ «دخله» أي دخل الظن «في الموضوع كدخله» أي كدخل القطع في الموضوع، و اما لو خلينا نحن و دليل الاعتبار القائم على حجية الظن فلا يفي الا بقيام الظن الطريقي مقام القطع الطريقي.

(1) لا يخفى انه يظهر من الشيخ في الرسالة شمول دليل الاعتبار الدال على حجية الظن الطريقي مقام القطع الطريقي، للقطع الموضوعي الذي اخذ موضوعا بنحو الكاشفية دون القطع الموضوعي المأخوذ بنحو الصفتية، و قد ذكر بعضهم منتصرا للشيخ وجها نتيجته شمول دليل الاعتبار لذلك، و هو مركب من مقدمات اشار المصنف في عبارته الى احدها.

و توضيح هذا الوجه، انه مركب من مقدمات:

الاولى: ان الظن و القطع كلاهما كاشفان و يختلفان في كون القطع كاشفا تاما و الظن كاشفا ناقصا لكونه مشوبا باحتمال الخلاف.

الثانية: ان القطع الموضوعي المأخوذ بنحو الكاشفية حقيقته انه يرى الواقع و انه تام الإراءة له، و الظن و ان كان يرى الواقع إلّا انه حيث كان ناقص الإراءة فدليل الاعتبار الدال على إلغاء احتمال الخلاف فيه يجعله تام الإراءة تنزيلا.

الثالثة: ان دليل الاعتبار الدال على تنزيل الظن منزلة القطع ناظر الى تنزيله منزلته بجميع ما للقطع من الآثار سواء كانت عقلية او شرعية، و آثاره العقلية التنجيز لو اصاب و العذر لو خالف، و لزوم الالتزام بمتعلقه و آثاره الشرعية كونه موضوعا لحكم من الاحكام، فدليل الاعتبار القائل ان الظن كالقطع و ان المنزل له منزلة المنزل عليه يدل على لزوم ترتيب جميع ما للقطع من اثر، سواء كان ذلك من آثاره غير المجعولة له او من آثاره المجعولة له، و انه يترتب على الظن جميع آثار القطع، فلا مانع من شمول دليل الاعتبار للظن باطلاقه لجميع ما للقطع من الآثار، فهو واف بتنزيل

ص: 69

الدليل الدال على إلغاء الاحتمال لا يكاد يكفي إلا بأحد التنزيلين، حيث لا بد في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزل و المنزل عليه، و لحاظهما في أحدهما آلي، و في الآخر استقلالي، بداهة أن النظر في حجيته و تنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع و مؤدى الطريق، و في كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما، و لا يكاد يمكن الجمع بينهما.

نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما، يمكن أن يكون دليلا على التنزيلين، و المفروض أنه ليس، فلا يكون دليلا على التنزيل إلا بذاك اللحاظ الآلي، فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه، و صحة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته و خطئه بناء على استحقاق المتجري، أو بذلك

______________________________

الظن منزلة القطع الطريقي و منزلة القطع الموضوعي فيما كان القطع مأخوذا بنحو الكاشفية، لان دليل الاعتبار الذي قد أنزل الظن و جعله منزلة القطع له اطلاق يشمل جميع آثار المنزل عليه، و من جملة آثاره كونه موضوعا لحكم من الاحكام.

الرابعة: ان لسان دليل اعتبار الظن منزلة القطع لما كان بلسان إلغاء احتمال الخلاف، و من الواضح ان الظاهر من لسان الغاء احتمال الخلاف هو لحاظ الكاشفية دون الصفتية- كان اطلاق دليل الاعتبار في مقام التنزيل مختصا بشموله لتنزيل الظن منزلة القطع الطريقي و القطع الموضوعي المأخوذ بنحو الكاشفية، دون القطع المأخوذ موضوعا بنحو الصفتية، و الى ذلك اشار بقوله: «و توهم كفاية دليل الاعتبار الدال على الغاء احتمال خلافه» في الظن «و» على «جعله بمنزلة القطع» في جميع ما للقطع من الآثار سواء الشرعية منها و هي ما اشار اليه بقوله: «من جهة كونه موضوعا» أو العقلية منها و هي ما اشار اليه بقوله: «و من جهة كونه طريقا فيقوم» الظن «مقامه» أي مقام القطع «طريقا كان او موضوعا».

ص: 70

امتناع اجتماع اللحاظين الآلي و الاستقلالي

اللحاظ الآخر الاستقلالي، فيكون مثله في دخله في الموضوع، و ترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان قوله «فاسد جدا» هو خبر «توهم»: أي التوهم المذكور من شمول دليل الاعتبار باطلاقه لقيام الظن مقام القطع الطريقي و الموضوعي فاسد جدا.

و قد اورد عليه بايرادين:

الاول: ما اشار اليه بقوله: «فان الدليل الى آخره» و توضيحه على وجه لا يرد عليه ما ظن انه وارد عليه، هو ان الظن الطريقي المراد جعله كالقطع الطريقي لم ينظر اليه الا كمرآة الى ما تعلق به و جعل متعلقه كالمقطوع، فقوله: العمري و ابنه ثقتان فما حدثا عني فعني يحدثان، قد نظر فيه الى الظن الحاصل من تحديث العمري بما هو مرآة الى الحكم الذي يحدث به العمري، فالظن في مقام التنزيل و ان كان منظورا اليه إلّا انه منظور اليه بما هو مرآة محض لمتعلقه، فان الغرض في هذا الجعل جعل المظنون الذي يحدث به العمري كالمقطوع الذي يحس بالمشاهدة من سماع قول الامام عليه السّلام، و الظن المراد جعله قائما مقام القطع الموضوعي ينظر فيه الى الظن بما هو و بذاته لا كونه مرآة للمظنون، فان الظن القائم مقام القطع الموضوعي يقوم مقامه بما هو ظن منظور اليه لان يكون قائما مقام القطع، فالظن الذي يراد قيامه مقام القطع الموضوعي منظور اليه بنفسه لا بنحو ان يكون مرآة للمظنون.

و من الواضح: ان الظن بما هو منظور اليه بنفسه ليس من شئون الظن المنظور اليه كمرآة الى المظنون حتى يكون اطلاق إلغاء احتمال الخلاف شاملا له، فان كون الظن منظورا اليه بنفسه ليس من شئون الظن المنظور اليه مرآة الى المظنون، و هذا هو مراده من قوله (قدس سره): «حيث لا بد في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزل» و هو الظن «و المنزل عليه» و هو القطع «و لحاظهما في احدهما آلي» و هو لحاظهما في مقام التنزيل كمرآة الى المظنون و المقطوع «و في الآخر استقلالي» و هو كون الظن ملحوظا بما هو ظن قائما مقام القطع الموضوعي، فان المنظور فيه لا بد و ان يكون

ص: 71

.....

______________________________

الظن بما هو لا كمرآة الى المظنون، و هو مراده من قوله في الآخر استقلالي، و لذا فسر ذلك معقبا بقوله: «بداهة ان النظر في حجيته و تنزيله منزلة القطع في طريقيته في الحقيقة الى الواقع و مؤدى الطريق» فان المنظور اليه في جعل الظن مقام القطع الطريقي هو كون مؤداه هو الواقع، فالظن في مثل هذا الجعل قد نظر اليه بما هو مرآة الى المؤدى «و» المظنون «في كونه بمنزلته» و «في» مقام «دخله في الموضوع الى أنفسهما» أي في مقام جعل الظن كالقطع الموضوعي ينظر الى الظن بما هو لا كمرآة الى المظنون، فهو بنفسه المنظور اليه و يكون الغرض تنزيله بنفسه لا تنزيل مؤداه، و من الواضح ان الاطلاق انما يشمل ما يمكن ان يكون من شئون المطلق، و كون الظن منظورا اليه بنفسه ليس من شئون الظن المنظور به كمرآة الى متعلقه و هو المظنون، و لذا عقبه بقوله: «و لا يكاد يمكن الجمع بينهما نعم لو كان في البين ما» يمكن ان يكون «بمفهومه» ك «جامع بينهما» أي كجامع بين لحاظه بما هو مرآة الى المظنون و لحاظه بما هو و بنفسه «يمكن ان يكون» ذلك الجامع «دليلا على التنزيلين و المفروض انه ليس» لما عرفت من ان لازم لحاظه كمرآة الى المظنون عدم لحاظه بنفسه، و لا جامع بين لحاظ الشي ء و عدم لحاظه، فلا يعقل ان يكون الدليل الدال على إلغاء احتمال الخلاف شاملا باطلاقه للظن الطريقي الملحوظ كمرآة الى المظنون و للظن الموضوعي الملحوظ الظن فيه بنفسه، فان النظر اليه كمرآة لازمه عدم النظر اليه بنفسه، و لا يعقل ان يكون هناك جامع بين شيئين لازم احدهما عدم الآخر.

فاتضح مما ذكرنا: ان دليل إلغاء احتمال الخلاف اما ان يكون في مقام النظر الى الظن كمرآة الى المظنون و حينئذ «فلا يكون دليلا على التنزيل إلّا بذاك اللحاظ الآلي» المنظور فيه الى جعل المظنون كالمقطوع، فيكون خاصا بجعل الظن الطريقي كالقطع الطريقي «فيكون» الظن «حجة موجبة لتنجز متعلقه و صحة العقوبة على مخالفته في صورتي اصابته و خطئه» فالتنجز مختص بصورة الاصابة و صحة العقوبة على المخالفة يشمل الاصابة به و الخطأ «بناء على استحقاق المتجري» للعقاب.

ص: 72

لا يقال: على هذا لا يكون دليلا على أحد التنزيلين، ما لم يكن هناك قرينة في البين (1).

فإنه يقال: لا إشكال في كونه دليلا على حجيته، فإن ظهوره في أنه بحسب اللحاظ الآلي مما لا ريب فيه و لا شبهة تعتريه (2)، و إنما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه (3)، فتأمل في

______________________________

و اما ان يكون في مقام النظر الى الظن بنفسه و جعله كالقطع الموضوعي، فيكون الظن في هذا الجعل ملحوظا لا كمرآة بل بنفسه، و حينئذ يكون دليل التنزيل مختصا بجعل الظن الموضوعي مقام القطع الموضوعي، و الى هذا اشار بقوله: «او بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي فيكون مثله» أي فيكون الظن مثل القطع الموضوعي «في دخله في الموضوع و» لازمه «ترتيب ما له» أي ترتيب ما للقطع الموضوعي على الظن الموضوعي «من الحكم الشرعي».

(1) حاصله: انه بعد ان كان دليل التنزيل لا يعقل ان يشمل تنزيل الظن الطريقي و الظن الموضوعي معا، بل لا بد ان يكون متكفلا لا حدهما فقط، فلازم ذلك كون دليل الاعتبار من المجملات و يحتاج الى قرينة تعين ان المراد به احد التنزيلين، و الى هذا اشار بقوله: «على هذا لا يكون دليلا على احد التنزيلين الى آخره».

(2) حاصله: انه لا اشكال في كونه في مقام تنزيل الظن الطريقي، لظهور مثل قوله فما حدثا عني فعني يحدثان انه في مقام كون المظنون الذي حدثا به هو كالمقطوع المشاهد بسماع حديث الامام نفسه، و لذا قال: «فان ظهوره في انه بحسب اللحاظ الآلي مما لا ريب فيه».

(3) بعد ما عرفت من كون دليل التنزيل لا يمكن ان يكون شاملا لكليهما معا، و عرفت ظهوره ايضا في تنزيل الظن الطريقي .. تعرف انه لو قام دليل آخر على لحاظ الظن و تنزيله منزلة القطع الموضوعي يكون دليلا آخر على تنزيل آخر، و هو مراده من قوله: «و انما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة

ص: 73

المقام فإنه دقيق و مزال الاقدام للأعلام (1).

______________________________

عليه» و هو ما اشار اليه في اول كلامه بقوله: لا ريب في قيام الطرق و الامارات المعتبرة بدليل حجيتها مقام هذا القسم أي القطع الطريقي، كما لا ريب في عدم قيامها بمجرد ذلك الدليل مقام ما اخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الاقسام، بل لا بد من دليل آخر على التنزيل فيكون دليلا ثانيا على تنزيل ثان.

(1) و لعل مراده الاشارة الى دفع ما اوردوه على ما ذكره: من كون الظن على كل حال في مقام التنزيل لا بد و ان يكون منظورا اليه بالاستقلال فلا يعود كلامه الى محصل، و هو قوله ان الظن في دليل الاعتبار منظور اليه بالنظر الآلي، فان الظن يكون آليا في مقام تحققه متعلقا بمتعلقه لا في مقام لحاظه في مقام التنزيل، بل هو في مقام التنزيل سواء كان المراد به تنزيله منزلة القطع الطريقي او الموضوعي لا محالة يكون منظورا بالاستقلال.

و الجواب عنه ما عرفت: من ان مراده من النظر الآلي للظن في مقام الاعتبار هو لحاظه بما هو مرآة الى المظنون، فالظن و ان نظر اليه في مقام التنزيل إلّا ان المراد منه بالنظر اليه هو المظنون: أي ان المراد به جعل المظنون كالمقطوع، و ليس مراده ان الظن في هذا المقام لم ينظر اليه و هو آلي، بل المراد من آليته كون المراد به هو المظنون، و هذا لا ينافي كونه منظورا اليه و لكنه لم يكن منظورا اليه بما هو بل منظور اليه بما هو مراد منه المظنون، و هذا من موارد الخلط في المنظور بالحمل الاولي، فان ماهية الظن بالحمل الاولي هي المنظورة في مقام التنزيل، و لكن تارة يراد النظر اليها بما هي ماهية الظن، و اخرى يراد بالنظر اليها المظنون، فهي ككثرة الرماد المنظورة في الكناية فانها منظور اليها بنفسها و لكنها كطريق الى المكنى عنه و هو الجود، و النظر اليها كطريق الى المكنى عنه لا يجعلها من الماهية الموجودة بالحمل الشائع.

و بعبارة اخرى: ماهية الظن الموجودة بالحمل الشائع هي المتعلقة بمتعلقها خارجا لا الماهية المنظور اليها كطريق الى المظنون، فتدبر.

ص: 74

و لا يخفى أنه لو لا ذلك، لا مكن أن يقوم الطريق بدليل واحد- دال على إلغاء احتمال خلافه- مقام القطع بتمام أقسامه، و لو فيما أخذ في الموضوع على نحو الصفتية، كان تمامه أو قيده و به قوامه.

فتلخص مما ذكرنا: إن الامارة لا تقوم بدليل اعتبارها إلا مقام ما ليس مأخوذا في الموضوع أصلا (1).

______________________________

(1) هذا هو الايراد الثاني و حاصله: انه لو لا ما ذكرنا من عدم امكان شمول دليل الاعتبار الا لتنزيل واحد لما كان مانعا من ان يكون شاملا للقطع الموضوعي الصفتي ايضا.

و بعبارة اخرى: انه اذا امكن ان يكون لدليل التنزيل اطلاق يشمل القطع الطريقي و القطع الموضوعي الكشفي، فلا مانع من ان يشمل القطع الموضوعي الصفتي ايضا.

فان قلت: إلغاء احتمال الخلاف يمكن ان يكون جامعا بين الطريقي و الكشفي و لا يكون جامعا للصفتي ايضا فان الملحوظ فيه جهة الصفتية لا الكشفية.

قلت: ان كشف القطع الطريقي المحض غير كشف القطع الموضوعي الكشفي، فان الاول كشفه عن الحكم الذي كان القطع طريقا محضا اليه، و القطع الموضوعي الكشفي كشفه عن متعلقه الذي هو جزء الموضوع للحكم المرتب، فالفرق بين الكشفين واضح، فإلغاء احتمال الخلاف في الظن الطريقي انما هو بالنسبة الى الحكم المظنون، و إلغاء احتمال الخلاف بالنسبة الى الظن الموضوعي الكشفي انما هو بالنسبة الى ما هو جزء الموضوع للحكم المرتب عليه، فاذا كان إلغاء احتمال الخلاف مما يمكن ان يكون شاملا لهما مع الفرق بين كشفهما فلم لا يكون شاملا للقطع الصفتي، لانه ايضا بما هو قطع كشف لا خلاف فيه، فيكون إلغاء احتمال الخلاف ناظرا الى الظن الذي هو الكشف الناقص المحتمل للخلاف، و منزلا له منزلة القطع الذي هو الكشف التام الذي لا يحتمل الخلاف فيكون شاملا للقطع بجميع اقسامه و لا خصوصية

ص: 75

عدم قيام غير الاستصحاب من الاصول مقام القطع الطريقي

و أما الاصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلتها- أيضا- غير الاستصحاب، لوضوح أن المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار و الاحكام، من تنجز التكليف و غيره- كما مرت إليه الاشارة- و هي ليست إلا وظائف مقررة للجاهل في مقام العمل شرعا أو عقلا (1).

______________________________

لخصوص القطع الموضوعي الكشفي، و لذا قال (قده): «لو لا ذلك لا مكن ان يقوم الطريق بدليل واحد دال» ذلك الدليل «على الغاء احتمال خلافه مقام القطع بتمام اقسامه و لو فيما اخذ في الموضوع على نحو الصفتية» سواء «كان» القطع «تمامه» اي تمام الموضوع «او قيده و به قوامه» فيكون دليل التنزيل شاملا للقطع باقسامه الخمسة المزبورة.

و لكن بعد ما عرفت من عدم امكان شمول دليل الاعتبار الا لتنزيل واحد، و ظهور دليل الاعتبار في تنزيل المظنون منزلة المقطوع- تعرف ان الامارة لا تصلح الا لقيامها مقام القطع الطريقي، فمحصلها ثبوت الحكم الذي دلت عليه الامارة، كثبوت الحكم الذي كان مقطوعا به، و الى هذا اشار بقوله: «فتلخص مما ذكرنا الى آخر كلامه».

(1) توضيح مرامه (قدس سره) ببيان امرين:

الاول: ان الاصول المقررة للجاهل ستة:

- البراءة العقلية و هي قبح العقاب بلا بيان، و البراءة النقلية و هي مثل رفع ما لا يعلمون، و الاحتياط العقلي كلزوم اجتناب كلا المشتبهين في مورد العلم الاجمالي، بناء على كونه علة تامة للزوم الاجتناب كما يظهر منه (قدس سره) في مباحث البراءة لا في مباحث القطع، فانه سيأتي منه اختيار انه مقتض لا علة تامة، و الاحتياط النقلي و هو كلزوم الاجتناب في الشبهة البدوية على مذاق بعض الاخباريين، او في بعض موارد الشبهة البدوية التي علم الاهتمام بها من الشارع كمورد الدماء

ص: 76

.....

______________________________

و الفروج، و التخيير و هو عقلي فقط كما في مورد الدوران بين المحذورين و الاستصحاب.

الثاني: ان المراد من قيام شي ء مقام شي ء ليس كونه مرجعا بعد فقده، فانه لو كان هذا المراد من القيام مقام القطع لقامت الاصول كلها مقام القطع، و لا فرق بين الامارات و الاصول اصلا، بل المراد من القيام مقام القطع كون القائم مقام القطع له ما للقطع من الاثر من كونه طريقا منجزا للواقع لو اصاب و عذرا عنه لو خالف.

و اذا كان هذا هو المراد من القيام مقام القطع- يتبين بوضوح عدم قيام الاصول ما عدا الاستصحاب مقام القطع، لوضوح كون لسان الجعل فيها ليس جعلها طريقا منجزا للواقع لو اصابت و عذرا عنه لو اخطأت، بل لسان جعلها هي كونها هي المرجع حيث لا قطع و لا دليل كالقطع موصلا الى الواقع، فلأن لا يبقى الجاهل في حيرة فله في مورد اجراء البراءة، و في مورد آخر يرجع الى غيرها من الاصول بحسب مواردها كما سيأتي بيانها عند التعرّض لها في هذا الكتاب ان شاء اللّه تعالى.

و لا يخفى ان لسان البراءة العقلية و هي قبح العقاب بلا بيان، و لسان الجعل في البراءة النقلية و هي دليل الرفع ليس معناه كون البراءة منجزة لو اصابت و معذرة لو خالفت، بل البراءة العقلية هي عدم صحة عقاب الجاهل غير المقصّر في الفحص عند عدم وصوله الى ما حكم اللّه واقعا او تنزيلا، و لازم هذه القضية و ان كان هي المعذرية عند المخالفة إلّا ان هذه المعذرية ليست لكون المكلف قد سلك السبيل الموصل بحسب المعتاد فاخطأ الواقع، بل انما هي عذرية المكلف حيث لم يصل اليه الحكم بنحو من انحاء الوصول، فليست هذه المعذّرية هي المعذّرية التي عرفت انها من لوازم القطع لو اخطأ، فلم تقع هذه المعذرية أثرا لطريق له شان الايصال حتى تكون هي الاثر المرتب على القطع.

و اما البراءة النقلية و هي دليل الرفع فلوضوح كون لسانها هو رفع الالزام او رفع المؤاخذة حيث لا علم، و لازمها هو العذر ايضا عند المخالفة، و قد عرفت ان هذه

ص: 77

لا يقال: إن الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجز التكليف لو كان (1).

______________________________

المعذّرية ليست هي المعذّرية المترتبة على القطع لو خالف، فليس للبراءة لسان يقتضي قيامها مقام القطع. و اما بقية الاصول فسيأتي التعرّض من المصنف في عدم كونها قائمة مقام القطع لكونها طريقا الى الواقع، و الى هذا اشار بقوله: «و اما الاصول فلا معنى لقيامها مقامه» أي مقام القطع «ب» واسطة «ادلتها ايضا» أي هي كالامارة في عدم قيامها مقام القطع الموضوعي «غير الاستصحاب» و لم يذكر الوجه لاستثناء الاستصحاب منها، و يظهر منه أن لسان دليله يمكن ان يكون دالا على قيامه مقام القطع الطريقي، و سنذكر ما يمكن ان يكون وجها لهذا الاستثناء ان شاء اللّه تعالى عند تعرض المصنف لعدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

و على كل فقد اشار الى دليل عدم قيامها مقام القطع الطريقي بقوله: «لوضوح ان المراد من قيام المقام» المقام بالرفع، و المراد منه هي الاصول القائمة مقام القطع ان المراد من قيامها مقامه هو «ترتيب ما له» أي ترتيب ما للمقام عنه من الآثار و هو القطع على القائم مقامه من الاصول، فيترتب عليها جميع ما للقطع «من الآثار و الاحكام من تنجز التكليف» لو اصاب «و غيره» و هو العذر لو خالف «كما مرت اليه الاشارة» في كلامه المتقدم «و» الحال ان الاصول ليس لها هذا اللسان بل «هي ليست إلّا وظايف مقررة للجاهل في مقام العمل شرعا» كما في البراءة النقلية «او عقلا» في البراءة العقلية، و ليس لها مساس بكونها واقعة في طريق الايصال الى الواقع حتى تكون معذّريتها كمعذّرية القطع.

(1) حاصله: ان الاصول انما لا تقوم مقام القطع لانها ليست واردة بلسان الاحراز للواقع، و انما كان لسانها لسان انها وظيفة للشاك، و قد عرفت ان المراد من قيام شي ء مقام شي ء ليس هو مجرد كونه مرجعا يرجع اليه بعد فقده، بل المراد من القيام مقامه هو البدلية عنه، و ان له ما للمقام عنه من الآثار و الاحكام، و حيث ان لسان

ص: 78

فإنه يقال: أما الاحتياط العقلي، فليس إلّا نفس حكم العقل بتنجز التكليف، و صحة العقوبة على مخالفته، لا شي ء يقوم مقامه في هذا الحكم.

و أما النقلي، فإلزام الشارع به، و إن كان مما يوجب التنجز و صحة العقوبة على المخالفة كالقطع، إلّا أنه لا نقول به في الشبهة البدوية، و لا يكون بنقلي في المقرونة بالعلم الاجمالي (1)، فافهم (2).

______________________________

الاصول ليس لسان البدلية عن القطع و ان لها ما له من الاحكام و الآثار، لذلك قلنا بعدم قيامها مقام القطع.

و لكنه لا يخفى ان هذا انما يتم في دليل البراءة العقلية منها و النقلية، و لا يتم في الاحتياط فان لسانه لسان احراز الواقع، و هو و ان لم يثبت له أثر القطع من حيث المعذّرية في حال عدم الاصابة لوضوح كون الاحتياط موصلا للواقع على كل حال و لا يتأتى الخطأ فيه، الّا ان له اثر القطع من حيث تنجيز الواقع به في حال الاصابة.

فينبغي ان يقال بقيام الاحتياط مقام القطع و ان كان في بعض آثاره لا في جميعها.

(1) و حاصل الجواب ان تنزيل شي ء يحتاج الى ان يكون هناك شيئان يكون احدهما منزلا و الآخر منزلا عليه، فيلحق المنزل ما للمنزل عليه من آثاره و احكامه.

و الاحتياط اما عقلي او نقلي، و الاحتياط العقلي هو نفس حكم العقل بتنجيز الواقع، فليس الاحتياط شيئا قد لحظه العقلاء و نزّلوه منزلة القطع حتى يكون هناك شي ء قائم مقام القطع قد لحقه ما للقطع من اثر التنجيز.

و اما النقلي فهو و ان كان امرا مجعولا من الشارع لازمه التنجيز، إلّا انه لا وجود له، اما في الشبهة البدوية فلأنّا لا نقول به بل نقول بالبراءة فيها، و اما في مورد العلم الاجمالي فهو ليس باحتياط نقلي بل هو عقلي، و قد عرفت انه نفس حكم العقل بالتنجيز لا انه شي ء منزل عندهم منزلة القطع في اثره و هو التنجيز.

(2) لعله اشارة الى ان عدم القول به منه (قدس سره) لا يمنع من كونه اصلا يقوم مقام القطع في أثره و هو التنجيز عند من يقول به.

ص: 79

.....

______________________________

او انه اشارة الى ان الاحتياط في المقرون بالعلم الاجمالي انما يكون عقليا حيث يكون علة تامة للتنجيز كما هو مختاره في مباحث البراءة، و اما ما سيأتي منه في مباحث القطع فان الظاهر منه كونه مقتضيا لا علة تامة، فيكون امر الشارع به جعلا منه للاحتياط لتنجيز الواقع كقوله عليه السّلام: اهرقهما و تيمّم.

او اشارة الى ان جعل الاحتياط النقلي متحقق في غير الشبهة البدوية و مورد العلم الاجمالي، كما في مقام علم من الشارع الاهتمام به كمورد الدماء و الفروج، فانه اصل قد جعل لتنجيز الواقع، فلسانه لسان احراز الواقع لا جعل الحكم في مقام الشك كوظيفة للجاهل.

و اما التخيير فلم يتعرّض المصنف لسبب عدم قيامه مقام القطع، و السبب فيه هو ان المراد من التخيير هو التخيير العقلي في مثل دوران الامر بين المحذورين، و من الواضح انه اصل ليس حكم العقل به لكونه طريقا الى الواقع، بل هو من الوظائف المقررة للجاهل بالحكم في مقام العمل، لوضوح كون المكلف حيث لا بد له من ان يفعل او يترك في مورد يحتمل كونه واجبا او محرما، و ان امره لا يخلو عن الفعل او الترك و لا يستطيع ان يحتاط بترك كلا الامرين بل لا مناص له من احدهما، و لا حجة له من الشارع في تعيين ما هو الواقع، و المحذور محتمل في كلا طرفي العمل و الترك- فلذا يحكم العقل له بالتخيير، فهو وظيفة له في مقام الشك و ليس واقعا في طريق الواقع حتى يمكن ان يقال بقيامه مقامه.

و بقي الاستصحاب و ان لسانه هل هو لسان الاحراز و الوقوع في طريق الواقع فيكون كالامارات، و يقوم مقام القطع الطريقي، او انه وظيفة للشاك فيكون كالبراءة و لا يقوم مقام القطع؟ و سنتعرّض ان شاء اللّه تعالى في الحاشية الآتية.

ص: 80

عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي

ثم لا يخفى إن دليل الاستصحاب أيضا لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقا، و إن مثل (لا تنقض اليقين) لا بد من أن يكون مسوقا إما بلحاظ المتيقن، أو بلحاظ نفس اليقين (1).

______________________________

(1) لم يشر المصنف الى الوجه في كون لسان دليل الاستصحاب ليس كلسان ساير الاصول في كونها وظيفة للشاك، فلذا لا تقوم مقام القطع الطريقي في الاحراز للواقع ليترتب عليها آثاره و احكامه كما عرفت مما مرّ.

و حاصل ما يمكن ان يكون وجها لكون الاستصحاب ليس كسائر الاصول هو ان الاستصحاب برزخ بين الامارات و الاصول الأخر، و لذا يكون حاكما عليها او واردا في مورد جريانه، و لا مجال لجريانها معه، كما لا مورد لجريانه في مورد قيام الامارة، فان لسان الاستصحاب لسان ابقاء الواقع و عدم رفع اليد عنه بمجرد الشك، و حيث كان لسانه ابقاء ما كان كان مجال لان يقال انه ليس هو مجرد كونه وظيفة في مقام الشك بل هو اقامة المشكوك المسبوق باليقين مقام المتيقّن، فيكون نحو لسان الجعل فيه نحو لسان الجعل في الامارة، و ان الاخذ به للبناء على انه هو الواقع.

هذا ما يمكن ان يقال في وجه استثناء الاستصحاب عن لسان ساير الاصول التي كانت هي محض وظيفة مقررة في مقام فقد العلم و الدليل.

و لكن بعد ما عرفت: من ان قيام شي ء مقام القطع ليس مجرد كونه مرجعا بعده، بل لا بد و ان يكون بلسان انه هو الواقع، و يتوقف هذا اللسان على كون المجعول له لسان الكشف عن الواقع، فيكون الجعل و الاعتبار متمما لذلك، و اما مع كون المفروض في الاستصحاب هو الشك الفعلي و ان كان مسبوقا باليقين فليس للاستصحاب لسان الكشف حتى يكون الجعل متمما له و مصححا لقيامه مقامه، و هو ايضا وظيفة من الوظائف المقررة للجاهل، فان الاستصحاب حيث ان مورده مورد الشك و هو تساوي الطرفين، فليس له لسان الكشف حتى يكون الجعل متمّما له، فان كون الشك محرزا مع كونه فرض تساوي الطرفين فرض الخلف، لعدم قابلية

ص: 81

.....

______________________________

الشك بما هو شك لان يكون محرزا، و لم يعتبر الشارع الاستصحاب لكونه من موارد الظنون، بل يظهر من الشارع إلغاء الظن الحاصل في مورده، و ان اعتباره له لكونه مسبوقا باليقين.

و على هذا، فغاية ما يدل عليه دليل الاستصحاب هو البناء عملا على بقاء اليقين، لا أن الشك المسبوق باليقين من المحرزات للواقع.

نعم لو كانت حجية الاستصحاب لا من جهة الاخبار بل كانت حجيته من باب كونه احد الظنون التي قام الدليل على اعتبارها- لكان لاستثناء الاستصحاب مجال، إلّا انه ليس بناء المصنف و غيره من المتأخرين على حجيته من هذا الباب، و انما كان حجة للاخبار الدالة على حجيته كما سيأتي مفصّل القول في ذلك في بابه، و انما كان حاكما على ساير الاصول لكونه امرا بالجري العملي على وفق اليقين إبقاء لليقين عملا في مورد الشك، و مع بقاء اليقين و لزوم الجري العملي على طبقه لا يكون الاستصحاب اصلا محضا في مقام الشك، بل يكون برزخا بين الامارة و ساير الاصول، و لذا كان الاستصحاب حاكما على ساير الاصول.

و على كل فلو قلنا بان لسانه لسان القيام مقام القطع فانما يكون قائما مقام القطع الطريقي دون الموضوعي، كما عرفت في لسان الطرق و الامارات، فلا يقوم الاستصحاب مقام القطع الموضوعي مطلقا سواء القطع الموضوعي الكاشفي أو الصفتي، و هو مراده من الاطلاق في قوله لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقا، لما عرفت من ان الدليل الدال على الاعتبار لا يعقل ان يكون دالا بالمطابقة بحسب اطلاقه على التنزيلين، لما تقدم من لزوم ذلك الجمع بين اللحاظين كما مرّ بيانه، و ان دليل الاعتبار اما ان يكون مسوقا لبيان القطع الطريقي او القطع الموضوعي، و الى هذا اشار بقوله: «و ان مثل لا تنقض اليقين لا بد من ان يكون مسوقا أما بلحاظ المتيقن» و هو القطع الطريقي الذي كان الملحوظ اعتبار المظنون او المشكوك هو المتيقن، و الغاء احتمال الخلاف فيه «او» يكون مسوقا «بلحاظ نفس

ص: 82

كلام المصنف في حاشية الرسائل

و ما ذكرنا في الحاشية في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع و القطع، و أن دليل الاعتبار إنما يوجب تنزيل المستصحب و المؤدى منزلة الواقع، و إنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما، و تنزيل القطع بالواقع تنزيلا و تعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة (1)- لا يخلو من تكلف بل تعسف. فإنه لا يكاد يصح تنزيل

______________________________

اليقين» و ملاحظة الظن بما هو ظن او الشك بما هو شك، و تنزيلهما منزلة القطع و نتيجته تنزيلهما منزلة القطع الموضوعي، و لا يعقل ان يكون دليل التنزيل دالا بالمطابقة عليهما معا بان يكون له اطلاق يشمل كلا التنزيلين بنحو المطابقة كما مرّ مفصلا.

(1) لا يخفى ان المصنف ذكر في حاشيته على الرسائل وجها لا مكان دلالة دليل الاعتبار على كلا التنزيلين، بان يكون دالا على احدهما بالمطابقة و على الآخر بالالتزام، و لا مانع منه لو تمّ، لان المحال دلالة دليل التنزيل عليهما معا بالمطابقة، و اما دلالته على احدهما بالمطابقة و على الآخر بنحو الكشف و الملازمة العرفية فيكون كاشفا عن حصول التنزيلين معا، فلا مانع منه و لا محالية فيه لعدم لزوم ما هو كالجمع بين اللحاظين فيه، فانه على هذا الوجه لو تمّ لدل على ان هناك تنزيلين و منزلين قد نظر الشارع فيهما الى لحاظ الاستصحاب و تنزيله منزلة القطع الطريقي، و له نظر آخر و تنزيل آخر قد نظر فيه الى تنزيله منزلة القطع الموضوعي ايضا، و هذا و ان ذكره في دليل الاستصحاب إلّا انه يجري حرفا بحرف في دليل الاعتبار الدال على جعل الامارة و تنزيلها منزلة القطع الطريقي ايضا.

و توضيحه يحتاج الى بيان امور توضيحا لاصل التقريب، و لعبارته في الكتاب:

الاول: ان القطع الموضوعي و ان كان تمام الموضوع بمعنى انه لو انكشف الخلاف لما كان مضرا في ترتيب الحكم، إلّا انه حيث كان لتعلق القطع بالخمر- مثلا- بالخصوص دخل في اخذه موضوعا للحكم المرتب عليه كان القطع جزء الموضوع

ص: 83

.....

______________________________

على كل حال، لفرض كونه مأخوذا بما هو متعلق بالخمر أو الوجوب موضوعا لوجوب التصدق، فللخمر او الوجوب دخل في ترتب الحكم و لو لكونهما قد اخذا متعلقا للقطع و لو لم يكن لوجودها الخارجي دخل في ذلك، و لكن هذا المقدار كاف في كون القطع جزءا لموضوع الحكم.

الثاني: ان الموضوع المركب من جزءين، تارة: يكون الموضوع بكلا جزأيه محرزا بالوجدان كالماء و الكرية المأخوذين موضوعا لعدم انفعال الماء. و اخرى يكون احد الجزءين محرزا بالوجدان كمائية الماء، و لكن كريّته محرزة بالاستصحاب بان كان متيقن الكريّة سابقا و مشكوكا فيها فعلا. و ثالثة: يكون كلا الجزءين محرزين بالاستصحاب كما لو كانت مائية الماء و كريته كلتاهما مشكوكتين، و لكنهما كانتا مسبوقتين باليقين بان كان هذا الماء سابقا ماء و كرا، فيجري الاستصحاب في كليهما و به يحرز كونه ماء و كرا بالفعل و يترتب عليه آثار الماء الكر المحرز بالوجدان.

الثالث: ان دليل الاعتبار يدل بالمطابقة على تنزيل المشكوك او المظنون منزلة المتيقن و المقطوع، فهو يدل بالمطابقة على تنزيل الاستصحاب و الامارة منزلة القطع الطريقي، و بعد تنزيل المستصحب و المؤدى منزلة الواقع يكون المستصحب و المؤدى حكما تعبديا تنزيليا، و يحصل القطع بهذا الحكم التعبدي التنزيلي، و هذا هو القطع بالواقع التنزيلي اللازم لجعل المستصحب و المؤدى منزلة الواقع، و هو مركب جعلي في ازاء المركب من القطع و الواقع في القطع الموضوعي، و هو الذي يشير اليه في عبارته (قدس سره) بقوله: «ملازمة بين تنزيلهما و تنزيل القطع بالواقع تنزيلا و تعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة».

و لما كان اطلاق دليل الاعتبار دالّا على لزوم ترتيب جميع ما للمتقين من الآثار على المشكوك و المظنون و من بعض آثار المتيقن كونه جزءا للقطع الموضوعي، و هو يتوقف على لحاظ آخر و تنزيل ثان للمشكوك و المظنون غير تنزيلهما منزلة المتيقن- فدليل الاعتبار الدال على لزوم ترتيب جميع الآثار على هذا المظنون و المشكوك

ص: 84

.....

______________________________

يتوقف على ان يكون هناك لحاظ و تنزيل آخر، قد لحظ الشارع فيه تنزيل المشكوك و المظنون منزلة المقطوع بما هو جزء الموضوع، فدليل الاعتبار الدال على لزوم ترتيب جميع الآثار على هذا المشكوك و المظنون سواء كان المشكوك و المظنون تمام الموضوع للاثر كما في القطع الطريقي او كانا جزءا لما هو موضوع الاثر، و دليل الاعتبار و ان كان ساكتا عن تعيين الجزء الآخر الذي يكون له مع المتيقن دخل في ترتب الحكم، إلّا ان الاطلاق في لزوم ترتيب جميع ما للمتيقن من الآثار على المشكوك و المظنون، بعد ان دلّ بالالتزام على ان يكون هناك لحاظ آخر للشارع للمشكوك و المظنون و تنزيله منزلة المتيقن بما له من الآثار، فيكون دالا على ان الجزء الآخر الذي قد لحظه الشارع في هذا التنزيل لترتيب جميع الآثار هو القطع دون شي ء آخر، و هو امر يفهمه العرف، فانه من المستبعد جدا ان يكون الجزء الآخر هو شي ء آخر غير القطع، فانه بعد ان كان دليل الاعتبار دالا باطلاقه على ترتيب جميع الآثار للمظنون، و منها الأثر المرتب على القطع بالواقع التنزيلي الحاصل قهرا من تنزيله منزلة المقطوع، فالعرف يفهم من هذا ان الجزء الآخر الذي لحظ بلحاظ آخر غير هذا اللحاظ الآلي هو القطع بالواقع التنزيلي، لا شي ء آخر غير القطع به.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 5 ؛ ص85

حصل مما ذكرنا: انّ لدليل الاعتبار دلالتين: دلالة بالمطابقة و هي تنزيل المظنون أو المشكوك منزلة المقطوع الطريقي، و دلالة بالالتزام و هي لحاظ القطع بالواقع التنزيلي منزلة القطع بالواقع بما هو جزء الموضوع.

و بعبارة اخرى: ان المحافظة على الاطلاق في لزوم ترتيب جميع الآثار على المشكوك و المظنون يدل بالمطابقة على تنزيلهما منزلة الواقع، و نتيجة هذا هو جعل المظنون و المشكوك كالمقطوع الطريقي، و حيث ان من جملة آثار الواقع كونه جزء الموضوع في القطع الموضوعي، و لزوم ترتيب هذا الاثر ايضا على المشكوك و المظنون لاجل الاطلاق فلا بد في لزوم ترتيب هذا الاثر المشمول للاطلاق ان يكون دالا بالالتزام على انه بعد تنزيل المشكوك و المظنون منزلة الواقع قد صار هذا المشكوك

ص: 85


1- 8. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

.....

______________________________

و المظنون واقعا تنزيليا، و قد حصل القطع به بواسطة هذا التنزيل المطابقي، و به يتم كلا جزأي المركب الجعلي، فانه بعد تنزيل المستصحب و المؤدى منزلة الواقع يحصل واقع جعلي و يحصل قطع بهذا الواقع الجعلي قهرا، و هو مركب بإزاء المركب من القطع بالواقع في القطع الموضوعي، و لازم اطلاق دليل الاعتبار لجميع الآثار التي من جملتها كون المؤدى و المستصحب جزء الموضوع أن يكون دالا على ان الشارع قد لحظ هذا المركب الذي حصل قهرا و نزله بتنزيل آخر منزلة القطع الموضوعي، فالاطلاق يدل على ان الجاعل قد لحظ ايضا بلحاظ آخر هذا القطع بالواقع التنزيلي و نزله منزلة القطع بالواقع الذي هو جزء الموضوع، كل ذلك محافظة على الاطلاق في لزوم ترتيب جميع الآثار التي للواقع على المشكوك و المظنون التي من جملتها ما كان الواقع فيها جزء الموضوع، فالقطع بالواقع التنزيلي و تنزيله منزلة القطع بالواقع الموضوعي قد حصل كلا جزأيه قهرا بواسطة الاطلاق في ترتيب جميع ما للواقع من الآثار على المشكوك و المظنون، التي من جملتها الحكم المرتب على الواقع باعتبار كونه جزء الموضوع للقطع الموضوعي، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و ما ذكرنا في الحاشية» أي في حاشيته على رسائل الشيخ «في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع و» منزلة «القطع و» طريق ذلك «ان دليل الاعتبار» بدلالته المطابقية «انما يوجب تنزيل المستصحب و المؤدى» في الاستصحاب و الامارات «منزلة الواقع» فهو لا يدل إلّا على تنزيل المظنون و المستصحب منزلة الواقع، فهو ناظر الى الطريقية فقط و الى ما كان القطع آليا لا استقلاليا، و اما الدلالة التي يكون القطع فيها ملحوظا بالاستقلال فانما هي لدلالة التزامية غير هذه الدلالة المطابقية اقتضاها الاطلاق في لزوم ترتيب جميع ما للواقع على المستصحب و المؤدى التي منها ما كان الواقع فيها جزء الموضوع، و الى هذا اشار بقوله: «و انما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة» فهي دلالة اخرى التزامية غير هذه الدلالة المطابقية تدل بان هناك ملازمة «بين تنزيلهما» أي بين تنزيل المستصحب و المؤدى

ص: 86

جزء الموضوع أو قيده، بما هو كذلك بلحاظ أثره، إلا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزا بالوجدان، أو تنزيله في عرضه، فلا يكاد يكون دليل الامارة أو الاستصحاب دليلا على تنزيل جزء الموضوع، ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر، فيما لم يكن محرزا حقيقة، و فيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة، كما في ما نحن فيه- على ما عرفت- لم يكن دليل الامارة دليلا عليه أصلا، فإن دلالته على تنزيل المؤدى تتوقف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة، و لا دلالة له كذلك إلا بعد دلالته على تنزيل المؤدى، فإن الملازمة إنما تدعى بين القطع بالموضوع التنزيلي و القطع بالموضوع الحقيقي، و بدون تحقق الموضوع التنزيلي التعبدي أولا بدليل الامارة لا قطع بالموضوع التنزيلي كي يدعى الملازمة بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي، و تنزيل المؤدى منزلة الواقع كما لا يخفى، فتأمل جيدا (1)، فإنه لا يخلو عن دقة.

______________________________

منزلة الواقع، و تنزيل آخر اقتضاه الاطلاق «و» هو «تنزيل القطع بالواقع تنزيلا و تعبدا» الحاصل هذا القطع بالواقع التنزيلي و التعبدي من تنزيلهما منزلة الواقع، فانه بعد تنزيل المستصحب و المؤدى منزلة الواقع يكون المستصحب و المؤدى من الواقع التنزيلي، و يحصل القطع بهذا التنزيل بواسطة دليل الاعتبار الدال بالمطابقة على تنزيلهما منزلة الواقع، و المحافظة على الاطلاق تقتضي ان يكون هناك تنزيل آخر غير التنزيل المطابقي و هو تنزيل القطع بالواقع التعبدي «منزلة القطع بالواقع حقيقة».

(1) قوله: «لا يخلو من تكلف بل تعسف» هذا خبر لقوله: «و ما ذكرنا في الحاشية» أي ما ذكرنا في الحاشية بالبيان الذي مر لا يخلو من تكلف و تعسف.

ص: 87

.....

______________________________

اما وجه كونه تكلفا فلعله لكون هذا التكليف كله انما هو للمحافظة على الاطلاق في لزوم ترتيب جميع الآثار التي منها كونه جزء الموضوع.

و لا يخفى ان كونه جزء الموضوع ليس من شئون تنزيل المستصحب و المؤدى منزلة الواقع، فان الاطلاق انما يقتضي ترتيب جميع ما للخمر الواقعية التي يكون القطع طريقا لها على الخمر التي تعلق الظن بها، و لا يدل الاطلاق على ترتيب آثار القطع بالخمر الواقعية على القطع بالخمر الجعلية، فان آثار المظنون ذاته من شئونه، و اما آثار القطع به فليس من شئونه، فكون هذا الاطلاق مقتضيا لذلك لا يخلو عن تكلف.

و اما كونه تعسفا فلما اشار اليه بقوله (قدس سره): «فانه لا يكاد يصح الخ» و توضيحه ببيان امرين:

الاول: ان تنزيل شي ء منزلة شي ء لا بد فيه من وجود اثر مفروغ عنه يكون التنزيل بلحاظه، اما اذا لم يكن هناك اثر فلا يعقل التنزيل و يكون لغوا.

الثاني: انه اذا كان هناك موضوع مركب لاثر من الآثار فتنزيل شي ء منزلة جزء هذا المركب لا يعقل إلّا ان يكون الجزء الآخر محرزا اما بالوجدان او تنزيل آخر يحرزه في عرض هذا التنزيل ليكون لتنزيل هذا الجزء اثر بالفعل بحسبه يصح التنزيل له.

اذا عرفت هذا- تعرف انه لا يعقل ان يكون الاطلاق ناظرا الى لزوم ترتيب جميع الآثار على المستصحب و المؤدى حتى كونه جزءا للموضوع، لوضوح ان نظره الى ذلك موقوف على لحاظ الجزء الثاني و هو القطع به ليكون لهذا الجزء اثر بالفعل، و الجزء الآخر و هو القطع به الذي هو القطع بالواقع التنزيلي يتوقف على الجعل المطابقي للمستصحب و المؤدى منزلة الواقع، فاللحاظ الاطلاقي لمثل هذا الاثر يتوقف على لحاظ الجزء الثاني و هو القطع به المتوقف هذا القطع على الجعل المطابقي للمستصحب و المؤدى، لوضوح انه بعد جعلهما بمنزلة الواقع يحصل القطع بهذا

ص: 88

.....

______________________________

الواقع التنزيلي، فالدلالة الالتزامية متوقفة على الدلالة المطابقية، و قد عرفت ان الاطلاق في الدلالة المطابقية يتوقف على الدلالة الالتزامية، فالاطلاق في الدلالة المطابقية يتوقف على الدلالة الالتزامية المتوقفة على الدلالة المطابقية، و هذا دور واضح، فتحقق الاطلاق في الدلالة المطابقية بحيث يكون ناظرا حتى الى التنزيل منزلة القطع الموضوعي مستلزم للدور فهو محال، لان ما يستلزم المحال محال.

هذا ما اورده في عبارته و لم يشر الى الامر الاول لمفروغيته، و لكن اشار الى الأمر الثاني بقوله: «فانه لا يكاد يصح الخ».

قوله: «تنزيله في عرضه» أي ان الجزء الآخر اذا لم يكن محرزا بالوجدان فلا بد و ان يكون محرزا بتنزيل في عرض هذا التنزيل للجزء.

قوله: «كما في ما نحن فيه» أي انه بعد ما عرفت من ان تنزيل شي ء منزلة جزء المركب يتوقف على احراز الجزء الآخر اما بالوجدان او بتنزيل آخر- يتضح انه في مثل ما نحن فيه الذي ليس هناك شي ء غير دليل الاعتبار الدال بالمطابقة على جعل الظن كالقطع الطريقي لا يعقل ان يكون له اطلاق يشمل تنزيل المستصحب و المؤدى منزلة الواقع بما هو جزء للقطع الموضوعي، لان تنزيل المستصحب و المؤدى منزلة الواقع بما هو جزء للموضوع في القطع الموضوعي لا يصح إلّا اذا كان جزء المركب الآخر محرزا و هو القطع بالواقع التنزيلي، اما بالوجدان و هو غير موجود او بتنزيل بدليل آخر غير هذا الدليل الذي كانت دلالته المطابقية هو الجعل الطريقي و هو غير موجود ايضا، فان المفروض انه ليس هناك دليل عدا دليل الاعتبار، و كون دليل الاعتبار له دلالتان: مطابقية على الجعل الطريقي، و التزامية على الجعل الموضوعي يلزمه الدور، و الى الدور اشار بقوله: «فان دلالته على تنزيل المؤدى» بما هو جزء الموضوع المستفاد من الاطلاق في الدلالة المطابقية «تتوقف على دلالته على تنزيل القطع» أي تتوقف على تنزيل القطع بالواقع التنزيلي الذي هو جزء الموضوع في هذا المركب «ب» واسطة «الملازمة دلالة الاطلاق على ذلك التنزيل للجزء الآخر، لما

ص: 89

.....

______________________________

عرفت من انه لا معنى لتنزيل شي ء منزلة جزء المركب ما لم يكن الجزء الآخر محرزا اما بالوجدان او بتنزيل آخر في عرض هذا التنزيل «و» المفروض انه «لا دلالة له كذلك» أي المفروض انه لا دلالة لدليل الاعتبار بنحو الاطلاق الشامل حتى لتنزيل الجزء في القطع الموضوعي «الا بعد دلالته» أي بعد دلالة دليل الاعتبار بالمطابقة «على» الجعل الطريقي الذي هو «تنزيل المؤدى» منزلة الواقع، فالدلالة المطابقية المتضمنة للاطلاق تتوقف على الدلالة الالتزامية المتوقفة هذه الدلالة الالتزامية على الدلالة المطابقية، و هو دور واضح، فيلزم من الاطلاق في الدلالة المطابقية الدور و ما يستلزم الدور محال، فالاطلاق في الدلالة المطابقية محال.

و الى توضيح هذا اشار بقوله: «فان الملازمة انما تدعى بين القطع بالموضوع التنزيلي» و هو القطع بالواقع التنزيلي «و القطع» بالواقع «بالموضوع» الواقعي في القطع الموضوعي.

و من الواضح توقف حصول القطع بالواقع التنزيلي على تنزيل المؤدى منزلة الواقع المدلول عليه بالدلالة المطابقية، و لذا قال: «و بدون تحقق الموضوع التنزيلي التعبدي اولا بدليل الامارة» الدال عليه بالمطابقة «لا قطع بالموضوع التنزيلي كي يدعى الملازمة» محافظة على الاطلاق «بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي و» بين «تنزيل المؤدى منزلة الواقع» ليكون لهذا التنزيل أثر حتى يصح التنزيل لجزء المركب، لما عرفت من ان تنزيل شي ء منزلة جزء المركب لغو ما لم يكن الجزء الآخر محرزا اما بالوجدان او بتنزيل آخر في عرض هذا التنزيل، و المفروض عدمهما و انه ليس هناك إلّا دليل الاعتبار فقط، و كونه دالا على التنزيلين معا يستلزم الدور كما عرفت.

ص: 90

الامر الرابع: اخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده

اشارة

ثم لا يذهب عليك أن هذا لو تم لعمّ، و لا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذا على نحو الكشف (1).

الامر الرابع: لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم للزوم الدور (2)، و لا مثله

______________________________

(1) حاصله: انه بناء على تمامية ما ذكره في الحاشية من دلالة دليل الاعتبار على التنزيلين معا، فلا وجه لاختصاص ذلك بتنزيل الظن منزلة القطع الكشفي، بل يعم القطع الماخوذ بنحو الصفتية، و لذا قال: «فان هذا لو تم لعمّ» أي لعمّ القطع الموضوعي الصفتي ايضا، و لا اختصاص له بما اذا كان مأخوذا بنحو الكشف فقط.

(2) قد عرفت فيما مرّ امكان اخذ القطع بالحكم او بالموضوع في حكم آخر، كاخذ القطع بالوجوب او بالخمر في وجوب التصدق، أمّا اخذ القطع بالوجوب في نفس ذلك الوجوب او اخذ القطع بالصلاة الواجبة في نفس وجوبها فغير معقول، للزوم الدور كما اشار اليه في المتن و الخلف ايضا، اما لزوم الدور فلوضوح توقف الحكم على موضوعه فيكون ذلك الحكم الشخصي بما انه جزء الموضوع فهو مما يتوقف عليه ذلك الحكم الشخصي، لفرض كون القطع به هو الموضوع لترتبه بنفسه على ذلك الموضوع، فهو من حيث كونه جزء الموضوع يكون موقوفا عليه، و من حيث كونه حكما لذلك الموضوع يكون موقوفا على الموضوع، لتوقف كل حكم على موضوعه، فيتوقف ذلك الحكم الشخصي باعتبار كونه حكما لموضوع على موضوعه، و من حيث كونه بنفسه جزء ما هو الموضوع له فيتوقف الموضوع المركب منه و من القطع عليه توقف المركب على اجزائه، فيكون تحقق ذلك الحكم الشخصي متوقفا على مركب يتوقف تحقق ذلك المركب على نفس ذلك الحكم الشخصي، و نتيجة ذلك توقف الحكم الشخصي على نفسه لتوقفه على موضوعه الذي كان ذلك الموضوع متوقفا عليه ايضا و الى هذا اشار بقوله: «لا يكاد يمكن ان يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم» الشخصي «للزوم الدور».

ص: 91

للزوم اجتماع المثلين (1)، و لا ضده للزوم اجتماع

______________________________

و لو قلنا بان هذا التوقف ليس من الدور لان الدور توقف موجود على موجود آخر يكون ذلك الموجود متوقفا على ما كان متوقفا عليه، و لكن محذور الدور موجود فيه و هو محالية توقف الشي ء على نفسه.

و لكن لا يخفى ان هذا الدور او محذوره انما يلزم تحققه في نظر القاطع لا في الواقع لجواز خطأ القطع، فيكون القطع بالحكم الموهوم موضوعا للحكم الواقعي، فيكون الموقوف غير الموقوف عليه فلا دور و لا نتيجته. بل يمكن منع الدور حتى عند القاطع، لان القطع متوقف على ماهية الحكم و وجود الحكم و كونه بالحمل الشائع حكما موقوفا على القطع المتعلق بهذه الماهية، فاختلف الموقوف و الموقوف عليه، و مع الاختلاف لا دور.

نعم يلزم الخلف من اخذه في موضوع نفسه، لوضوح ان فرض كونه جزء الموضوع فرض تحققه، و فرض توقف تحققه على تحقق موضوعه فرض عدم تحققه، فاخذه موضوعا لنفسه يلزم منه فرض تحققه و عدم تحققه و هو الخلف.

(1) لا يخفى انه كما لا يعقل اخذ القطع موضوعا لنفس الحكم الشخصي كذلك لا يمكن ان يكون القطع بالوجوب موضوعا لوجوب آخر لذلك الشي ء، بان يقول اذا قطعت بوجوب شي ء فذلك يكون واجبا ايضا بوجوب ثان وارد على ذلك الشي ء، فان لازمه اجتماع وجوبين على ذلك الشي ء، لوضوح محاليه جعل بعثين بداعي جعل الداعي متسلطين على شي ء واحد و محركين اليه، و الى هذا اشار بقوله:

«و لا مثله للزوم اجتماع المثلين».

و لا يخفى ان هذا ايضا انما يلزم بنظر القاطع لا في الواقع، لجواز خطأ القطع فلا يكون هناك الا تحريك واحد، و هو التحريك الثاني الذي كان موضوعه هو القطع بالوجوب.

ص: 92

الضدين (1)، نعم يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه أو مثله أو ضده (2).

______________________________

(1) لا يخفى ان القطع بوجوب شي ء لا يعقل ان يكون موضوعا لحكم ضد ذلك الوجوب واردا على ذلك الموضوع، فانه يلزم منه اجتماع الضدين على موضوع واحد بنظر القاطع ايضا، فلا يعقل ان يقول المولى اذا قطعت بوجوب الصلاة فهي محرمة او مباحة و هذا واضح.

(2) قد تقدم ان للحكم مراتب، و المحال هو اخذ القطع بالحكم موضوعا للحكم في المرتبة التي تعلق بها القطع، او موضوعا لحكم آخر مثله في نفس تلك المرتبة او لحكم آخر ضده في نفس تلك المرتبة ايضا.

اما اخذ القطع بالحكم في مرتبة موضوعا لنفس الحكم في المرتبة الاخرى، بان يقول اذا قطعت بالوجوب الانشائي يكون واجبا بالفعل، فلا مانع منه لقابلية الحكم الانشائي ان يترقى الى المرتبة الفعلية بواسطة القطع به، فيكون القطع بالحكم بمرتبته الانشائية مبلغا لنفس ذلك الحكم لمرتبة الفعلية، و لا محذور فيه اصلا، لا محذور الدور لتعدد الموقوف و الموقوف عليه، فان الحكم بمرتبته الفعلية موقوف على الحكم بمرتبته الانشائية، و الحكم بمرتبته الانشائية ليس موقوفا على الحكم بمرتبته الفعليّة.

و لا خلف ايضا لان لزوم الخلف هو فرض كونه موجودا في مرتبته و ليس بموجود في تلك المرتبة، اما فرض كونه موجودا في مرتبة و ليس بموجود في مرتبة اخرى فلا خلف فيه.

و كذلك لا مانع من كون القطع بالحكم بمرتبته الانشائية موجبا لجعل حكم آخر مثله او ضده في المرتبة الفعلية، فلا مانع منه ايضا لجواز ان يقول اذا قطعت بوجوب الصلاة الانشائي فالصلاة واجبة بوجوب آخر فعلي، او انها تكون فعلا محرمة او مباحة و لا محذور في هذا الحكم، فالحكم الانشائي موضوعه نفس الصلاة، و القطع

ص: 93

أخذ الظن بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده

و أما الظن بالحكم، فهو و إن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون، إلا أنه لما كان معه مرتبة الحكم الظاهري محفوظة، كان جعل حكم آخر في مورده- مثل الحكم المظنون أو ضده- بمكان من الامكان (1).

______________________________

كان طريقا اليه، و القطع المتعلق به بهذه المرتبة يكون موضوعا و سببا لحكم آخر في المرتبة الفعلية.

لا يقال: القطع بالحكم بمرتبته الانشائية يوجب بلوغه لمرتبة الفعلية فيلزم من جعل الحكم الآخر في المرتبة الفعلية اجتماع المثلين فيما كان الحكم الثاني- مثلا- للحكم الانشائي، و الضدين فيما كان ضدا له لان الحكم الانشائي بتعلق القطع به يكون فعليا، و قد فرضنا ان تعلق القطع به سبب لحكم آخر فيجتمع الحكمان في المرتبة الفعلية، فان كانا مثلين كان من اجتماع المثلين، و ان كانا ضدين كان من اجتماع الضدين.

فانه يقال: ان هذا انما يلزم حيث يكون بلوغ الحكم الانشائي لمرتبة الفعلية قد تمت جميع شرائطه عدا تعلق القطع به، اما اذا لم يستوف جميع الشرائط فان تعلق القطع به لا يبلغه للمرتبة الفعلية و يكون باقيا على انشائيته، و حينئذ لا يلزم اجتماع المثلين أو الضدين، لوضوح عدم المانع من اجتماع الحكمين المتماثلين او المتضادين في مرتبتين، و انما المحال اجتماعهما في مرتبة واحدة و لذا قال (قدس سره): «نعم يصح اخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اخرى منه» أي من نفس ذلك الحكم بان يكون القطع بمرتبته الانشائية موجبا لترقيه و جعله فعليا، و يصح ايضا اخذ الحكم بمرتبته الانشائية موضوعا لمثل ذلك الحكم او لضد ذلك الحكم في المرتبة الفعلية، و الى هذا اشار بقوله: «او مثله او ضده».

(1) حاصله: انه فرق بين القطع و الظن، فان الظن مثل القطع في عدم امكان اخذه موضوعا لنفس ذلك الحكم، فلا يعقل ان يكون الظن بالوجوب الفعلي موضوعا

ص: 94

.....

______________________________

لنفس ذلك الوجوب الفعلي، و اما اخذ الظن بالحكم الفعلي موضوعا لحكم آخر مثل ذلك الحكم او ضدا لذلك الحكم فلا مانع.

اما عدم امكان اخذه في موضوع نفسه كالقطع فلبداهة استلزام ذلك للخلف، لان فرض كونه متعلقا للظن فرض كون موضوعه و متعلقه ليس هو الظن، بل الصلاة- مثلا- او غيرها من متعلقات الاحكام، و فرض كون موضوعه هو الظن به فرض عدم كون موضوعه هو الصلاة او غيرها، بل موضوعه نفس الظن المتعلق به دون الصلاة او غيرها من متعلقات الاحكام، فاخذ الظن بالحكم في موضوع شخص ذلك الحكم لازمه فرض الحكم و فرض عدم الحكم و هذا خلف واضح، و الى هذا اشار بقوله: «و اما الظن بالحكم فهو و ان كان كالقطع في عدم جواز اخذه في موضوع نفس ذاك الحكم المظنون» بنفسه و بشخصه لما عرفت من لزوم الخلف.

و اما امكان اخذه موضوعا لحكم آخر مثله او ضده في نفس مرتبته فلا مانع منه، و هو ليس كالقطع من هذه الجهة لان القطع بالحكم بمرتبة الفعلية وصول للحكم تام لا مجال لاحتمال الخلاف فيه، فيلزم من كونه موضوعا لحكم آخر مثله او ضده في مرتبة الفعلية القطع باجتماع المثلين او الضدين، و اما الظن فحيث انه ليس وصولا تاما للشي ء المتعلق به و احتمال الخلاف فيه موجود، فلا يلزم من جعل حكم آخر في تلك المرتبة القطع باجتماع المثلين او الضدين، فيجوز للمولى ان يقول اذا ظننت بوجوب الصلاة فالصلاة تكون واجبة بالفعل او محرمة او مباحة، و الى هذا اشار بقوله: «إلّا انه لما كان معه» أي مع الظن حيث كان مشوبا باحتمال الخلاف و لم يكن الحكم المتعلق به الظن تام الوصول، فلا يلزم من جعل الحكم في هذه المرتبة قطع باجتماع المثلين، لفرض كونه ظنا غير تام الوصول، فهناك مجال لجعل حكم آخر موضوعه الظن بالحكم الواقعي، فيقول المولى اذا ظننت بالحكم الواقعي فقد جعلت ذلك الحكم ثانيا في ظرف ذلك الظن، و يكون هذا الحكم حكما ظاهريا آخر موضوعه الظن بالحكم الواقعي.

ص: 95

إن قلت: إن كان الحكم المتعلق به الظن فعليا أيضا، بأن يكون الظن متعلقا بالحكم الفعلي، لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعلي آخر مثله أو ضده، لاستلزامه الظن باجتماع الضدين أو المثلين، و إنما يصح أخذه في موضوع حكم آخر، كما في القطع، طابق النعل بالنعل (1).

______________________________

و بعبارة اخرى: انه لا مانع من الحكم الظاهري حيث لم ينكشف الحكم الواقعي، حيث عرفت ان المانع منه في القطع هو القطع باجتماع المثلين او الضدين، و في مورد احتمال الخلاف لا قطع باجتماع المثلين او الضدين، فلا مانع من جعل حكم آخر مثل الحكم المتعلق به الظن او ضده، و الى هذا اشار بقوله: «لما كان معه مرتبة الحكم الظاهري محفوظة» لفرض احتمال الخلاف و عدم وصول الحكم الواقعي تماما لذلك «كان جعل حكم آخر في مورده مثل الحكم المظنون او ضده بمكان من الامكان» لما عرفت من عدم المانع الموجود في مورد القطع بالحكم.

(1) حاصله: ان المحال لا بد و ان يكون مقطوعا بعدمه، فكما ان ما يوجب القطع بالمحال محال كذلك ما يوجب الظن بالمحال محال ايضا، فكيف يعقل ان يكون الظن بالحكم الواقعي الفعلي موضوعا لحكم آخر فعلى مثله او ضده، فانه لا محالة يوجب الظن باجتماع المثلين او الضدين في المرتبة الفعليّة، و هو محال كالقطع باجتماع المثلين او الضدين لما عرفت، اذ المحال لا بد و ان يكون مقطوع العدم لا محتملا، و احتمال المحال كالقطع بالمحال.

نعم لا مانع من اخذ الظن بالحكم الواقعي موضوعا لحكم آخر او اخذ الظن بالحكم في مرتبة موضوعا للحكم في مرتبة اخرى، فالظن كالقطع من دون خلاف بينهما اصلا، و ما يجوز في القطع يجوز في الظن و ما لا يجوز في القطع لا يجوز في الظن، و لذا قال (قدس سره): «كما في القطع طابق النعل بالنعل» أي ان الحال في الظن كالحال في القطع سوى ان اللازم في القطع هو القطع بالمحال و في الظن الظن بالمحال، و قد عرفت ان الظن بالمحال كالقطع بالمحال محال ايضا.

ص: 96

قلت: يمكن أن يكون الحكم فعليا، بمعنى أنه لو تعلّق به القطع- على ما هو عليه من الحال- لتنجز و استحق على مخالفته العقوبة، و مع ذلك لا يجب على الحاكم دفع عذر المكلف، برفع جهله لو أمكن، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن، بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة، و إلى ضدّه أخرى، و لا يكاد يمكن مع القطع به جعل حكم آخر مثله أو ضده، كما لا يخفى (1)،

______________________________

(1) توضيحه ببيان امور: الاول: ان هذا الاشكال لا يختص بالمقام و هو فيما اخذ الظن بالحكم الواقعي موضوعا لحكم آخر مثله او ضده، بل هو مشترك الورود في الامارات المعتبرة و الاصول الجارية في مورد الشك في الحكم الفعلي، كما سيجي ء ان شاء اللّه تعالى التعرض له في مبحث الامارات في الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.

الثاني: ان الظن المأخوذ موضوعا لحكم مثل الحكم الواقعي او ضده هو الظن غير المعتبر طريقا الى الواقع، اذ لو كان هو الظن المعتبر لما كان قسما في قبال الامارات المعتبرة و الاصول، و انما كان هذا الظن قسما في قبال الامارات لكونه مأخوذا لمحض الموضوعية للحكم الثاني.

الثالث: ان التماثل و التضاد بين الاحكام انما يكون في الفعلية الحتمية، لوضوح ان البعث الفعلي المنجز في مورد لا يقبل بعثا آخر نحوه او زجرا عنه فيتماثلان او يتضادان، اما اذا كان الحكم غير بالغ هذه المرتبة بل كانت فعليته معلقة، فيكون حاله حال الحكم الانشائي مع مثله او ضده من الحكم الفعلي، و قد عرفت انه لا مانع من اجتماعهما في القطع فضلا عن الظن.

الرابع: ان الحكم لا بد ان يكون منبعثا عن مصلحة ملزمة، و لكنها تارة: تكون مما يجب ايصالها و ان يكون المولى بصدد ايصالها، لانها تكون من الالزام بحد تدعو المولى الى ايصالها اما بالعلم او باقامة الحجة عليها او بالاحتياط في موردها، و هذه هي المرتبة التي يكون الحكم فيها فعليا حتميا.

ص: 97

.....

______________________________

و اخرى: لا تكون المصلحة الملزمة بهذا المقدار من الالزام بحيث تدعو الى ايصالها اما بالعلم او بجعل الاحتياط او باقامة الحجة عليها، و يكون حدها انها بحيث لو علم بها من باب الاتفاق لتنجزت، و الحكم في مثل هذا الفرض يكون فعليا غير حتمي و تكون فعليته تعليقية، لانها بحيث لو علم بها لتنجزت، و حال هذه الفعلية حال المرتبة الانشائية لعدم بلوغ الحكم الى حد يستحق فاعله المثوبة و تاركه العقوبة، و الحكم في هذه المرتبة ليس باعثا و لا زاجرا بالفعل.

اذا عرفت هذه الامور- تعرف الفرق بين الظن المأخوذ في الموضوع و بين القطع المأخوذ كذلك، فان الظن غير المعتبر و كان اخذه لمحض كونه موضوعا لحكم ثان لا يكون منجزا للحكم الفعلي التعليقي، فلا مانع من جعل حكم مماثل للحكم الواقعي او مضاد له لفرض كون الفعلية فعلية تعليقية و ليست بعثا و زجرا بالفعل، فلا مانع من ان يكون هناك بعث آخر أو زجر آخر متعلقين بمتعلق الحكم الواقعي، بخلاف القطع فانه لو تعلق بالمرتبة التعليقية لتنجزت، و حينئذ لا يعقل في موردها جعل حكم آخر مثل الحكم الواقعي او ضده، للزوم اجتماع المثلين على الاول و الضدين على الثاني.

فاتضح الفرق بين الظن و القطع في امكان اخذ الاول موضوعا لحكم مثل الحكم الواقعي او ضدا له، و قد اشار الى خصوص المقدمة الرابعة بقوله: «يمكن ان يكون الحكم فعليا» معلقا لا حتميا و لا تكون مصلحته تدعو الى الايصال كما تدعو مصلحة الحكم الظاهري الى جعل الحكم على طبقها، و فسر الفعلية التعليقية بقوله:

«بمعنى انه لو تعلق به القطع على ما هو عليه من الحال لتنجز و» حينئذ يكون فعليا حتميا «استحق» تاركه «على مخالفته العقوبة و مع ذلك» أي و مع كون المصلحة بهذا المقدار «لا يجب على الحاكم دفع عذر المكلف ب» لزوم «رفع جهله» اما بالحجة او بجعل الاحتياط، و الى هذين اشار بقوله: «لو امكن او يجعل لزوم الاحتياط عليه».

ص: 98

فافهم (1).

إن قلت: كيف يمكن ذلك؟ و هل هو إلا أنه يكون مستلزما لاجتماع المثلين أو الضدين؟

______________________________

و حيث ان الحكم في المرتبة الفعلية التعليقية ليس بعثا و زجرا بالفعل و لا يجب على الحاكم ايصاله بنحو من انحاء الايصال «بل يجوز جعل اصل او امارة مؤدية اليه تارة و الى ضده اخرى» لعدم كونه في هذه المرتبة باعثا و زاجرا حتى لا يعقل بعث آخر أو زجر آخر في مورده، و كما يجوز جعل الاصل و الامارة في مورد هذه الفعلية كذلك يجوز اخذ الظن غير المعتبر في مورده موضوعا لحكم مثل الحكم الواقعي أو ضده، و لا يجوز ذلك في القطع لفرض تنجزه و فعليته الحتمية بمجرد تعلق القطع به، فاتضح الفرق بين اخذ الظن موضوعا للحكم المماثل و المضاد و اخذ القطع موضوعا لهما، و لذا قال: «و لا يكاد يمكن مع القطع به جعل حكم آخر مثله او ضده».

(1) لعله اشارة الى انه ينافي ما مر منه من انحصار مراتب الحكم في اربع، فان الفعلية اذا كانت حتمية و تعليقية كانت الاقسام خمسة لا اربعة.

او انه اشارة الى انه خلاف الفرض، فان الفرض هو الفرق بين الظن و القطع مع كون الحكم بالغا الى مرتبة الفعلية، و الفعلية التعليقية هي مرتبة الانشاء في الحقيقة، و التعبير عنها بالفعلية التعليقية لا يغير واقعها عما هو عليه، ففي مرتبة الفعلية الحتمية لا فرق بين الظن و ان كان غير معتبر و بين القطع في عدم امكان اخذهما موضوعا لحكم مماثل او مضاد للحكم الواقعي، لكون احتمال المحال كالقطع بالمحال، و ينحصر الجواب بما ياتي في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي من انه لا فعلية إلّا بالوصول، و ما لم يصل الحكم اما بالعلم او بايجاب الاحتياط في مورده لا محالة يكون انشائيا، و ان شئت فسمه فعليا معلقا.

ص: 99

قلت: لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى- أي لو قطع به من باب الاتفاق لتنجز- مع حكم آخر فعلي في مورده بمقتضى الاصل أو الامارة، أو دليل أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص، على ما سيأتي من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري و الواقعي (1).

الامر الخامس: هل تنجز التكليف بالقطع- كما يقتضي موافقته عملا- يقتضي موافقته التزاما، و التسليم له اعتقادا و انقيادا؟ كما هو اللازم في الاصول الدينية و الامور الاعتقادية، بحيث كان له امتثالان و طاعتان، إحداهما بحسب القلب و الجنان، و الاخرى بحسب العمل بالاركان،

______________________________

(1) ليس في هذا الا التكرير و الايضاح لما سبق، و ان هذا المتوهم تخيل ان محض اسم الفعلية بأي معنى كانت لازمها الظن باجتماع المثلين او الضدين.

و حاصل قلت: انه ليس كل فعلية مستلزمة لذلك، بل المستلزمة لذلك هي الفعلية الحتمية دون التعليقية، و لذا قال: «لا باس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى» و هي الفعلية التعليقية مع حكم فعلي حتمي مماثل او مضاد في مورد الحكم الواقعي التعليقي، و قد اشار الى ان هذا الاشكال مشترك الورد بين الاصل و الامارات المعتبرة و بين مقامنا و هو اخذ الظن غير المعتبر موضوعا للحكم المماثل او المضاد و هو الامر الاول الذي ذكرناه بقوله: «مع حكم آخر فعلي في مورده بمقتضى الاصل او الامارة او دليل اخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص» و هو مقام بحثنا في هذا الامر.

ص: 100

الأمر الخامس: الموافقة الالتزامية و عدم وجوبها

اشارة

فيستحق العقوبة على عدم الموافقة التزاما و لو مع الموافقة عملا، أو لا يقتضي؟ فلا يستحق العقوبة عليه، بل إنما يستحقها على المخالفة العملية. الحق هو الثاني، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الاطاعة و العصيان بذلك، و استقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لامر سيده إلا المثوبة دون العقوبة، و لو لم يكن متسلما و ملتزما به و معتقدا و منقادا له (1)، و إن كان ذلك يوجب تنقيصه و انحطاط درجته لدى سيده،

______________________________

(1) توضيح الحال في هذا الامر يقتضي التكلم في جهات:

الاولى: في حقيقة الموافقة الالتزامية.

الثانية: في انها هل هي باقتضاء من نفس ادلة التكاليف او لقيام دليل خارجي عليها كمثل وجوب التصديق بجميع ما جاء به النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم؟

الثالثة: في انه لو كانت واجبة اما لدلالة نفس ادلة التكاليف عليها او الدليل الخارجي لوجب الالتزام بها فتجب الموافقة الالتزامية اجمالا في مورد لم يعلم الحكم فيه تفصيلا، بان يكون الالتزام اجمالا كافيا في امتثالها كما يجب الالتزام التفصيلي.

الرابعة: في مانعيتها عن اجراء الاصول في اطراف المعلوم بالاجمال و عدم مانعيتها عنه، و سيأتي الكلام في الجهة الثالثة و الرابعة عند تعرّض المصنف لهما في هذا الامر.

و اما الجهة الاولى فقد اشار اليها المصنف اشارة اجمالية بقوله كما هو اللازم في الاصول الدينية و الامور الاعتقادية.

و توضيح ذلك: ان الموافقة الالتزامية التي ادعي وجوبها مضافا الى الموافقة العملية ليست هي نفس العلم بالشي ء، فانه ربما يحصل العلم بالشي ء و لا يكون هناك التزام و لا تسليم من العالم بالشي ء، كما حكى اللّه ذلك عن الكفار برسالة النبي

ص: 101

.....

______________________________

صلى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله عزّ و جل: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ 9] فلو كان نفس العلم بالشي ء هي الموافقة الالتزامية لما كان من ايقن بصحة رسالة الرسول بكافر، مع انه عزّ و جل سمّاهم بالكفار.

فيتضح ان الموافقة الالتزامية هي فعل من افعال النفس و هو عقد القلب و البناء على الالتزام بما علم صحته، فالموافقة الالتزامية التي ادعي وجوبها في الاحكام هي نفس الواجبة في الاصول الدينية كالاعتقاد بوجود الواجب جلّ و علا و وحدانيّته و الاعتقاد بالاسلام و بصحة الرسالة، و من الواضح انه لا ملازمة بين العلم بالشي ء و بين عقد القلب عليه و التسليم له، و لذا كان من علم بصحة رسالة الرسول مستيقنا بها و لكنه لم يعقد قلبه عليها و لا سلّم لها من الكفار، فمحل الكلام و هو انه هل يجب على المكلف عقد قلبه و التسليم للاحكام الفرعية التي وصلت اليه اما بالعلم او بقيام الحجة عليها مضافا الى وجوب موافقتها عملا كما يجب عليه ذلك في الاصول الاعتقادية ام لا يجب عليه ذلك؟

و مما ذكرنا في توضيح الموافقة الالتزامية- يتضح ان الموافقة الالتزامية التي هي عقد القلب او التسليم ليست هي الاتيان بقصد امتثال الامر، و الّا للزم عدم صحة تقسيم الاحكام الى تعبدية و توصلية، و لكانت الاحكام كلها تعبديّة و هو واضح الفساد، لان المدعي وجوب الموافقة الالتزامية يدعي وجوبها في جميع الاحكام التوصلية و التعبديّة.

و اما الجهة الثانية و هي البحث عن الدليل الدال على وجوب هذه الموافقة فخلاصة الكلام فيه ان الدليل عليها امّا نفس ادلة التكاليف او دليل خارجي كوجوب تصديق النبي.

ص: 102

.....

______________________________

و قد اشار المصنف الى الاول دون الثاني، و حاصله: انه لا دلالة لنفس الدليل المتعلق بالافعال على وجوب هذه الموافقة، لان الدليل اما هو الامر وجوبا باتيان فعل من الافعال او النهي عن ارتكابه لزوما، و كل منهما له هيئة و مادة، و من الواضح ان المادة هي نفس الفعل المتعلق به الامر او النهي، و الهيئة هي ما دل على طلب الفعل او طلب الترك، و من البيّن عدم دلالة المادة و لا الهيئة على الموافقة الالتزامية التي هي عقد القلب، اما عدم دلالة المادة على ذلك فواضح جدا لان المستفاد منها هو نفس الفعل المتعلق للامر او للنهي و لا ربط لنفس الفعل بعقد القلب عليه، و اما الهيئة فالمستفاد منها هو طلب اتيان الفعل خارجا او تركه خارجا و لا دلالة لها على اكثر من الطلب للاتيان الخارجي او لتركه كذلك، و الاتيان خارجا و عدمه من افعال الجوارح، و عقد القلب من افعال الجوانح، فاذا كان المستفاد من الهيئة هو العمل المتعلق بالجوارح فعدم تعلق الهيئة بالعمل الجانحي واضح ايضا.

فدعوى نفس الدليل على وجوب الموافقة لا تخلو عن جزاف لانها ترجع الى دعوى دلالة من غير دال.

هذا مضافا الى ما اشار اليه المصنف في عبارة المتن من انه لو كان لنفس الدليل دلالة على وجوب الموافقة الالتزامية لكان لكل حكم من الاحكام التي تعلق بها الامر و النهي امتثالان و معصيتان، احدهما يتعلق بوجوب عقد القلب عليه، و الثانية باتيانه، فمن فعل ما امر به غير عاقد قلبه عليه كان مطيعا من ناحية و عاصيا من ناحية اخرى، و الوجدان احق شاهد على كذب هذه الدعوى، فان المولى اذا امر عبده بشي ء ففعله من غير عقد قلبه عليه لا يكون مستحقا للعقاب، و لو كان كل تكليف منحلا الى تكليفين جانحي و خارجي لكان مثل هذا العبد ممن يستحق العقاب.

ص: 103

لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه و الانقياد لها، و هذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لامره أو نهيه التزاما مع موافقته عملا، كما لا يخفى (1).

______________________________

و بعبارة اخرى: ان المدار في صحة عقوبة العبد هو كونه طاغيا على مولاه و ظالما له، و العبد الذي يفعل ما امره به مولاه و ان لم يكن قد عقد قلبه عليه لا يكون طاغيا على مولاه و متحديا مراسم العبودية.

فاتضح ان دعوى دلالة نفس ادلة التكاليف على وجوب الموافقة الالتزامية لا تخلو عن مجازفة لانها دعوى من غير بيّنة على ذلك، و لعدم دلالة من نفس ادلة التكاليف على ذلك و لعدم مساعدة الوجدان عليها. و الى شهادة الوجدان بعدم وجوب الموافقة الالتزامية الذي هو المرجع في باب الاطاعة و العصيان اشار بقوله: «الحق هو الثاني» و هو عدم اقتضاء ادلة التكاليف للزوم الموافقة الالتزامية «لشهادة الوجدان الى آخر عبارته».

(1) لا يخفى ان هنا أمرين: مرحلة تمام الاخلاص للمولى، و الالتزام بأكمل مراسم العبودية، و لا اشكال في ان الالتزام باحكامه و التسليم لاوامره و نهيه من درجات تمام الاخلاص، و ليس هذا هو محل البحث في المقام، بل الكلام في مرحلة وجوب هذا الالتزام و ان مخالفته كالمخالفة العملية مما يستحق المكلف عليها العقاب، و قد عرفت انه لا يساعد هذه الدعوى نفس دليل الاحكام و لا الوجدان، و اما كونها داخلة في العبودية الكاملة و الاخلاص التام فليس ذلك من محل البحث.

و اما دلالة الدليل الخارجي على وجوب هذه الموافقة، و هو مثل ما دل على وجوب تصديق النبي بكل ما جاء به فلا دلالة لمثل هذا على وجوب هذه الموافقة الالتزامية، بعد ما عرفت من ان المراد من الموافقة الالتزامية هو عقد القلب، فان الظاهر من هذا هو لزوم الاعتقاد بكون النبي صادقا فيما جاء به من الاحكام، و انه وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى و هذا امر يعتقده كل من صدق

ص: 104

ثم لا يذهب عليك، إنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية، لو كان المكلف متمكنا منها تجب، و لو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا، و لا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضا لامتناعهما، كما إذا علم إجمالا بوجوب شي ء أو حرمته، للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعا، و الانقياد له و الاعتقاد به بما هو الواقع و الثابت، و إن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة (1).

______________________________

بالرسالة، لان عدم التصديق بذلك يرجع الى عدم الاعتقاد بصحة الرسالة، و هذا غير وجوب عقد القلب الذي ربما يكون عدمه متحققا مع اليقين بالصحة، كما عرفت في الكفار المستيقنين بصحة الرسالة غير العاقدين قلوبهم عليها و المنكرين لها بألسنتهم، فاتضح انه لم يتم ايضا دليل من الخارج يدل على وجوب هذه الموافقة الالتزامية.

(1) هذه هي الجهة الثالثة التي اشرنا اليها سابقا، و حاصلها: انه لو قلنا بلزوم الموافقة الالتزامية اما لدلالة نفس ادلة التكاليف عليها او لدلالة دليل خارجي عليها، فهل تجب فيما لا تجب الموافقة العملية كما في مقام دوران الامر بين المحذورين؟ فان الموافقة العملية القطعية غير ممكنة لعدم تبيّن الحكم الواقعي و عدم امكان الاحتياط فيه لفرض دوران الفعل بين كونه واجبا او حراما، فالموافقة العملية لا تجب لعدم امكانها.

و اما الموافقة الالتزامية فحيث انه لا يمكن الالتزام بالحكم بعينه تجب موافقته بنحو الاشارة اليه لتعذر الموافقة التفصيلية و امكان الموافقة الاجمالية، فيجب الالتزام بالحكم الواقعي بما له من عنوانه الواقعي بنحو الاشارة اليه اجمالا لعدم العلم به تفصيلا، و الى هذا اشار بقوله: «تجب» أي تجب الموافقة الالتزامية على القول بوجوبها «و لو فيما لا يجب عليه» أي على المكلف «الموافقة القطعيّة عملا» لعدم امكانها كما في دوران الامر بين المحذورين، و فيه كما لا تجب الموافقة القطعية «لا

ص: 105

و إن أبيت إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه، لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة، و لما وجب عليه الالتزام بواحد قطعا، فإن محذور الالتزام بضد التكليف عقلا ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة، مع ضرورة أن التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام لم يكد يقتضي إلا الالتزام بنفسه عينا، لا الالتزام به أو بضده تخييرا (1).

______________________________

يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك ايضا» حيث نقول بالتخيير الاستمراري فيه، فانه عليه لا مانع من المخالفة القطعية ايضا، فانه مع التخيير الاستمراري بين الفعل او الترك يقطع بالمخالفة القطعية، و مع استمرار التخيير كما يمتنع وجوب الموافقة يمتنع ايضا حرمة المخالفة، و اليه اشار بقوله: «لامتناعها» و ذلك «كما اذا علم اجمالا بوجوب شي ء او حرمته» ففي مثله تجب الموافقة الالتزامية بناء عليها و ان لم تجب الموافقة العملية و لا تحرم المخالفة العملية ايضا «للتمكن من» الامتثال فيها دون العملية و ذلك ب «الالتزام» بما هو الثابت واقعا من الحكم بما له من عنوانه الواقعي بالاشارة اجمالا اليه، فيمكن الالتزام به و الانقياد له و الاعتقاد به «بما» انه «هو الواقع و الثابت و ان لم يعلم انه» هو «الوجوب» بخصوصه «او الحرمة» بخصوصها.

(1) حاصله: انه ان لم نقل بوجوب الالتزام بنحو الاجمال فلازمه عدم وجوب الالتزام، لان وجوب الالتزام بالحكم بخصوص ما له من العنوان في مقام دوران الامر بين المحذورين غير ممكن، فاذا قلنا بلزوم الالتزام بالحكم بعنوانه في المقام فلا بد من سقوط التكليف به لعدم امكانه.

و لا يمكن ان يدعى انه اذا لم يمكن الالتزام به بخصوصه يمكن ان يلتزم باحدهما على وجه التخيير.

فانها دعوى واضحة البطلان، اولا: لوضوح انه لا يمكن ان تستلزم اطاعة الشي ء العصيان من وجه آخر، فان الالتزام بما ليس بحكم واقعا انه هو الحكم واقعا

ص: 106

جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي

و من هنا قد انقدح أنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاصول الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم (1) لو كانت جارية، مع

______________________________

تشريع محرم، فلا يعقل ان تجب الموافقة الالتزامية باحدهما تخييرا لاستلزامه التشريع، و الى هذا اشار بقوله: «فان محذور الالتزام بضد» الواجب «ليس باقل من محذور عدم الالتزام به بداهة» لبداهة الحرمة التشريعية فلا يعقل ان تجب الموافقة الالتزامية حيث تستلزم الحرمة التشريعية.

و ثانيا: ان وجوب الموافقة القطعية بناء على انها مستفادة من ادلة التكاليف، فمن الواضح ان التكليف انما يدعو الى وجوب الالتزام به بعنوانه الخاص به، و لا يعقل ان يقتضي وجوب الالتزام به او بضدّه، فان الامر بوجوب الالتزام بالحكم الذي تعلق الامر او النهي به انما يدعو الى الالتزام بذلك العنوان الذي وقع متعلقا للامر أو النهي، و متعلق الامر أو النهي هو ذلك العنوان الخاص لا هو او ضده، و الى هذا اشار بقوله: «مع ضرورة ان التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام الى آخر الجملة».

و ان قلنا ان الموافقة الالتزامية مستفادة من دليل خارجي فانه ايضا لا يكون دالا على لزوم تعيين احدهما، لان المستفاد منه هو لزوم الموافقة التزاما للحكم الواقعي، فحيث يتعذر معرفته تفصيلا يجب الالتزام به اجمالا، و الالتزام باحدهما على التعيين لازمه الالتزام بغير الحكم الواقعي احيانا و بما لا يعلم انه الحكم الواقعي دائما، و هو تشريع محرم.

(1) هذه هي الجهة الرابعة من الكلام في هذا الامر، و توضيحه يتوقف على بيان امر:

و هو انه قد توهم أنه لو قلنا بوجوب الالتزام بالحكم لكان ذلك مانعا عن اجراء الاصول العملية في اطراف العلم الاجمالي، بدعوى ان لازم جريان الاصول في اطراف العلم الاجمالي الترخيص في المخالفة الالتزامية للحكم الواقعي و هو قبيح، فلا يعقل ان تجري الاصول فيما لزم من جريانها قبحا عقليا على الشارع، فتكون

ص: 107

.....

______________________________

ادلتها مخصصة عقلا في غير ذلك المورد، اما لزوم ذلك من جريانها فلان لازم جريانها في مورد العلم الاجمالي هو كونه موردا لجعل الحكم الظاهري و هو الاباحة في المقام، فان الاصول الجارية في مقام الدوران بين المحذورين هو عدم الوجوب و عدم الحرمة، فكون الحكم الظاهري في المورد هو الاباحة ينافي الحكم بوجوب الالتزام بالحكم الذي يدور امره بين الوجوب و الحرمة، فان مرجع ذلك الى الامر بالمتنافيين، لان وجوب الموافقة الالتزامية تقضي بوجوب الالتزام بالحكم الذي يدور امره بين الوجوب و الحرمة، و جريان الاصول في الاطراف يقضي بكون الحكم الفعلي هو الاباحة، و لازمه هو وجوب الالتزام ايضا بكون الحكم هو الاباحة، فلازم ذلك هو الاذن من الشارع في المخالفة العملية للتكليف بالالتزام، لان لازم كون الحكم الفعلي هو الاباحة ان ليس هناك الزام بالحكم بان هنا يجب الالتزام بان هنا حكما الزاميا فلا مانع من مخالفة التكليف بلزوم الالتزام بان هنا يجب الالتزام بان هنا حكما الزاميا.

و ايضا حيث انه يلزم الالتزام بالحكم الفعلي و هو الاباحة، و لما كان يجب الالتزام بالحكم الواقعي و هو الالزام بين الوجوب و الحرمة فلازم ذلك حكم الشارع بلزوم الالتزام بحكمين متنافيين.

و الجواب عنه اولا: انه لو قلنا بجواز اجتماع الحكم الواقعي و الظاهري، و انه لا تنافي بينهما كما سيأتي تحقيقه في الامارات، فان التنافي انما يكون بين الحكمين الفعليين الحتميين، و ليس الحكم الواقعي بفعلي حتمي في المقام، و في كل مقام كان موردا للحكم الظاهري، بل هو اما انشائي او فعلي تعليقي لا حتمي.

و ثانيا: انه لا تجب الموافقة الالتزامية في المقام: أي لا تجب الموافقة الالتزامية لانه لا يقتضيها نفس الادلة للتكاليف و لا الدليل الخارجي، فلا يجب الالتزام بالتكليف على نحو الاجمال و لا باحدهما، لما عرفت من استلزامها التشريع و عدم معقولية ان يدعو الشي ء الى التزام بنفسه و بضده تخييرا، فلا موافقة التزامية في المقام حتى تجب،

ص: 108

قطع النظر عنه (1)، كما لا يدفع هنا محذور عدم الالتزام به، بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه حينئذ أيضا الّا على وجه دائر، لأن جريانها موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام من جريانها، و هو موقوف على جريانها بحسب الفرض (2).

______________________________

و الى هذا الجواب الثاني اشار بقوله: «و من هنا قد انقدح الى آخر الجملة» فانه بعد عدم وجوب الموافقة الالتزامية لا يكون بمانع عن جريان الاصول في اطراف المعلوم بالاجمال، فلا يكون جعل الحكم الظاهري في المقام موجبا للترخيص في المخالفة الالتزامية.

(1) يشير الى ان المانع عن جريان الاصول في المقام ليس وجوب الموافقة الالتزامية، بل ما سيشير اليه بقوله: «إلّا ان الشأن» فمع قطع النظر عما سيذكره من المانع عن جريانها في المقام فالموافقة الالتزامية لا تمنع لما عرفت من عدم وجوبها.

(2) هذا اشارة الى ما ذكره الشيخ في الرسالة بما حاصله: انه لو قلنا بوجوب الموافقة الالتزامية لكنها لا تجب في المقام، لان جريان الاصول في الاطراف رافع لها، فبواسطة جريان الاصول في المقام الذي لازمها كون الحكم الفعلي الظاهري الذي هو الحكم الذي يجب الالتزام به فعلا و هو الاباحة، فانه به يترفع وجوب الالتزام بالحكم الالزامي في المقام، و قد اورد عليه المصنف في المتن بلزوم الدور، و انه بعد الالتزام بوجوب الموافقة الالتزامية في اطراف العلم في المقام بناء على ان العلم الاجمالي بالحكم الواقعي في المقام علة تامة للتنجيز لا مقتض، فانه بناء على العلية التامة يكون العلم الاجمالي بالحكم الواقعي علة تامة لوجوب الالتزام بالحكم الواقعي، و لا يرتفع بجريان الاصول لان جريان الاصول في المقام يتوقف على ان لا يلزم منه محذور، و وجوب الموافقة الالتزامية المنجزة بالعلم الاجمالي محذور يمنع عن جريان الاصول، فجريان الاصول في المقام يتوقف على عدم وجوب الموافقة الالتزامية، لان وجوبها يكون مانعا عن جريان الاصول، و عدم وجوب الموافقة الالتزامية

ص: 109

.....

______________________________

يتوقف على جريان الاصول، لان دليل وجوب الموافقة الالتزامية عام يشمل حتى المورد، فعدم وجوبها في المورد انما هو لجريان الاصول، و قد عرفت ان جريان الاصول متوقف على عدم وجوبها، فجريان الاصول يتوقف على عدم وجوبها المتوقف على جريان الاصول، و هذا هو الدور أو نتيجته، لتوقف جريان الاصول على عدم المانع المتوقف على جريان الاصول، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «كما لا يدفع هنا محذور عدم الالتزام به» أي محذور عدم وجوب الالتزام بالحكم الواقعي، فانه بناء على كون العلم الاجمالي بالحكم الواقعي في المقام علة تامة لتنجز وجوب الالتزام به، فعدم وجوب الالتزام به يلزم منه محذور تخلف المعلول عن علته التامة «بل» يلزم من وجوب الالتزام بالحكم الواقعي محذور آخر، و هو الالتزام بضد الحكم الواقعي، لانه كما يجب الالتزام بالحكم الواقعي كذلك يجب الالتزام بالحكم الظاهري، و الحكم الظاهري في المقام بعد جريان الاصول هو الاباحة، و لما كان الحكم الواقعي في المقام الزاميا فالالتزام بالحكم الظاهري المتحصل من جريان الاصول في المقام التزام بضد الحكم الواقعي، فلو جرت الاصول في المقام لدفعت محذور عدم وجوب الالتزام بالحكم الواقعي، و لدفعت ايضا محذور «الالتزام بخلافه» أي بخلاف الحكم الواقعي و هو الاباحة التي هي ضد الحكم الواقعي الالزامي و خلافه، و لكن هذا كله «لو قيل بالمحذور فيه حينئذ ايضا» أي لو قيل بان العلم الاجمالي هنا علة لتنجز وجوب الالتزام بالحكم الواقعي إلّا ان الاصول لا تجري في المقام حتى يرتفع بها محذور عدم الالتزام بالحكم الواقعي و محذور الالتزام بخلافه، لان جريانها لا يكون «الا على وجه دائر لان جريانها» أي لان جريان الاصول «موقوف على عدم محذور في عدم الالتزام» فانه لو كان هنا محذور في عدم الالتزام لكان الالتزام واجبا، و اذا وجب الالتزام يمتنع جريان الاصول، فوجوب الالتزام مانع عن جريان الاصول، و من الواضح توقف تحقق الشي ء على عدم

ص: 110

اللهم إلا أن يقال: إن استقلال العقل بالمحذور فيه إنما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الاقدام و الاقتحام في الاطراف، و معه لا محذور فيه، بل و لا في الالتزام بحكم آخر (1) إلا أن الشأن حينئذ في جواز جريان

______________________________

مانعة، فجريان الاصول في المقام متوقف على عدم وجوب الالتزام بالحكم الواقعي من باب توقف الشي ء على عدم مانعة.

و الحاصل: ان جريان الاصول يتوقف على عدم لزوم محذور من عدم الالتزام بالحكم الواقعي و هو «اللازم من جريانها» أي ان عدم وجوب الالتزام بالحكم الواقعي هو اللازم من جريان الاصول «و هو موقوف على جريانها بحسب الفرض» أي و عدم لزوم المحذور من عدم وجوب الالتزام بالحكم الواقعي في المقام موقوف على جريان الاصول، لان المفروض انه لو لا جريان الاصول لوجب الالتزام بالحكم الواقعي و لا رافع لوجوبه الا جريان الاصول في المقام، فتحصل ان جريان الاصول متوقف على عدم وجوب الالتزام، و عدم وجوب الالتزام متوقف على جريان الاصول، فجريان الاصول متوقف على عدم وجوب الالتزام و على كل ما يتوقف عليه وجوب الالتزام، و قد عرفت ان عدم وجوب الالتزام متوقف على جريان الاصول، فجريان الاصول يتوقف على جريان الاصول، و هو الدور او نتيجته و هو توقف الشي ء على نفسه.

فتلخص مما ذكرنا: ان دفع محذور وجوب الالتزام الذي هو المانع عن جريان الاصول في المقام بما ذكر في الرسالة، الذي حاصله ان وجوب الالتزام هنا مرفوع بجريان الاصول في الاطراف الرافعة للحكم الواقعي، لان لازمها عدم الحكم الواقعي فلا يجب الالتزام به لارتفاع الحكم الذي هو موضوع وجوب الالتزام، فان رفع وجوب الالتزام بهذا الطريق يستلزم الدور كما عرفت.

(1) توضيحه: انه لو قلنا بان العلم الاجمالي بالتكليف علة تامة لتنجزه لا توقف له على شي ء، يكون ما ذكر في الرسالة من رفع التكليف بوجوب الالتزام بجريان

ص: 111

.....

______________________________

الاصول دوريا كما تقدم بيانه، لان العلم الاجمالي بوجود تكليف في المقام يقتضي وجوب الالتزام به لوجود علته التامة و هو العلم الاجمالي به، فيكون وجوب الالتزام بما هو الحكم الواقعي متحققا قطعا و هو مانع عن جريان الاصول، فرفعه بجريان الاصول يستلزم الدور كما عرفت.

اما لو قلنا بان العلم الاجمالي ليس علة تامة لتنجز التكليف، بل هو مقتض يتوقف تأثيره على عدم جعل من الشارع في مورده مناف له، و على هذا فوجوب الالتزام في المقام هو الذي يكون موقوفا على عدم جريان الاصول في المقام، فلا يتم الحكم بوجوب الالتزام بالحكم الواقعي الا حيث لا تجري الاصول، و مع جريانها لا يكون حكم بوجوب الالتزام، فيكون التوقف من طرف واحد لا من الطرفين حتى يلزم الدور.

و الحاصل: ان وجوب الالتزام يتوقف على عدم جريان الاصول، و اما جريان الاصول فلا يكون موقوفا على عدم وجوب الالتزام، لان العلم الاجمالي به ليس علة تامة له بل هو مقتض و له شرط و هو عدم جريان الاصول في مورده، و مع جريانها لا تتحقق علته التامة فلا يكون هنا حكم بوجوب الالتزام حتى يكون مانعا عن جريان الاصول فيتوقف جريانها على عدمه فيلزم الدور، و هذا هو مراده من قوله: «إلّا ان يقال ان استقلال العقل بالمحذور فيه» أي استقلال العقل بوجود المانع في المقام انما يتم على ان العلم الاجمالي علة تامة بنفسه، من غير توقف له على شي ء في تنجز الحكم المتعلق به، و اما اذا قلنا ان العلم الاجمالي مقتض و الحكم بوجوب الالتزام «انما يكون فيما اذا لم يكن هناك ترخيص في الاقدام و الاقتحام في الاطراف و معه» أي و مع القول بهذا «لا محذور فيه» أي لا محذور في جريان الاصول في المقام لعدم وجود الحكم الواقعي الذي يجب الالتزام به حتى يكون مانعا عن جريانها، و ايضا لا محذور في الالتزام بحكم آخر فعلي مناف للحكم الواقعي و لذا قال: «و لا في الالتزام بحكم آخر».

ص: 112

الاصول في أطراف العلم الاجمالي، مع عدم ترتب أثر عملي عليها، مع أنها أحكام عملية كسائر الاحكام الفرعية، مضافا إلى عدم شمول أدلتها لاطرافه، للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها، كما ادعاه شيخنا العلامة أعلى اللّه مقامه (1)، و إن كان محل تأمل و نظر،

______________________________

(1) حاصله: ان المانع عن جريان الاصول في المقام هو ما يشير اليه من الامرين، لا وجوب الموافقة الالتزامية كما توهم.

الامر الاول: مما يختص بخصوص المقام و هو دوران الامر بين المحذورين.

و حاصله: انه لا بد في جريان الاصول من اثر بحسبه يصح جريانها، لوضوح ان جريانها في مورد لا اثر فيه لغو لا يصح جعل الاصول فيه، و حيث ان المورد من دوران الامر بين المحذورين فلا مناص للمكلف في مثله عن ان يكون اما فاعلا او تاركا، و بعد ضرورة كون المكلف اما فاعلا او تاركا فلا فائدة في جريان الاصول الذي لازمه الاذن في الفعل و الترك، و الى هذا اشار بقوله: «إلّا ان الشأن الى آخر الجملة».

و لا يخفى ان هذا يتم بناء على عدم وجوب الموافقة الالتزامية، لوضوح وجود الاثر لو وجبت الموافقة الالتزامية، لان المكلف و ان كان لا مناص له من الفعل او الترك فلا يكون لجعلها اثر عملي إلّا انه اذا وجبت الموافقة كان لجريانها اثر من ناحية وجوب الالتزام و عدمه.

إلّا ان يقال انه بناء على ما تقدم من عدم منافاة الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو علة لجعل الحكم الظاهري على خلافه، فانه ايضا لا يكون لجريانها اثر عملي، لوضوح وجوب الالتزام بالحكم الواقعي على ما هو عليه سواء جرت الاصول ام لم تجر.

الامر الثاني: ما ذكر الشيخ مانعا عن جريان الاصول- أي الاستصحاب- في اطراف العلم الاجمالي.

ص: 113

فتدبر جيدا (1).

______________________________

و لا يخفى انه لو تم لما اختص بخصوص المقام، بل يكون مانعا عن جريان الاصول في اطراف العلم الاجمالي مطلقا، و سيأتي التعرض له مفصلا ان شاء اللّه تعالى في محله من مباحث البراءة و الاشتغال ...

و مجمله: ان ادلة الاصول التي يشير اليها هو دليل الاستصحاب الذي صدره يقتضي عدم جواز نقض اليقين بالشك، و هذا الصدر لا مانع من شموله لاطراف العلم الاجمالي لوجود اليقين و الشك فيها، إلّا ان ذيله يقول بلزوم نقض اليقين باليقين، ففي مورد اليقين السابق يقين لا يكون مجرى للاستصحاب، و اليقين مما يشمل اليقين الاجمالي.

و على هذا فالدليل بحسب صدوره و ان شمل اطراف المعلوم بالاجمال إلّا ان ذيله الدال بلزوم نقض اليقين باليقين يقتضي عدم شموله له، لان اليقين السابق المتعلق بكل واحد من الاطراف بعنوانه الخاص مما يجوز نقضه بالعلم الاجمالي الذي احد طرفيه مناف لليقين السابق، فصدور الدليل يشمل العلم الاجمالي و ذيله يمنع عن شموله له، فشمول دليل الاستصحاب لاطراف العلم الاجمالي لازمه وقوع التناقض بين صدره و ذيله، و حيث لا مرجع لصدر الدليل على ذيله فيكون مجملا بالنسبة الى مورد العلم الاجمالي، و اذا كان دليل الاستصحاب بالنسبة لمورد العلم الاجمالي مجملا فلا وجه لجريان الاصول فيه، لتوقف جريانها على دليل يتضمن شمول الجعل فيها لذلك، و الى هذا اشار بقوله: «مضافا الى عدم شمول ادلتها» أي ادلة الاستصحاب «لاطرافه» أي لأطراف العلم الاجمالي «للزوم التناقض في مدلولها» بين صدرها و ذيلها «على تقدير شمولها» لأطراف العلم الاجمالي.

(1) سيأتي في محله ان هذا انما يتم بناء على عدم ظهور الدليل في كون اليقين اللاحق لا بد ان يكون على نحو اليقين السابق، فاليقين التفصيلي لا ينتقض باليقين الاجمالي و انما ينتقض باليقين التفصيلي، فلا منافاة بين الصدر و الذيل.

ص: 114

الأمر السادس: قطع القطاع

اشارة

الامر السادس: لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما يترتب على القطع من الآثار عقلا، بين أن يكون حاصلا بنحو متعارف، و من سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه، كما هو الحال غالبا في القطاع، ضرورة أن العقل يرى تنجز التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله، و صحة مؤاخذة قاطعه على مخالفته، و عدم صحة الاعتذار عنها بأنه حصل كذلك، و عدم صحة المؤاخذة مع القطع بخلافه، و عدم حسن الاحتجاج عليه بذلك (1)، و لو مع التفاته إلى كيفية

______________________________

(1) بعد ما عرفت فيما تقدم ان القطع الطريقي هو انكشاف الواقع كشفا تاما لا يشوبه احتمال الخلاف، و انه لا تناله يد الجعل- فلا بد من ترتيب آثار القطع كلها عليه حال حصوله، و آثار القطع اربعة:

الاول: الإجزاء و عدمه، و قد مرّ انه لو قلنا بالاجزاء في الاصول و الامارات فلا نقول في القطع الطريقي.

الثاني: قيام الامارات المعتبرة مقامه كما تقدم تفصيله.

الثالث: صحة العقوبة على مخالفته و استحقاق الثواب على اطاعته فيما لو اصاب الواقع و التجري و الانقياد كما مر بيانه.

الرابع: ما ذكره في المتن في هذا الامر و هو انه لا يتفاوت الحال فيه من حيث السبب كالحس و الحدس او كونه من طريق متعارف او غير متعارف و لا من حيث المورد ككونه في الوجوب او الحرمة او الحلية و لا من حيث الشخص ككونه قطاعا او غير قطاع فيه- يتضح ان القطع الطريقي الى الحكم المترتب على موضوع لا يعقل ان يقيد بسبب خاص، ككونه حاصلا من طرق متعارفة او شرعية او امثال ذلك كالحس و الحدس، و لا يعقل ايضا تقييده بمقطوع خاص ككون القطع بوجوب الصلاة حجة دون القطع بحرمة الخمر، فانه بعد ان لم يكن موضوع الحرمة مقيدا بشي ء عدا تحقق موضوعه و هو الخمر فبعد القطع بخمرية شي ء لا يعقل ان يتصرف عقل او شرع في

ص: 115

تبعية القطع الموضوعي لدليل الاعتبار

حصوله (1). نعم ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا، و المتبع في عمومه و خصوصه دلالة دليله في كل مورد، فربما يدل على اختصاصه بقسم في مورد، و عدم اختصاصه به في آخر، على اختلاف الادلة و اختلاف المقامات، بحسب مناسبات الاحكام و الموضوعات، و غيرها من الامارات (2).

______________________________

عدم حرمته، و لا يعقل ايضا تقييده بشخص خاص كمثل كونه غير قطاع، لوضوح ان الفرق بين القطاع و غيره في حصول القطع كثيرا للقطاع دون غيره، اما بعد حصول القطع و تحققه فلا فرق بين القطع المتحقق له و القطع المتحقق لغيره، فان ردع القطاع بعد تحقق القطع عنده كردع غيره يستلزم الخلف، لان عدم ترتب الحرمة على الخمر بعد القطع بان هذا المائع خمر يرجع اما الى كون الخمر ليس موضوعا للحرمة، و ان الحرمة ليست مرتبة على الخمر، و كلاهما خلف، لفرض كون الخمر حراما، و يترتب على القطاع كغيره لوازم القطع من صحة مؤاخذته لو تجرى و لم يعمل بموجب قطعه، بناء على حرمة التجري و عدم صحة مؤاخذته لو قطع بالعدم، و على كل فلا فرق في القطع الطريقي بين القطاع و غيره بجميع ما للقطع من اثر سواء في طريقيته او في صحة العقوبة على مخالفته.

(1) حاصله: ان القطاع قد يلتفت الى كونه قد حصل له القطع من جهة لا يحصل منها القطع لغيره، إلّا انه لو التفت الى ذلك فاما ان يحصل له التردد فيرتفع قطعه، و حينئذ يخرج عن كونه قاطعا، و اما ان لا يتردد لحسن ظنه بنفسه و انه يلتفت الى ما لا يلتفت اليه غيره، و حينئذ فالقطاع الحاصل له القطع من سبب لا يحصل منه القطع لغيره يرى انه قد حصل له القطع من سبب يستلزمه و قد التفت له دون غيره.

(2) هذا احد الفوارق بين القطع الطريقي و الموضوعي كما تقدم الفرق بينهما في قيام الامارات و انها تقوم مقام القطع الطريقي دون الموضوعي كما عرفته مفصلا.

ص: 116

حجية القطع الطريقي مطلقا

و بالجملة القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع، و لا من حيث المورد، و لا من حيث السبب، لا عقلا- و هو واضح- و لا شرعا، لما عرفت من أنه لا تناله يد الجعل نفيا و لا إثباتا (1)، و إن نسب إلى بعض الاخباريين أنه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية، إلا أن مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة، بل تشهد بكذبها، و أنها إنما تكون إما في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شي ء و حكم الشرع بوجوبه، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عن السيد الصدر في باب الملازمة، فراجع (2).

______________________________

و حاصله: ان القطع الموضوعي امر موضوعيته و كيفية اخذه في الحكم المرتب عليه يتبع فيه مقدار دلالة الدليل على موضوعيته، لبداهة ان اخذه موضوعا مما تناله يد الجعل التشريعي، فللشارع ان ياخذ القطع الحاصل من شخص خاص موضوعا لحكم كما لو اخذ- مثلا- القطع الحاصل من قول العادل دون غيره او من سبب خاص موضوعا للحكم، فلا يكون القطع الحاصل من غير ذلك السبب موضوعا لذلك كما لو قلنا بان العلم الحاصل- مثلا- من المشاهدة أو من احد الحواس الظاهرة هو الموضوع لوجوب اداء الشهادة، فمن حصل له العلم من غيرها لا يجب عليه اداء الشهادة.

و على كل القطع الموضوعي كسائر الموضوعات للشارع التصرف فيها بحسب ما يدل عليه دليل التشريع.

(1) المراد من القطع الذي هو موضوع عقلا للآثار هو القطع الطريقي لوضوح كون القطع الموضوعي هو موضوع شرعا لا عقلا.

(2) لا يخفى ان المنع عن القطع الحاصل من المقدمات العقلية حيث ان لازمه عدم حجية هذا القطع الطريقي، و هذا ينافي ما هو المعلوم- مما مرّ- من كون القطع لا تناله يد الجعل، لان لازم صحة المنع عن حجية القطع الحاصل من المقدمات العقلية كونه

ص: 117

و إما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية، لانها لا تفيد إلا الظن، كما هو صريح الشيخ المحدث الامين الاسترآبادي- رحمه اللّه-

______________________________

مما للشارع حق رفعه و التصرف فيه، فلذا انكر هذا على من نسب اليهم ذلك، و المنسوب اليهم هم: الامين الاسترابادي، و السيد الجزائري، و صاحب الحدائق، و الاخيران انما نسب اليهم لانهم نقلوا كلام الامين مستحسنين له، و اما السيد الصدر فلم ينسب اليه، و لكنه ربما يتوهم منه ذلك لمنعه كون ما يحكم به العقل حكما شرعيا، بدعوى ان العقل لا يحكم إلّا بما قطع به، فعدم لزوم مطابقة حكم الشرع له يرجع الى عدم امضائه لحجيته، و لازم ذلك كونه مما للشارع يد التصرف فيه.

و لا يخفى انه لا وجه لهذا التوهم، فان كلامه في مقام انكار الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، و ان العقل قاصر عن ادراك جميع ما للشي ء من الجهات الواقعية، فربما يحكم العقل بحسن شي ء لادراكه الجهة الموجبة لحسنه، و حيث يحتمل ان تكون هذه الجهة التي ادركها العقل هي مقتض و من الجائز ان هناك شرطا لهذا الاقتضاء مفقودا او هناك مانع يمنع عن تاثير هذا الاقتضاء- لذلك لا يمكن ان نقول بالملازمة بين ما يدركه العقل و لزوم كونه حكما شرعيا.

و هذا الكلام من السيد اجنبي عن عدم حجية القطع الطريقي في مقام طريقيّته و انكشاف الواقع به، بل هو في مقام ان الحكم الشرعي من العالم بجميع ما للفعل من جهاته الواقعية لا طريق للعقل الى الوصول اليه، و ان العقل مهما بلغ فهو قاصر عن ادراك الشي ء بجميع جهاته الواقعية، فبمجرد ادراكه لحسن شي ء او قبحه لا يجوز ان نقول انه هو حكم شرعي ايضا، لان معرفة الشارع فوق ادراك العقل و مداركه، و لا ربط لهذا الكلام في كون القطع مما تناله يد الجعل التشريعي، و الى هذا اشار بقوله: «كما ينادي بأعلى صوته ما حكى عن السيد الصدر» و انه «في باب انكار الملازمة» بين ما يحكم به العقل و ما يحكم به الشرع.

ص: 118

حيث قال في جملة ما استدل به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين عليهم السلام.

الرابع: إن كل مسلك غير ذلك المسلك- يعني التمسك بكلامهم عليهم الصلاة و السلام- إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم اللّه تعالى، و قد أثبتنا سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها و قال في جملتها أيضا- بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة- ما هذا لفظه و إذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة، فنقول: إن تمسكنا بكلامهم (عليهم السلام) فقد عصمنا من الخطأ، و إن تمسكنا بغيره لم نعصم عنه، و من المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعا و عقلا، أ لا ترى أن الامامية استدلوا على وجوب العصمة بأنه لو لا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع الخطأ، و ذلك الامر محال، لانه قبيح، و أنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى (1) .. انتهى موضع الحاجة من كلامه، و ما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة اعلى اللّه مقامه في الرسالة، و قال في فهرست فصولها أيضا الاول: في إبطال

______________________________

(1) قد عرفت ان المنسوب اليهم عدم حجية القطع الطريقي الحاصل من المقدمات العقلية هم: الامين و السيد الجزائري و صاحب الحدائق، و ان الاخيرين انما نسب اليهم ذلك لاستحسانهم كلام الامين، فالعمدة في المقام هو ما يظهر من كلام الامين.

و الذي يظهر من التأمّل في كلام الامين انه ينكر حجية الظن الحاصل من المقدمات العقلية دون القطع، و في اثناء كلامه جملتان صريحتان بذلك:

الاولى: قوله و قد اثبتنا سابقا انه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس احكامه.

الثانية: قوله و انت اذا تأملت الى ان يقول: انه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في احكامه تعالى.

ص: 119

جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه تعالى شأنه، و وجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله، أو بحكم ورد عنهم عليهم السلام، انتهى.

و أنت ترى أن محل كلامه و مورد نقضه و إبرامه، هو العقلي غير المفيد للقطع، و إنما همه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل فيما لا قطع.

و كيف كان، فلزوم اتباع القطع مطلقا، و صحة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته، و كذا ترتب سائر آثاره عليه عقلا، مما لا يكاد يخفى على عاقل فضلا عن فاضل (1)، فلا بد فيما يوهم خلاف ذلك في الشريعة من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي لاجل منع بعض مقدماته الموجبة له، و لو إجمالا، فتدبر جيدا (2).

______________________________

(1) هذه هي القرينة الثالثة على كونه في مقام عدم حجية الظن بالاحكام الشرعية، و انحصار الطريق فيما يرد عنهم صلوات اللّه عليهم ما ذكره تحت عنوان الفصل الاول في كتابه و فوائده، فانه قال: الاول: في ابطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس احكامه تعالى، و وجوب التوقف عند فقد القطع بحكم اللّه، او بحكم ورد عنهم عليهم السّلام، فان كلامه هذا صريح في عدم حجية الظن و حجية القطع.

(2) قد ذكر الشيخ في الرسالة امثلة يتوهم منها عدم كون القطع الطريقي علة تامة لآثاره.

منها ما لو اقر شخص لزيد بعين، ثم اقر بها لخالد، فانه يظهر منهم كون الحكم اعطاء العين للمقر له الاول و هو زيد، و تغريم المقر قيمتها ثانيا للمقر له الثاني و هو خالد، و لازم هذا انه لو اشتراهما ثالث بان يجمع هذا الثالث بمعاملة صحيحة بين العين و القيمة ان يحصل له القطع بان أحد هذين ليس لمالكه، اذ لا يعقل كون الدار بجميعها لمالكين عرضيين، فان كانت الدار لزيد فخالد لا يملك الغرامة التي اعطيت له، و ان كانت لخالد فزيد لا يكون مالكا للدار واقعا و هي باقية على ملك خالد لها،

ص: 120

الأمر السابع: العلم الإجمالي

اشارة

الامر السابع: إنه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علة تامة لتنجزه، لا تكاد تناله يد الجعل إثباتا أو نفيا، فهل القطع الاجمالي كذلك؟ فيه إشكال (1)، ربما يقال: إن التكليف حيث لم

______________________________

فشراؤها منه شراء من غير المالك، فيقطع الذي جمع بينهما بان احدهما لم تنتقل اليه و هي مملوكة لمالكها.

و منها فيما لو تداعى اثنان على عين و أقام كل منهما البيّنة على ما ادعاه، فان النصوص و الفتاوى على تنصيف العين بينهما، ففيما لو اشترى ثالث العين منهما يعلم تفصيلا بان نصف العين لم تنتقل اليه و هي باقية على ملك مالكها.

و منها لزوم التنصيف في الدرهم الودعي فيما لو أودع شخصان كل واحد منهما درهما عند شخص، فتلف احد الدرهمين و لم يعلم انه درهم احدهما بعينه، فان النص و الفتوى ايضا على تنصيف الدرهم الباقي بينهما، فلو اخذه ثالث بمعاملة يقطع بان احد النصفين لم ينتقل اليه و هو باق على ملك مالكه.

فلا بد من التأويل في هذه المقامات و غيرها مما يوهم عدم كون القطع علة تامة لترتيب آثاره:

اما بالالتزام بان لا يجوز الشراء لمن يعلم بذلك و انما يجوز لمن لا يعلم.

او بالالتزام بان حكم الحاكم في المقام بالغرامة و بالتنصيف في العين و في الودعي موجبا لتمليك ابتدائي لمن حكم له بالغرامة او بالنصف.

(1) هذا الامر لبيان كون العلم الاجمالي هل هو كالعلم التفصيلي علة تامة للتنجيز؟

او انه مقتض؟ يتوقف تنجيزه على عدم جعل من الشارع في مورده ما يخالفه، فللشارع الاذن في ارتكاب اطراف المعلوم بالاجمال في الشبهة المحصورة، كما كان له الاذن في ارتكاب الشبهة البدوية و الشبهة غير المحصورة.

و لا يخفى ان مهمّ الاقوال في المقام ثلاثة:

ص: 121

ينكشف به تمام الانكشاف، و كانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، جاز الاذن من الشارع بمخالفته احتمالا بل قطعا (1)، و محذور مناقضته مع

______________________________

الاول: مختار المصنف- هنا- من كون العلم الاجمالي مقتضيا بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية، و بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية فللشارع ان ياذن في ارتكاب جميع الاطراف.

الثاني: مختاره في البراءة و الاشتغال من كونه علة تامة كالعلم التفصيلي بالنسبة الى كليهما.

الثالث: ما يظهر من الشيخ في الرسالة من كونه مقتضيا بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية، و لكنه علة تامة بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية، فللشارع ان يبيح ارتكاب بعض الاطراف و ليس له اباحة ارتكاب جميع الاطراف.

(1) توضيحه: ان الفرق بين العلم التفصيلي و العلم الاجمالي ان متعلق العلم الاجمالي هو ما يمكن انطباقه على احد الاطراف، ففيما لو علمنا بنجاسة أحد الإناءين فمتعلق العلم الاجمالي يمكن ان يكون هذا الاناء، و يمكن ان يكون الاناء الثاني، فكل واحد من الإناءين بخصوصه مجهول الحال، فالعلم الاجمالي علم يشوبه جهل، بخلاف العلم التفصيلي فانه علم لا يشوبه جهل، و مورد مجرى الاصول هو عنوان كل واحد من الطرفين بخصوصه، و ليس مجرى الاصل هو نفس متعلق العلم الاجمالي و هو النجس بما هو حتى يلزم من جريانها اجتماع النقيضين او الضدين، من كون العلم موجبا للاجتناب و الاذن في الارتكاب الذي هو مقتضى الاصول ينافيه و يضاده، فما هو الموضوع لمجرى الاصل بالنسبة الى كل واحد من الإناءين بخصوصه موجود و هو الجهل، فان كل واحد من الإناءين مجهول بعنوانه الخاص به.

و لا يخفى ان لكل طرف من اطراف العلم الاجمالي اصلا يخصه هو غير الاصل الجاري في الطرف الآخر، فجواز الارتكاب الجائي من قبل كل واحد بخصوصه من

ص: 122

.....

______________________________

الاصلين بالنسبة الى المعلوم بالاجمال نسبة احتمال اجتماع الحكمين لا القطع باجتماعهما، و هو لا يزيد على جعل الاصل في الشبهة البدوية، فانها- ايضا- مما يحتمل فيها التكليف الفعلي، فغايته احتمال اجتماع الحكمين الواقعي و الظاهري.

فما يقال في وجه جواز اجتماعهما في محلّه يقال به هنا.

لا يقال: ان الوجه في جواز اجتماع الحكم الظاهري و الواقعي هو كون الحكم الواقعي فعليا معلقا لا حتميا و متعلق العلم الاجمالي لا بد و ان يكون حتميا لانكشافه تمام الانكشاف بواسطة تعلق العلم به، فالنجس بما هو نجس منكشف تمام الانكشاف، و لازم ذلك كون فعليته حتمية لا تعليقية، و هذا بخلاف الشبهة البدوية فان الحكم الواقعي لا يزيد فيها على كونه محتملا فلذا امكن الالتزام بفعليته التعليقية.

فانه يقال: ان جواز الارتكاب ليس منحصرا في الشبهة البدوية، بل هو موجود في غيرها مما لازمه القطع بجواز الارتكاب و لو لزم منه العلم بالمخالفة و هو مورد الشبهة غير المحصورة، فانه يجوز ارتكاب جميع الاطراف فيها، و هذا يكشف عن عدم المناقضة بين جواز جعل الاذن في الاطراف مع العلم الاجمالي بنجاسة احدهما، فلا بد و ان يلتزم فيها بالفعلية غير الحتمية، و لا فرق بين الشبهة المحصورة و الشبهة غير المحصورة الا بقلة الاطراف و كثرتها، و هو ليس بفارق، فما يلتزم به في الشبهة غير المحصورة يلتزم به في الشبهة المحصورة، و هو ما ذكرناه من الفعلية غير الحتمية.

و بعبارة اخرى: ان جريان الاصل في مورده يتوقف على تحقق موضوعه، و هو الجهل بالحكم الواقعي في مورده، و يتوقف ايضا على ان لا يلزم من جريانه محال كاجتماع الضدين أو النقيضين، فاذا تحقق كلاهما في مقام فلا مانع من جريانه في موارد العلم الاجمالي بالنسبة الى اطرافه بخصوصها، و كلا الامرين متحققان.

ص: 123

.....

______________________________

اما الاول فلان موضوع الاصل في اطراف العلم الاجمالي موجود و هو الجهل، لان مورد الاصل في الطرف هو عنوان الطرف بنفسه و هو مجهول الحال فالموضوع فيه متحقق، بخلاف العلم التفصيلي فانه لا جهل فيه لانكشافه تمام الانكشاف.

و اما الثاني فلانه لا يلزم من جريانه محال، لان المحال هو اجتماع الحكمين الفعليين الحتميين المتضادين في مورد واحد، و لا شبهة ان الفعلية الحتمية تتوقف على تحقق متعلق التكليف بحيث يكون البعث اليه و الزجر عنه متحققا، و من الواضح انه حيث كان انطباق النجس المعلوم بالإجمال بالنسبة الى الطرف بعنوانه الخاص غير معلوم، فموضوع الفعلية الحتمية فيه غير متحقق ايضا، فلا بد و ان تكون فعلية المعلوم بالاجمال بالنسبة الى عنوان الطرف بخصوصه غير حتمية، و اذا كانت الفعلية غير حتمية كانت تعليقية بمعنى انها لو علم بها من باب الاتفاق لتنجزت، و لا مانع من اجتماع الفعلية التعليقية و الفعلية الحتمية المتعلقة بحكم يخالف الحكم في الفعلية التعليقية، لوضوح عدم تنجز البعث و الزجر في الفعلية التعليقية، فلا مانع من تنجز حكم آخر مضاد له في مورده، و لا يكون محذوره سوى اجتماع الحكم الظاهري و الواقعي و هو موجود في الاصول و الامارات القائمة على خلاف الحكم الواقعي، و قد اشار اجمالا الى ما فصلناه بقوله: «ان التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف» لانه بالنسبة الى عنوان الطرف غير معلوم الانطباق فهو مجهول فعلا بالنسبة اليه، فموضوع الاصل فيه متحقق، و حيث ان الفعلية الحتمية بالنسبة الى عنوان الطرف تتوقف على معلومية الانطباق و هو مفقود، لفرض عدم معلومية الانطباق، و إلّا كان العلم تفصيليا لا اجماليا، فلم يبق سوى احتمال كون الطرف مورد الانطباق واقعا، فلا مانع من ان يكون نسبة الحكم المعلوم بالاجمال الى عنوان الطرف بخصوصه نسبة الحكم الظاهري و الواقعي، اذ لا يلزم من جعل حكم مضاد للحكم الواقعي في عنوان الطرف لزوم محال، لعدم تنجز الحكم الواقعي بالنسبة الى عنوان الطرف، و الى هذا اشار بقوله: «و كانت مرتبة الحكم الظاهري معه

ص: 124

المقطوع إجمالا انما هو محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة غير المحصورة، بل الشبهة البدوية، ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي و الاذن بالاقتحام في مخالفته بين الشبهات أصلا، فما به التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصي عنه في القطع به في الاطراف المحصورة أيضا، كما لا يخفى، و قد أشرنا إليه سابقا، و يأتي إن شاء اللّه مفصلا. نعم كان العلم الاجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء، لا في العلية التامة، فيوجب تنجز التكليف أيضا لو لم يمنع عنه مانع عقلا، كما كان في أطراف كثيرة غير محصورة، أو شرعا كما في ما أذن الشارع في الاقتحام فيها (1)، كما هو ظاهر كل شي ء فيه

______________________________

محفوظة» فلذا «جاز الاذن من الشارع ب» ما يستلزم «مخالفته» أي مخالفة الحكم الواقعي «احتمالا» بل في مورد الفعلية غير الحتمية يجوز جعل ما يقطع معه بمخالفة الحكم الواقعي، و لذا قال: «بل قطعا».

(1) حاصله: انه بعد ان كانت الفعلية في العلم الاجمالي بالنسبة الى عنوان الطرف تعليقية لا حتمية، فلا مانع من اجتماع فعليتين بحكمين في مورد واحد، احداهما تعليقية و الاخرى حتمية، سواء لزم من جعل الاذن مخالفة قطعية كما في موارد الشبهة غير المحصورة، او مخالفة احتمالية كما في موارد الشبهة البدوية.

و لا يخفى ان قوله: «بل الشبهة البدوية» لبيان انه لا فرق بين الشبهة غير المحصورة و الشبهة البدوية، إلّا ان المناقضة في مورد الشبهة غير المحصورة قطعية و المناقضة في مورد الشبهة البدوية محتملة، و لو كان لازم جعل الاصل في موردهما محالا لما كان فرق بينهما اصلا، لوضوح ان المحال لا بد و ان يكون مقطوع العدم فاحتماله كالقطع به، الى هذا اشار بقوله: «ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بينهما بذلك اصلا» للزوم كون المحال مقطوعا بعدمه فاحتماله كالقطع به.

ص: 125

.....

______________________________

و لا يخفى ان الموجود في النسخ المصححة وقوع قوله ضرورة بعد قوله بل الشبهة البدوية من غير فصل، و هو المناسب لسوق المطلب و تناسقه، و يوجد في النسخ غير المصححة بين هاتين اللفظتين هذه العبارة و هي قوله: «لا يقال ان التكليف فيهما» أي ان التكليف في الشبهة غير المحصورة البدوية «لا يكون بفعلي» بخلاف مورد العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة فان التكليف فيه فعلي، فلا وجه لجعل الحال في مورد العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة كالحال في مورد العلم الاجمالي في الشبهة غير المحصورة و في الشبهة البدوية.

فاجاب عنه بقوله: «فانه يقال كيف المقال في موارد ثبوته في اطراف غير محصورة او في الشبهات البدوية» ..

و توضيحه ببيان الحال في الشبهة غير المحصورة و في الشبهة البدوية.

اما في الشبهة غير المحصورة، فانه تارة يكون التكليف فيها غير فعلي كما في الشبهة غير المحصورة الخارج بعض افرادها عن مورد الابتلاء، بحيث يكون التكليف بالاجتناب عنه غير مقدور، و في مثله لا بد و ان يكون التكليف غير فعلي.

و اخرى يكون مورد الشبهة غير المحصورة ليس كذلك، و ذلك فيما كان اطرافها كثيرة بحيث يصعب الاجتناب عنها، و في هذا المورد يكون التكليف فعليا.

و اما في الشبهة البدوية فانه على انحاء ثلاثة: لانها تارة يكون التكليف فيها غير فعلي قطعا، و مثاله الحوادث المتجددة التي لم تكن على عهد النبي و الائمة عليهم الصلاة و السلام، فان التكليف في امثال هذه الشبهة لم يكن فعليا لعدم تحقق الموضوع فيها في زمانهم عليهم السّلام.

و ثانية: يكون التكليف فيها محتمل الفعلية و هي المشار اليها في قوله عليه السّلام:

(و سكت عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا لها فلا تتكلفوها)(1).

ص: 126


1- 10. ( 1) نهج البلاغة، الحكم 102.

حلال و حرام، فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام منه بعينه (1).

______________________________

و ثالثة: تكون الفعلية تعليقية لغفلة او نسيان.

فاذا عرفت هذا- نقول: انه اذا كان الحكم في بعض افراد الشبهة غير المحصورة فعليا قطعا و في بعض موارد الشبهة البدوية محتمل الفعلية، و ينحصر الامر فيهما بحمل الحكم الواقعي على الفعلية التعليقية لرفع المناقضة بين الحكم الواقعي و الظاهري- كما سيأتي الاشارة اليه في محله- فيكون الحال فيهما مع مورد العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة على حد سواء، و ما به يرفع المناقضة فيهما يرفع به المناقضة فيه، و ليس الحكم في كل موارد الشبهة غير المحصورة و الشبهة البدوية ليس بفعلي حتى يكون فرق بين العلم الاجمالي في المحصورة و بينهما، فالقطع بالفعلية في بعض موارد الشبهة غير المحصورة و احتمالها في بعض موارد الشبهة البدوية كاف في قياس مورد العلم الاجمالي في المحصورة به، و ان الحال فيه كالحال فيهما على حد سواء، و الى هذا اشار بقوله: «كيف المقال في موارد ثبوته» أي في ثبوت الحكم الفعلي كما «في اطراف» الشبهة «غير المحصورة» في بعض اقسامها «او في» بعض اقسام «الشبهات البدوية» فما هو الجواب عن ذلك فيهما هو الجواب في مورد المحصورة.

قوله: «مع القطع به» و هو مورد الشبهة غير المحصورة التي كان التكليف فيها فعليا.

قوله: «او احتماله» و هو مورد الشبهة البدوية التي كانت محتملة الفعلية.

قوله: «او بدون ذلك» و هو مورد الفعلية التعليقية لغفلة او نسيان.

(1) لا يخفى ان شمول قاعدة الحل لمورد العلم الاجمالي يتوقف على ان يكون المراد من الشي ء ما يعم مثل عنوان المائع او الماء بما هو مردد بين النجس و الطاهر ليتحقق موضوعها، و هو الشي ء الذي فيه حلال و حرام، اما لو قلنا ان المراد من الشي ء فيها هو الموجود الخارجي المعلوم بحقيقته و لكن كان بعضه حلالا و بعضه حراما فيشك في كون هذا الموجود هل هو من المحلل او المحرم؟ فلا تكون القاعدة شاملة لمورد العلم

ص: 127

اقتضاء العلم الإجمالي للحجيّة

و بالجملة: قضية صحة المؤاخذة على مخالفته، مع القطع به بين أطراف محصورة و عدم صحتها مع عدم حصرها، أو مع الاذن في الاقتحام فيها، هو كون القطع الاجمالي مقتضيا للتنجز لا علة تامة (1).

______________________________

الاجمالي، اذ ليس في مورده شي ء معلوم بحقيقته بعضه حلال و بعضه حرام، و يأتي التعرض لها تفصيلا في مباحث البراءة ان شاء اللّه تعالى.

(1) هذا مجمل ما تقدم منه من كون العلم الاجمالي مقتضيا يتوقف تنجزه على عدم الاذن عقلا في موارده، كما في مورد الشبهة غير المحصورة او على عدم الاذن شرعا فيه كما في قاعدة الحلية لو قلنا بشمولها لمورد العلم الاجمالي، فانه لو كان علة تامة للتنجز لما امكن الاذن عقلا في موارد الشبهة غير المحصورة و لا الاذن شرعا في الاقتحام.

فاتضح ان العلم الاجمالي ليس كالعلم التفصيلي علة تامة للتنجز بل هو مقتض يتوقف تأثيره على عدم الاذن لا من العقل و لا من الشرع، و حينئذ يكون علة تامة يصح المؤاخذة على مخالفته.

فقوله: «و عدم صحتها مع عدم حصرها» هذا اشارة الى الاذن العقلي.

و قوله «او مع الاذن في الاقتحام» هو اشارة الى الاذن الشرعي في موارد الشبهة المحصورة.

و على كل فمختاره في المقام كون العلم الاجمالي مقتضيا لا علة تامة.

و سيأتي منه في البراءة اختيار كونه علة تامة و لعله هو الصحيح، لان العلم الاجمالي بالنسبة الى متعلقه و هو وجود النجس خارجا كالعلم التفصيلي بوجود النجس بعينه، فان التكليف بوجوب اجتناب النجس فعليته التامة تتوقف على وجود موضوعه في الخارج، و بعد تعلق العلم بموضوعه و ان النجس موجود فعلا في الخارج فلا بد من كون التكليف بوجوب اجتنابه فعليا. و المراد من كونه علة تامة هو عليته التامة بالنسبة الى ما تعلق به العلم، و بعد تنجز التكليف باجتناب النجس الموجود

ص: 128

و أما احتمال أنه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية، و بنحو العلية بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية و ترك المخالفة القطعية (1)، فضعيف

______________________________

فعلا في الخارج لا يعقل الاذن في ارتكاب اطرافه للزوم المناقضة الاحتمالية في احدهما و المناقضة القطعية في الاذن بارتكابهما معا، و قياسه على الشبهة غير المحصورة و الشبهة البدوية قياس مع الفارق.

فان الشبهة غير المحصورة الذي يجوز الارتكاب فيها هي ما كانت بعض اطرافها اما خارجة عن محل الابتلاء، أو انه يلزم منها العسر الموجب لاختلال النظام، و في الاول لا فعلية للتكليف لما سيأتي من أن خروج بعض الاطراف عن محل الابتلاء رافع لفعلية التكليف. و اما ما يلزم منها العسر الموجب لاختلال النظام فلا يعقل فعلية التكليف فيه، و اما الشبهة البدوية فسيأتي ان التكليف فيها ليس فعليا، لان الفعلية انما تكون بالوصول، و حيث لا وصول له فلا فعلية له و لا مانع من اجتماع التكليف الظاهري الفعلي مع الحكم الواقعي غير الفعلي.

فاتضح الفرق بينهما و بين العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة، فانه بعد تحقق الموضوع خارجا فلا يعقل عدم تنجز التكليف به لتحقق كل ما يقتضي فعلية التكليف و تنجزه، و لعله لذلك ذكره في المقام بنحو لا يبعد، و عدل عنه في مباحث البراءة، و اللّه العالم.

(1) هذا اشارة الى ظاهر الشيخ الاعظم في الرسالة من التفصيل بين حرمة المخالفة القطعية و وجوب الموافقة القطعية في اطراف العلم الاجمالي، و انه علة تامة بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية و مقتض بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية، و نتيجة ذلك عدم امكان جعل الاصول في كلا طرفي المعلوم بالاجمال، و امكانه بالنسبة الى بعض الاطراف.

و يمكن تقريبه، بان نقول: حيث كان متعلق العلم الاجمالي وجود النجس خارجا فكل ما هو الموضوع للتنجز قد تحقق، و لازم هذا هو تنجز التكليف بوجوب

ص: 129

جدا. ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة، فلا يكون عدم القطع بذلك معها موجبا لجواز الاذن في الاقتحام بل لو صح معها الاذن في المخالفة الاحتمالية صح في القطعية أيضا (1)،

______________________________

اجتناب النجس، و هذا هو المقدار الذي يقتضيه العلم الاجمالي، و لازم التكليف الذي يكون تنجزه بهذا المقدار انه لا يمكن جعل الاذن بما يلزم منه جواز مخالفته، فلا يجوز جعل الاصول في جميع اطراف المعلوم بالاجمال لادائها الى الاذن في جواز مخالفة التكليف بوجوب اجتناب النجس المنجز، و لكن جعل الاصول في بعض الاطراف لا يستلزم الاذن في مخالفة ما هو المعلوم، بان يجعل الشارع الاذن في بعض الاطراف تخييرا أو بعينه و يكتفى بترك الطرف الآخر بدلا عن الموافقة القطعية، و مرجع هذا الى انه للشارع الاكتفاء عن الموافقة القطعية بالموافقة الاحتمالية، و هو جائز في المعلوم تفصيلا كموارد الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في مثل عروض الشك في الاثناء بعد تجاوز المحل فانه مع كون التكليف فيه معلوما تفصيلا اكتفى الشارع فيه بالامتثال الاحتمالي.

هذا غاية ما يمكن تقريب هذا التفصيل من كون العلم الاجمالي مقتضيا بالنسبة الى الموافقة القطعية، و علة تامة بالنسبة الى الموافقة الاحتمالية بترك بعض الاطراف بدلا و بالنسبة الى حرمة المخالفة القطعية، و الى هذا اشار بقوله: «و اما احتمال انه بنحو الاقتضاء» دون العلية التامة «بالنسبة الى لزوم الموافقة القطعية» فللشارع جعل الاصول في بعض الاطراف بالخصوص «و» على هذا يكون «بنحو العلية» التامة «بالنسبة الى الموافقة الاحتمالية و» بالنسبة الى «ترك المخالفة القطعية».

(1) و حاصله انه بعد فرض كون العلم الاجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية فان لازمه كون التكليف فعليا حتميا من جميع الجهات، و بعد ما عرفت ان المحال لا بد و ان يكون مقطوعا بعدمه فاحتماله كالقطع به، و كما لا يجوز الاذن في المخالفة القطعية للقطع بالتنافي بين البعث اللزومي الى شي ء و بين الاذن في اقتحام، كذلك

ص: 130

فافهم (1).

و لا يخفى أن المناسب للمقام هو البحث عن ذلك، كما أن المناسب في باب البراءة و الاشتغال- بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثيره في التنجز بنحو الاقتضاء لا العلية- هو البحث عن ثبوت المانع شرعا أو عقلا و عدم ثبوته، كما لا مجال بعد البناء على انه بنحو العلية للبحث عنه هناك اصلا كما لا يخفى (2).

______________________________

لا يجوز الاذن فيما يحتمل ذلك، و من البديهي ان لازم جعل الاصل في بعض الاطراف احتمال ذلك.

و اما جواز الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في المعلوم التفصيلي فضلا عما هو معلوم بالاجمال فلأن جواز الاكتفاء في الموارد المشار اليها كالشك بعد التجاوز او بعد الفراغ، فهو اما لتبدل الموضوع بواسطة عروض الشك، او لعروض مصلحة ملزمة بواسطة الشك تكون اولى من مصلحة الاحتياط بلزوم الامتثال التفصيلي، و لذا لم يرد من الشارع اكتفاء في غير مورد عروض الشك بالامتثال الاحتمالي.

فاتضح ان التفصيل في المقام بكون العلم الاجمالي بنحو الاقتضاء بالنسبة الى الموافقة القطعية و بنحو العلية التامة بالنسبة الى الموافقة الاحتمالية و ترك المخالفة القطعية واضح الضعف.

(1) لعله اشارة الى عدم ذلك في القول بالاقتضاء بالنسبة الى كلا الامرين معا من الموافقة القطعية و ترك المخالفة القطعية، لأن مبناه هو كون العلم الاجمالي فعليا تعليقيا، و لا منافاة بين الحكم الواقعي التعليقي و الحكم الظاهري الفعلي على خلافه في مورده.

(2) حيث ان الشيخ الاعظم يرى كون العلم الاجمالي علة تامة في حرمة المخالفة القطعية، و بنحو الاقتضاء بالنسبة الموافقة القطعية، فيكون له- على هذا- مرتبتان:

مرحلة تاثيره التام بالنسبة الى حرمة المخالفة و هو المناسب للبحث عنه في القطع،

ص: 131

.....

______________________________

و مرحلة جعل المانع عن تأثيره بالنسبة الى وجوب الموافقة و هو المناسب للبحث عنه في باب الاشتغال، فلا يلزم في البحث عنه في المقامين تكرار.

و الحاصل: ان الوجه في البحث عنه في المقامين هو كونه علة تامة في مقام، و مقتضيا في المقام الآخر و هو مقام الموافقة القطعية، و لذا ناسب البحث عن جريان الاصول في اطرافه في باب الاشتغال، لان الاصول هي المانع الذي ينبغي البحث عنه.

و المصنف حيث يرى انه اما ان يكون علة تامة بالنسبة الى كلا الامرين، او انه بنحو الاقتضاء بالنسبة اليهما معا، فلذلك جعل الوجه للبحث عنه في مقامين غير الوجه الذي ذكر الشيخ.

و حاصله- كما اشار اليه في المتن-: هو ان المناسب للبحث عنه في القطع هو البحث عن تأثيره، و انه هل هو بنحو العلية التامة او الاقتضاء؟ فان كان بنحو العلية التامة فلا وجه للبحث عنه في باب الاصول، لعدم معقولية ايجاد المانع عن تأثيره اصلا، و ان كان بنحو الاقتضاء فيناسب ذكره في باب الاشتغال للبحث عن جعل المانع له بالنسبة الى كلا الامرين، و الى ذلك اشار بقوله: «ان المناسب للمقام هو البحث عن ذلك» أي عن نحو تاثيره و انه هل هو علة بنحو العلية التامة او الاقتضاء، و اشار الى ان البحث عنه في باب الاشتغال انما هو بناء على كون تأثيره بنحو الاقتضاء بقوله: «كما ان المناسب» للبحث عنه «في باب البراءة و الاشتغال» انما يكون «بعد الفراغ هاهنا عن ان تأثيره في التنجز بنحو الاقتضاء لا العلية» التامة، و السبب في ذلك «هو» ان «البحث» هناك «عن ثبوت المانع» عن تاثيره «شرعا او عقلا و عدم ثبوته».

و اشار الى كونه بعد البناء على كون تاثيره بنحو العلية التامة لا وجه للبحث عنه في باب الاشتغال لعدم معقولية جعل المانع عما هو العلة التامة بقوله: «كما لا مجال بعد البناء على انه بنحو العلية» التامة «للبحث عنه هناك».

ص: 132

الامتثال العلمي الإجمالي

هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف و تنجزه به، و أما سقوطه به بأن يوافقه إجمالا (1)، فلا إشكال فيه في التوصليات (2).

______________________________

(1) لا يخفى ان ما تقدم من البحث في العلم الاجمالي كان في انه هل هو كالعلم التفصيلي في وجوب الموافقة و حرمة المخالفة ام لا؟

و البحث هنا في كفايته في مقام امتثال ما يمكن معرفته تفصيلا، لوضوح ان التكليف الذي لا يمكن معرفته تفصيلا ينحصر امتثاله بنحو الاجمال، و لا يتأتى فيه شي ء مما ذكرنا مانعا عن كفاية الامتثال الاجمالي، لانه بعد انحصار امتثاله بالتكرار فلا يعقل ان يكون التكرار عبثا، و لا بد من سقوط قصد الوجه و التمييز فيه فيما لو كان امتثاله اجمالا مخلا بهما او بخصوص التمييز.

و على كل الكلام هنا في انه هل يجب في مقام الامتثال ان يعرف تفصيلا ان ما يأتي به هو المكلف به، ام يكفى في مقام الامتثال ان يأتي بما يعلم حصول الواجب في ضمنه فيكون قد علم اجمالا باتيان ما هو المأمور به؟

و بعبارة اخرى: انه هل يكفى في مقام الامتثال ان يأتي بما هو الواجب و لا يجب ان يعلم في مقام الاتيان ان ما يأتي به هو الواجب بخصوصه، ام لا يكفى ذلك بل يجب ان يعرف تفصيلا ان ما يأتي به هو الواجب بخصوصه؟

فاتضح ان البحث هنا في كفاية العلم الاجمالي في مقام الامتثال، و انه هل يحصل به سقوط التكليف المعلوم بالتفصيل ام لا بل لا بد في سقوط الواجب من العلم التفصيلي بان ياتي به هو الواجب بعينه؟ و الى هذا اشار بقوله: «و اما سقوطه به بان يوافقه اجمالا» أي بان ياتي ما يعلم بحصول الواجب في ضمنه.

(2) لا يخفى ان البحث في كفاية الامتثال الاجمالي و عدمه انما هو في ما كان المكلف به واجبا، اما لو كان محرما فلا اشكال فيه لان ما ذكر مانعا عن كفاية الامتثال اجمالا ككون التكرار مستلزما للعبث فانه انما يتأتى في مقام امتثال الواجب لا في امتثال المحرم، فان من علم بخمرية احد الإناءين لا يجب ان يعلم ما هو الخمر منهما،

ص: 133

و أما في العباديات فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار، كما إذا تردد أمر عبادة بين الاقل و الاكثر (1)، لعدم الاخلال (2) بشي ء مما يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول

______________________________

فتركه لعدم تأتي التكرار في تركهما معا لعدم الميز في الاعدام حتى يقال ان التكرار فيها مستلزم للبعث.

و اما اذا كان واجبا، فان كان توصليا فهو ايضا مما لا شكال في سقوطه بالامتثال اجمالا، لان التوصلي هو ما كان الغرض مترتبا على وجوده بأي نحو كان، فما ذكر مانعا عن سقوط التكليف بالامتثال اجمالا لا يتأتي فيه ككونه مخلا بقصد الوجه أو التمييز او كونه عبثا منافيا لقصد القربة، لوضوح عدم حاجة الامتثال في التوصليات الى قصد الوجه او التمييز او قصد القربة حتى يكون العبث منافيا لها، و لذا قال:

«فلا اشكال فيه» أي في كفاية الامتثال اجمالا «في التوصليات».

(1) لا يخفى ان التكليف العبادي ربما يكون امتثاله بنحو الاجمال لا يحتاج الى التكرار، كما لو علمنا بواجب مردد بين الاقل و الاكثر و كان مما يمكن معرفته تفصيلا، فامتثاله باتيان الاكثر لا يستلزم التكرار، و في هذا ايضا لا ينبغي ان يتوهم عدم كفاية الامتثال الاجمالي لما سيشير اليه من ان ما ذكر مانعا غير متأت فيه ايضا، و لذا قال: «و اما في العباديات فكذلك» أي كونها كالتوصليات مما لا اشكال في كفاية الامتثال الاجمالي فيها «فيما» كانت «لا يحتاج» الامتثال فيها «الى التكرار».

(2) لا يخفى ان الموانع التي ذكرت في المتن لعدم كفاية الامتثال الاجمالي مع امكان الامتثال التفصيلي ثلاثة: الاخلال بقصد الوجه، و بقصد التمييز، و لزوم اللعب و العبث.

و لا يخفى عدم تأتي الثالث هنا، لانه انما يمكن ان يدعى فيما كان فيه الامتثال الاجمالي بتكرار و الامتثال التفصيلي من غير تكرار، و حينئذ تتأتى دعوى ان

ص: 134

.....

______________________________

الامتثال بنحو التكرار انما هو لداعي اللعب و العبث بامر المولى، و هو مناف لقصد القربة الذي لا بد منه في حصول الامتثال، اما ما لا تكرار فيه فلا مجال لهذه الدعوى فيه، و لذا لم يتعرض لدفعه في هذا القسم.

و لما كان ما يتوهم كونه مانعا منحصرا في الاخلال بقصد الوجه او قصد التمييز فلا بد من بيان قصد الوجه و قصد التمييز ليتضح كون الامتثال بنحو الاجمال موجبا للاخلال بهما ام لا؟

و المراد من قصد الوجه هو قصد إتيان المامور به بما له من جهته الخاصة التي لاجلها تعلق الامر به، كجهة وجوبه او ندبه.

و قصدها يكون بنحوين: تارة: بان تكون تلك الجهة هي الداعي للاتيان.

و اخرى: بما هي صفة للماتي به لوضوح ان من اتى بالواجب لاجل كونه واجبا و بداعي وجوبه فقد قصد الوجه فيه، و من اتى به موصوفا بكونه واجبا كان ايضا قد قصد جهة وجوبه، و الاول قصد الوجه بنحو كونه غاية، و الثاني: قصده بنحو كونه وصفا، و لهذا اذا ذكروا قصد الوجه قالوا بنحو الغاية او التوصيف.

و اما قصد التمييز فالمراد منه هو كون المكلف عالما بحقيقة ما يأتي به، و لذا من اوجب قصد التمييز التزم بلزوم معرفة كون ما يأتي به قضاء او اداء، لان الجهل بأدائيته او قضائيته لازمها عدم معرفة حقيقة المأتي به تماما.

فاذا عرفت المراد من قصد الوجه و التمييز تعرف انه في الاتيان بالواجب المردد بين الاقل و الاكثر بنحو الاجمال بأن يأتي بما هو الاكثر لا يكون فيه اخلال بقصد الوجه، لوضوح انه قد أتى بالواجب بداعي وجوبه لفرض كون الداعي لاتيانه هو الوجوب، فان كان المركب الواجب هو الاكثر فقد أتي به بداعي الوجوب، و ان كان المركب الواجب هو الاقل فقد أتي به بذلك الداعي ايضا، و كذلك فيما اذا كان قصد الوجه بنحو التوصيف لصدق كون ما أتى به هو الواجب سواء كان هو الاقل او الاكثر.

ص: 135

الغرض منها، مما لا يمكن أن يؤخذ فيها، فإنه نشأ من قبل الامر بها، كقصد الاطاعة و الوجه و التمييز (1) فيما إذا

______________________________

و لا اخلال بقصد التمييز ايضا لما عرفت من ان قصد التمييز هو قصد الاتيان بما يعلم انه هو الواجب، و المكلف حيث يعلم ان الواجب اما الاقل او الاكثر فبقصده اتيان الاكثر يكون قد قصد التمييز لعلم المكلف بانه قد اتى بالمركب الواجب بتمامه و كماله، هذا اذا كان المراد من قصد الوجه و التمييز قصد الوجوب المتعلق بالمركب، و قصد العلم باتيان المركب الواجب بما هو مركب واجب.

و بعبارة اخرى: ان قصد الوجه اما بنحو الغاية او بنحو التوصيف، ان كان المراد منه هو قصد اتيان المركب بداعي الوجوب او اتيان المركب الموصوف بالوجوب فلا اخلال به في اتيان الواجب المردد بين الاقل و الاكثر في ضمن الاكثر، لفرض كون الداعي الى اتيانه هو الوجوب، و ان ما اتى به موصوف بالوجوب قطعا سواء كان هو الاقل او الاكثر، و الامر كذلك في قصد التمييز فانه بقصد اتيان الاكثر قد قصد اتيان ما يعلم انه هو الواجب سواء كان هو الاقل او الاكثر.

و اما اذا كان المراد من قصد الوجه و التمييز المتعلقين باجزاء المركب العبادي فسيأتي التعرض له.

(1) قد عرفت في مبحث التعبدي و التوصلي ان الفرق بين التعبدي و التوصلي هو كون الغرض من الاول لا يترتب إلّا باتيانه بقصد القربة و هو اتيانه بداعي امتثال امره، و قد عرفت هنا و هناك ان قصد الوجه هو قصد الوجوب و هو من صفات الامر المتعلق بالمركب، و قصد التمييز هو العلم بالمركب المتعلق للامر بحقيقته، و هو ايضا مما يتوقف على معرفة الامر المتعلق بالمركب.

فاتضح ان قصد الامر و قصد الوجه و قصد التمييز امور كلها تنشأ من قبل الامر المتعلق بالمركب.

ص: 136

أتى الاكثر (1)، و لا يكون إخلال حينئذ إلا بعدم إتيان ما احتمل جزئيته

______________________________

و قد عرفت ايضا في مبحث التعبدي الخلاف في امكان اخذ ما ينشأ من قبل الامر و عدمه، و ان المصنف يرى عدم امكان اخذ ما ينشأ من قبل الامر في متعلق الامر، و قد عرفت ايضا ان القدر المتيقن اعتباره في حصول المامور به التعبدي هو قصد الامتثال، و ان قصد الوجه و التمييز مما لا يعتبران في التعبدي، لانهما مما يغفل عنهما العامة، و في مثل ذلك يجب على الشارع ان يكون بصدد البيان فيهما لعدم ارشاد العقل اليهما، فان غاية ما يدعي هو ارشاده الى ما يتوقف عليه وقوع المامور به قريبا، و هو يحصل باتيانه بقصد الامتثال فقط من دون حاجة الى قصد الوجه و التمييز، و قد اشار الى هذه الامور كلها بقوله: «مما يعتبر» اشار الى قصد امتثال الامر لانه هو القدر المتيقن اعتباره في عبادية المامور به، و بقوله: «او يحتمل اعتباره» اشار الى ان قصد الوجه و التمييز ليس كقصد الامتثال، فليس قصدهما من القدر المتيقن اعتباره في وقوع المامور به عبادة. نعم هما مما يحتمل اعتباره بدوا.

و بقوله: «في حصول الغرض» اشار الى الفرق بين التعبدي و التوصلي، و بقوله: «مما لا يمكن ان يؤخذ فيها» أي في العبادة اشار الى ان رأيه عدم امكان أخذ هذه الامور كلها في متعلق الامر، و بقوله: «لكونه» أي لكون ما يعتبر او يحتمل اعتباره «نشا من قبل الامر بها» اشار الى علة عدم امكان اخذها فيه، و قوله: «كقصد الاطاعة» مثال لما يعتبر، و قوله: «و الوجه او التمييز» هذا مثال لما يحتمل اعتباره.

(1) لا يخفى ان الكلام في الامتثال الاجمالي و هو إتيان ما يقطع بانه قد اتى بالواجب في ضمنه، و هو انما يتحقق فيما اذا أتى بالاكثر كما اشرنا اليه، لوضوح انه اذا أتى بالاقل لا يقطع باتيان ما يحصل الواجب في ضمنه، لاحتمال كونه هو الاكثر، و على فرض كون الواجب هو الاكثر لا يكون قد أتى بما يقطع حصول الواجب في ضمنه، و قد عرفت انه باتيانه بداعي الامر قد حصل قصد الامتثال، و باتيانه بداعي الوجوب

ص: 137

على تقديرها بقصدها (1)، و احتمال دخل قصدها في حصول الغرض

______________________________

يحصل قصد الوجه بنحو الغاية، و باتيانه المامور به موصوفا بالوجوب يحصل قصد الوجه بنحو التوصيف، و بعد علمه بان المركب الواجب يحصل في ضمن ما ياتي به قد حصل قصد التمييز فلا اخلال بشي ء مما يعتبر في العبادة قطعا او احتمالا، فيما اذا كان المامور به عبادة و كان امتثاله غير محتاج الى التكرار و ذلك في العبادة المرددة بين الاقل و الاكثر فيما اتى بها في ضمن الاكثر.

(1) لا يخفى انه اذا كانت هذه الامور الثلاثة معتبرة في وقوع المركب بما هو مركب عبادة لا يكون اخلال بها اصلا فيما اذا أتى بالمركب المردد بين الاقل و الاكثر في ضمن الاكثر، لفرض قصد امتثال الامر المتعلق بالمركب، و فرض اتيان المركب بداعي قصد الوجوب او موصوفا بالوجوب، و فرض العلم بان ما يأتي به هو المركب الواجب قطعا.

و اما اذا كانت هذه الامور معتبرة في اجزاء المركب العبادي كاعتبارها في نفس المركب بان يؤتي بكل جزء جزء من المركب بقصد امره المتعلق به و يقصد وجوبه الخاص به غاية او وصفا، و بقصد تمييزه بوصف كونه جزءا للعبادة- فلا يحصل الامتثال الاجمالي للعبادة المرددة بين الاقل و الاكثر باتيانها في ضمن الاكثر، لفرض كون بعض ما يأتي به محتمل الجزئية.

و مع احتمال كونه جزءا و احتمال كونه ليس بجزء لا يتأتى قصد امتثال امره بخصوصه، لاحتمال ان لا يكون له امر.

و لا يتأتى ايضا قصد وجوبه الخاص به لا غاية و لا توصيفا، لاحتمال عدم وجوبه.

و عدم حصول التمييز فيه واضح، لفرض عدم تمييز كل جزء جزء منه بما انه جزء المركب الواجب.

ص: 138

ضعيف في الغاية و سخيف إلى النهاية (1).

و أما فيما احتاج إلى التكرار، فربما يشكل من جهة الاخلال بالوجه تارة، و بالتمييز أخرى، و كونه لعبا و عبثا ثالثة.

و أنت خبير بعدم الاخلال بالوجه بوجه في الاتيان مثلا بالصلاتين المشتملتين على الواجب لوجوبه، غاية الامر أنه لا تعيين له و لا تمييز فالاخلال إنما يكون به، و احتمال اعتباره أيضا في غاية الضعف، لعدم عين منه و لا أثر في الاخبار، مع أنه مما يغفل عنه غالبا، و في مثله لا بد

______________________________

فعدم حصول هذه الامور اذا كانت معتبرة على هذا النحو واضح، و الى هذا اشار بقوله: «و لا يكون اخلال حينئذ» أي لا يكون اخلال بهذه الامور الثلاثة في اتيان الاقل في ضمن الاكثر اذا كانت هذه الامور معتبرة في المركب بما هو مركب، و لا يقع الاخلال بها «الا» اذا كانت معتبرة في اجزاء المركب كاعتبارها فيه، و حينئذ يحصل الاخلال بها و ذلك «بعدم اتيان ما احتمل جزئيته» بقصد امتثال امره الخاص و لا بقصد وجوبه الخاص و لا متميزا بعنوان كونه جزءا ف «على تقديرها» معتبرة في كل جزء جزء يقع الاخلال «بقصدها» كما عرفت.

(1) حاصله: ان قصد عبادية الجزء و قصد الوجه و التمييز فيه ضعيف و سخيف و الوجه في ذلك ان العبادي اما ان يكون عبادة بذاته فقصد عنوانه هو قصد عباديته من دون حاجة الى قصد امره او غيره، و ان كان هو ما لو امر به لكان امره عباديا، فجزء العبادة مما لم يؤمر به و انما المامور به هو المركب دون الجزء، فاذا لم يكن الجزء بما هو جزء متعلقا لامر عبادي فلا وجه لاعتبار قصد القربة فيه بخصوصه او قصد الوجه او قصد التمييز فيه كذلك، لانها انما تعتبر في ما تعلق به الامر العبادي، و المفروض ان متعلق الامر العبادي هو المركب دون الجزء بما هو جزء، و قد عرفت ان المركب المأتي به في ضمن الاكثر لا اخلال فيه لا بقصد القرب و لا بقصد الوجه و لا بقصد التمييز.

ص: 139

إجزاء الاحتياط المستلزم للتكرار

من التنبيه على اعتباره و دخله في الغرض، و إلا لاخل بالغرض، كما نبهنا عليه سابقا.

و أما كون التكرار لعبا و عبثا، فمع أنه ربما يكون لداع عقلائي، إنما يضر إذا كان لعبا بأمر المولى، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها، كما لا يخفى (1)، هذا كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلا

______________________________

(1) قوله (قدس سره): «و اما فيما احتاج الى التكرار الخ» كمن صلى مرتين في ثوبين علم بنجاسة احدهما اجمالا، و كان يستطيع ان يعرف النجس منهما بخصوصه- فقد استشكل في صحة الامتثال الاجمالي فيه بوجوه اشار المصنف الى ثلاثة منها:

الاول: لزوم الاخلال بقصد الوجه، بدعوى ان كلا من الصلاتين قد اتى بهما بداعي احتمال الوجوب لا بداعي الوجوب.

و فيه ان الاتيان بداعي احتمال الوجوب لا يوجب خللا في قصد الوجه، لبداهة ان قصد الوجه هو الاتيان بداعي الوجوب لوجوبه، و الاتيان بمحتمل الوجوب حيث كان منبعثا عن قصد امتثال الواجب لوجوبه، فاذا كان واجبا واقعا فقد اتى به بداعي الوجوب لوجوبه و لم يقع اخلال فيه، فان قصد الاتيان بالواجب لوجوبه في المعلوم بالتفصيل يحصل منه ارادة واحدة تتعلق باتيان المعلوم بالتفصيل، و في المعلوم بالاجمال منه تحصل ارادتان لكل واحد من المحتملين ارادة تتعلق باتيانه بخصوصه منبعثة عن ارادة امتثال الواجب لوجوبه.

و منه يظهر ان المنع عن اتيان ما احتمل جزئيته في الفرض السابق بقصد الوجه انما هو لعدم كون جزء العبادة عبادة لا لعدم تاتي قصد الوجه في محتمل الجزئية لو فرض اعتباره فيه، و اليه اشار بقوله: «و انت خبير بعدم الاخلال بالوجه بوجه في الاتيان الى آخر الجملة».

الثاني: لزوم الاخلال بقصد التمييز في الاتيان بمحتمل الوجوب و هو واضح، لما عرفت من ان التمييز هو الاتيان بما علم تفصيلا انه هو الواجب، و في كل واحد من

ص: 140

.....

______________________________

محتمل الوجوب لا علم للمكلف تفصيلا بانه هو الواجب، و الى هذا اشار بقوله:

«غاية الامر انه لا تعيين له و لا تمييز فالاخلال انما يكون به» أي بقصد التمييز فقط.

و الجواب عنه: ان احتمال لزوم قصد التمييز في العبادة ضعيف، لانه و ان كان لا يمكن ان يؤخذ في الامر ما ينشا من قبل الامر، إلّا انه يمكن بيانه بامر آخر، و انما قلنا بعدم الحاجة الى البيان في قصد الامتثال لارشاد العقل اليه، و العقل لا يرى توقف الطاعة على قصد التمييز حتى يرشد اليه، و حيث كان مما يغفل عنه عامة الناس فكان على الشارع بيانه، لانه لو لم يبينه بأمر آخر للزم الاخلال بغرضه، و حيث لم يبينه لعدم اثر منه في ما ورد من الشارع لذا يكون الاطلاق نافيا له، و اليه اشار بقوله: «و احتمال اعتباره ايضا في غاية الضعف لعدم عين منه و لا اثر في الاخبار الى آخر الجملة».

الثالث: كون التكرار لعبا و عبثا بامر المولى و هو مناف لقصد القربة، بدعوى انه بعد ان كان مما يمكن ان يعلم به تفصيلا فالاعراض عن اتيانه معلوما بنحو التفصيل انما هو لداعي اللعب و العبث و هو مناف لقصد القربة.

و الجواب عنه، أولا: إنا لا نسلم ان التكرار لداعي اللعب و العبث، بل كثيرا ما يكون التكرار اخف مئونة من الفحص حتى يحصل المعلوم بالتفصيل، و عليه فيكون التكرار بداع عقلائي لا بداعي اللعب و العبث بامر المولى حتى يكون منافيا لقصد الطاعة، و الى هذا اشار بقوله: «فمع انه ربما يكون لداع عقلائي».

و ثانيا: بعد التسليم للعب و العبث نقول لا يكون منافيا لقصد القربة لانه واقع في كيفية تحصيل اليقين ببراءة الذمة، لا في اتيان كل واحد من المحتملين حتى يكون اتيانه اتيانا عبثيا منافيا لقصد القربة فيه.

و توضيح ذلك: ان المفروض في المقام هو اتيان كل واحد من المحتملين بداعي احتمال وجوبه، فكون اتيانه بمحض اللعب و العبث خلفا، و مثله في لزوم الخلف هو اتيان كل من المحتملين بداعي احتمال الوجوب و بداعي اللعب و العبث معا ليحصل

ص: 141

بالامتثال (1).

______________________________

التشريك في العبادة المنافي لقصد القربة. فانحصر ان يكون اللعب و العبث ليس في اتيان كل واحد من المحتملين بل هو في كيفية تحصيل اليقين بالبراءة، و اذا كان متعلق اللعب و العبث ليس هو اتيان كل واحد من المحتملين فلا يكون منافيا لقصد القربة، لعدم وقوع ما اتى به بقصد احتمال الوجوب بنحو اللعب و العبث حتى يكون منافيا لقصدها فيه و لم يقع اللعب و العبث بمتعلق الامر حتى ينافيها، و الى هذا اشار بقوله:

«انما يضر» قصد اللعب «اذا كان» متعلقا بما تعلق به أمر المولى، لانه حينئذ يكون «لعبا بامر المولى لا» فيما اذا كان متعلقه غير ما تعلق به امر المولى بان كان متعلقا «في كيفية اطاعته» لما عرفت من لزوم الخلف «بعد حصول الداعي اليها» لانه بعد فرض كون الداعي الى اتيان كل من المحتملين هو احتمال وجوبه فلا بد ان يكون ذلك لداعي حصول القربة و اطاعة امر المولى، فلا يكون متعلق قصد القربة هو متعلق اللعب و العبث، فلا يعقل ان يكون منافيا لقصد القربة في اتيان كل من المحتملين بداعي احتمال وجوبه، و ينحصر ان يكون متعلق اللعب و العبث هو تحصيل اليقين في كيفية الاطاعة لا في ذات ما به الاطاعة.

(1) لا يخفى ان ما مر من الكلام في جواز الامتثال الاجمالي في قبال الامتثال التفصيلي هو فيما كان متمكنا من ان يمتثل تفصيلا، اما بان يعرف التكليف تفصيلا فيمتثله تفصيلا او كان عالما بالتكليف تفصيلا و لكنه يجهل ما يحصل به الامتثال تفصيلا و يستطيع معرفته ايضا، و الاول كالتكليف المردد بين الاقل و الاكثر و كان يمكنه ان يعرف تفصيلا ما هو المكلف به اما بالاجتهاد او بالتقليد.

و الثاني ما اذا كان يستطيع ان يعرف الثوب الطاهر تفصيلا فيؤدي صلاته فيه.

و قد تقدم جواز الامتثال الاجمالي في المقامين سواء لزم منه التكرار ام لا و ان كان متمكنا من الامتثال التفصيلي، و الى هذا اشار بقوله: «هذا كله في قبال ما اذا تمكن من القطع تفصيلا بالامتثال».

ص: 142

الامتثال الظني التفصيلي

و أما إذا لم يتمكن الامن الظن به كذلك، فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظني لو لم يقم دليل على اعتباره، إلا فيما إذا لم يتمكن منه، و أما لو قام على اعتباره مطلقا، فلا إشكال في الاجتزاء بالظني (1)،

______________________________

و منه يتضح انه لا اشكال فيما اذا كان لا يتمكن من القطع تفصيلا بالامتثال في لزوم الامتثال اجمالا، لان شغل الذمة بالتكليف يقينا يستدعي البراءة منها يقينا، و حيث كان اليقين بالبراءة متوقفا على الامتثال الاجمالي فلا شبهة في لزومه.

(1) لما فرغ من حكم الامتثال الاجمالي في قبال القطع التفصيلي بالامتثال شرع في بيان حكم الامتثال الاجمالي في قبال الظن بالامتثال.

و لا بد من تقديم امر توضيحا لذلك:

فنقول: ان التكليف: تارة يكون ثابتا بامارة خاصة معتبرة تدل عليه، و لا يخفى انه كالتكليف الحاصل بالقطع في لزوم امتثاله و البراءة منه يقينا، و هو على نحوين ايضا تارة يكون التكليف المتحصل من الامارة مرددا بين الاقل و الاكثر.

و اخرى يكون ما به يحصل امتثاله مرددا بين الواجد للشرط الذي يتم به الامتثال و بين الفاقد له.

و على كل منهما ففرض الكلام فيما اذا كان المكلف متمكنا من الامتثال التفصيلي بان يستطيع ان يعرف التكليف بخصوصه غير مردد بين الاقل و الاكثر، او يستطيع ان يعرف ما به يحصل الامتثال التفصيلي.

و مما ذكرنا في جواز الامتثال الاجمالي في التكليف المقطوع به سواء لزم التكرار أم لم يلزم و لو فيما كان متمكنا من القطع التفصيلي بالامتثال- يتضح حكم الامتثال الاجمالي في هذا الفرض، اذ لا يعقل ان يزيد حكم امتثال التكليف الثابت بامارة معتبرة على التكليف الثابت بالقطع.

و انه لا اشكال في لزوم تقديم الامتثال الاجمالي على الامتثال التفصيلي الظني فيما اذا كان متمكنا من الامتثال الظني تفصيلا، لما اشرنا اليه من كون شغل الذمة

ص: 143

.....

______________________________

اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، و حيث كان الفراغ اليقيني يتوقف على الامتثال الاجمالي كان الامتثال الاجمالي لازما و متقدما على الظن التفصيلي بالامتثال. و الى هذا اشار بقوله: «و اما اذا لم يتمكن» أي اذا لم يتمكن من القطع التفصيلي بالامتثال و كان متمكنا من «الظن به كذلك» أي كان متمكنا من الظن بالامتثال تفصيلا فقط ففي مثل هذا الفرض «لا اشكال في تقديمه» أي في تقديم الامتثال الاجمالي «على الامتثال الظني» التفصيلي لان شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني و هو متوقف على الامتثال الاجمالي.

و لكنه لا يخفى ان لزوم تقديم الامتثال الاجمالي على الظن التفصيلي بالامتثال انما هو فيما اذا كان متمكنا من الامتثال الاجمالي.

و اما اذا كان المكلف لا يتمكن من الامتثال الاجمالي بان كان لا يتمكن الا من الامتثال الظني التفصيلي فالاجماع و قاعدة الميسور تقتضيان التنزل من الامتثال الاجمالي الى الامتثال الظني، و الى هذا اشار بقوله: «لو لم يقم دليل على اعتباره» أي ان تقديم الامتثال الاجمالي على الامتثال الظني انما يلزم حيث لم يقم دليل على اعتبار الامتثال الظني، فضمير اعتباره يرجع الى الامتثال الظني، فانه فيما لم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الامتثال الظني يكون اعتبار الامتثال الظني منحصرا فيما اذا لم يتمكن من الامتثال الاجمالي، و اليه اشار بقوله: «الا فيما اذا لم يتمكن منه» أي من الامتثال الاجمالي، فانه حينئذ و ان لم يقم دليل بالخصوص على اعتبار الامتثال الظني إلّا ان قاعدة الميسور او الاجماع تقتضي التنزل اليه، لوضوح ان ما لا يدرك كله لا يترك كله، فضمير منه يرجع الى الامتثال الاجمالي.

و اما اذا قام دليل بالخصوص على اعتبار الامتثال الظني مطلقا و لو مع التمكن من الامتثال الاجمالي فلا اشكال في جواز الاكتفاء بالامتثال الظني، و الى هذا اشار بقوله: «و اما لو قام على اعتباره مطلقا» أي و لو مع التمكن من الامتثال الاجمالي «فلا اشكال في الاجتزاء ب» الامتثال «الظني».

ص: 144

كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الاجمالي في قبال الظني، بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد، بناء على أن يكون من مقدماته عدم وجوب الاحتياط، و أما لو كان من مقدماته بطلانه لاستلزامه العسر المخل بالنظام، أو لانه ليس من وجوه الطاعة و العبادة، بل هو نحو لعب

______________________________

لا يقال: انه مع قيام الدليل المعتبر على التكليف بالخصوص فالاكتفاء بالامتثال الظني من الشارع مطلقا و لو مع التمكن من الامتثال الاجمالي لازمه الاذن في ترك الموافقة القطعية الذي لازمه جواز المخالفة الاحتمالية، و قد عرفت انه كالاذن في الترخيص المستلزم للمخالفة القطعية من حيث القبح المحال على الشارع الحكيم، و من جهة ان احتمال المحال كالقطع بالمحال، لان استلزام تنجيز التكليف الواجب اللازم استيفاؤه ينافيه الاكتفاء بالامتثال الظني المستلزم لعدم لزوم الاستيفاء، لاحتمال كون المتروك هو الواجب.

فانه يقال: ان الدليل القائم على الاجتزاء بالامتثال الظني مع التمكن من الامتثال القطعي الاجمالي لا اشكال فيه فيما اذا كان ذلك مع احتمال تبدل الموضوع كعروض الشك.

و اما مع عدم احتمال تبدل الموضوع بان قام الدليل على الاجتزاء بالامتثال الظني ابتداء، فانه ايضا لا اشكال فيه لامكان عروض مصلحة في الاكتفاء بالامتثال الظني تعادل المصلحة المحتمل فواتها بترك الاستيفاء، و سيأتي ان شاء اللّه تعالى قريبا في مبحث الامارات التعرض لما به يرتفع الاشكال بجميع صوره.

و لا يخفى ان لازم قيام الدليل على الاجتزاء بالامتثال الظني هو عدم انحصار الامتثال بالامتثال الاجمالي الذي تقتضيه قاعدة الشغل، و عليه فيكون المكلف موسعا عليه ان يمتثل بالقطع الاجمالي و ان يكتفي بالامتثال الظني، و الى هذا اشار «ب» لفظ «الاجتزاء» فان لازم الاجتزاء بالظني هو كفاية الامتثال به لا انحصار الامتثال به كي لا يجوز للمكلف الامتثال بنحو القطع الاجمالي بالامتثال.

ص: 145

و عبث بأمر المولى فيما إذا كان بالتكرار، كما توهم، فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلا إلى الظن كذلك.

و عليه: فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد و الاجتهاد، و إن احتاط فيها، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) لا يخفى ان امتثال التكليف كما يكون بالقطع و بقيام دليل معتبر عليه بالخصوص، كذلك يمكن ان يكون بالظن الانسدادي.

و لا يخفى من مقدمات دليل الانسداد عدم الاحتياط، فان كان الدليل على عدم الاحتياط الاجماع القائم على عدم وجوبه و ان كان الامتثال الاجمالي ممكنا و لا مانع منه فلازم ذلك هو الاكتفاء من الشارع بالامتثال الظني، فيكون حاله حال الدليل الخاص القائم على الاجتزاء بالامتثال الظني، و قد عرفت ان لازمه الاكتفاء به لا انحصار الامتثال به و عدم صحة الامتثال الاجمالي.

و ان كان الدليل على عدم الاحتياط استلزامه العسر المخل بالنظام فلازمه بطلان الاحتياط، لوضوح مبغوضية ما يستلزم الاخلال بالنظام للشارع، و اذا كان الاحتياط باطلا و مبغوضا فلا تتأتى معه نية القربة اللازمة في العباديات، و عليه فينحصر الامتثال بالامتثال الظني.

و الحاصل: انه ان قلنا ببطلان الاحتياط كما لو كان من مقدمات دليل الانسداد بطلانه، او قلنا ببطلان الاحتياط لانه لعب و عبث بامر المولى كما هو احد الوجوه المتقدمة لبطلان الاحتياط- فلا بد من انحصار الامتثال بالامتثال الظني، و لازم الانحصار به بطلان عبادة تارك طريقي التقليد و الاجتهاد و متخذا سبيل الاحتياط في امتثال تكاليفه.

و قد اشار الى جميع ما ذكرنا، لانه اشار الى الاجتزاء بالظني دون انحصار الامتثال به، بان يكون المكلف موسعا عليه ان يجتزئ بالامتثال الاجمالي و ان تجتزئ بالامتثال الظني بقوله: «كما لا اشكال في الاجتزاء بالامتثال الاجمالي في قبال

ص: 146

.....

______________________________

الظني» فيما اذا كان ثبوت التكاليف «بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد بناء على ان يكون من مقدماته عدم وجوب الاحتياط» لا بطلانه.

و اشار الى انه لو كان الاحتياط باطلا لكون بطلانه من مقدمات دليل الانسداد، أو قلنا بانه لعب و عبث بامر المولى فالمتعين حينئذ هو الامتثال الظني بقوله: «و اما لو كان من مقدماته بطلانه الى آخر الجملة».

و اشار الى ان لازم بطلان الاحتياط بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد و التقليد بقوله: «و عليه فلا مناص الى آخر الجملة».

ثم لا يخفى انه يكفي في بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد و التقليد احتماله لبطلان طريقة الاحتياط، لوضوح منافاة احتمال بطلان الاحتياط و مبغوضيته لنية القربة اللازمة في العبادات.

تنبيه: انه قد اشرنا في اول هذه المسألة انه قد ذكر لبطلان الاحتياط و الامتثال القطعي الاجمالي مع امكان الامتثال التفصيلي وجوه، ذكر المصنف ثلاثة منها و بقى من وجوه بطلانه وجهان لم يشر اليهما المصنف، فلا بأس بالاشارة اليهما تتميما للفائدة:

الاول: المنسوب الى آية اللّه الكبرى المقدس الثاني المرحوم ميرزا محمد تقي الشيرازي (طاب ثراه) و هو الاستدلال على البطلان بخبرين: احدهما صحيح ابراهيم الخزاز عن ابي عبد اللّه عليه السّلام، ورد فيه ان شهر رمضان فريضة من فرائض اللّه فلا تؤدوا بالظني. ثانيهما: خبر الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه الى المأمون، فقد ورد فيه ايضا صيام شهر رمضان فريضة يصام للرؤية و يفطر للرؤية.

و وجه الاستدلال بهما ان ظاهرهما لزوم امتثال شهر رمضان بالامتثال التفصيلي و ان ذلك لكون شهر رمضان فريضة و كل فريضة لا تؤدى بالظن.

فالمتحصل منهما ان كل فريضة لا تؤدى بالظن، و انه لو تمت دلالتهما لدلا على بطلان الاحتياط مطلقا سواء لزم منه التكرار ام لا.

ص: 147

.....

______________________________

و فيه اولا: انه لو تمت دلالتهما لما دلا على بطلان الاحتياط فيما لا يلزم منه التكرار، لان غاية ما يدلان عليه هو لزوم العلم بانطباق المامور به على المأتي به، بان يكون المكلف عالما بان ما ياتي به فريضة.

و من الواضح ان المكلف الآتي بالمركب المردد بين الاقل و الاكثر في ضمن الاكثر يعلم قطعا بانه ما اتى به هو الفريضة قطعا، نعم فيما لزم منه التكرار لا يكون عالما بان كل واحد من المشتبهين فريضة.

و ثانيا: ان الخبرين واردان في صوم يوم الشك المردد بين كونه من شعبان او رمضان، و صيامه يكون بنحوين: الاول بنية كونه من رمضان. الثاني بنية احتمال كونه منه و القدر المتيقن منهما هو المنع عن صومه بنحو ان يكون من رمضان، لتوقف تنجز الحكم على تحقق موضوعه، و حيث ان المفروض الشك في تحققه فلا يصح صومه بعنوان كونه من الفريضة، و مثله كل فريضة لا يعلم بتحقق موضوعها، فانه لا يصح اتيان المشكوك انه منها بعنوان كونه منها لكونه من التشريع، و اما اتيان المشكوك بعنوان احتمال انه منها فلا دلالة للخبرين على المنع منه، و هو ليس من التشريع قطعا.

و بعبارة اخرى: ان شهر رمضان حيث انه عبارة عن اوامر متعددة بتعدد الايام فيه، و لكل واحد منها امر غير الامر بالآخر، و المشكوك لو كان واقعا من رمضان لكان له امر يخصه، فلا يقاس على المنع عنه المنع عن امتثال الامر المتعلق بمركب معلوم تفصيلا، و لكن تردد امتثاله في فردين.

و هناك احتمالات أخر توجب اجمال الخبرين و عدم ظهورهما في المنع عما هو مفروض الكلام اعرضنا عنها حذرا من التطويل.

الثاني: من الوجهين ما ذكر في تقريرات شيخ المحققين و علم المدققين المنتهى اليه رئاسة العلم و التحقيق و الذوق المرحوم النائيني (طاب مرقده).

ص: 148

.....

______________________________

و ملخصه: انه جعل للاطاعة مراتب طولية اربع لا تصح الثانية مع امكان الاولى و لا تصح الثالثة مع امكان الثانية و لا تصح الرابعة مع امكان الثالثة.

المرتبة الاولى مرتبة الامتثال القطعي التفصيلي. و المرتبة الثانية مرتبة الامتثال القطعي الاجمالي. و المرتبة الثالثة مرتبة الامتثال الظني. و المرتبة الرابعة مرتبة الامتثال الاحتمالي.

و لا ريب في عدم صحة الاكتفاء بالمرتبة الثالثة و الرابعة مع امكان الاولى و الثانية، و اما عدم صحة الثانية مع امكان الاولى فالوجه عنده فيه هو حكم العقل، بانه لا بد و ان يتحرك المكلف في مقام اطاعة الامر عن نفس الامر، بان يكون منبعثا عن نفس بعث المولى بحيث يكون الداعي و المحرك له نحو العمل هو تعلق الامر به و انطباقه على المامور به، و هذا مفقود في الامتثال الاجمالي، فان الداعي للمكلف نحو كل واحد من فردي الترديد هو احتمال انطباق متعلق الامر عليه، فهو منبعث عن احتمال الامر لا عن نفس الامر، و من الواضح انه اذا كانت المراتب عند العقل متعددة طولية فهو لا يرى حسن الاطاعة بالمرتبة المتأخرة مع امكان المرتبة التي تتقدمها، فلا يكون الامتثال الاجمالي حسنا عند العقل الا عند عدم امكان الامتثال التفصيلي، و اما مع امكان الامتثال التفصيلي فلا يكون الامتثال الاجمالي حسنا، و من الواضح ان المحكم في باب حسن الاطاعة هو العقل، و لذا لا يكون الامتثال الظني حسنا عند العقل مع امكان الامتثال الاجمالي، و انما يكون حسنا عنده حيث لا يمكن الامتثال الاجمالي، و كذلك الامتثال الاحتمالي مع امكان الامتثال الظني، و من الواضح ان الامر في هذه المراتب ليس كنية الوجه و التمييز مما يشك في دخولها في الغرض حتى تنفى بالاطلاق و لو بعدم الامر الثاني، اذ من الممكن الدلالة على اعتبارهما بامر آخر اذا قلنا بعدم امكان اخذهما في الامر الاول، لان ارتباط المراتب بكيفية الاطاعة لا في دخولها في الغرض.

ص: 149

.....

______________________________

و فيه اولا: ان حكم العقل بقبح شي ء او حسنه ليس من التعبديات، و لا بد ان يكون السبب في حكمه بالحسن او القبح واضحا لديه، و السبب في حكمه بعدم حسن الامتثال الظني مع امكان المرتبتين الاوليين هو عدم حصول القطع بالفراغ اليقيني، و ليس هذا بمتحقق في الامتثال الاجمالي القطعي للقطع بحصول متعلق الامر قطعا، فلا وجه لعدم حكم العقل بحسنه من هذه الناحية، نعم لو كان من المحتمل عنده دخالته في الغرض لكان حكمه بعدم حسنه الا بعد نفيه بالاطلاق.

و ثانيا: ان تحرك المكلف عن الامر انما هو تحركه عن صورة الامر الموجودة في ذهن المكلف، و ليس تحركه الى الامتثال هو عن نفس الامر الموجود بوجوده الخارجي، و اذا كان المكلف دائما تحركه انما هو عن صورة الامر، فيكون تحركه الى الفرد المحتمل انما هو عن ارادة امتثال تلك الصورة التي هي المحركة في الامتثال التفصيلي، و لا تعلق لانطباق تلك الصورة على الماتي به تارة و عدم انطباقها عليه اخرى في كونها هي المحركة دائما، فان تلك الصورة هي المحركة و ان لم تنطبق على الماتي به. نعم لو كان المحرك له هو الامر بوجوده الخارجي لكان المكلف متحركا عنه في مورد الامتثال التفصيلي و غير متحرك عنه في مورد الامتثال الاجمالي بالنسبة الى احد فردي الترديد، و لكنه ظاهر البطلان و إلّا لانقلب العالم الخارجي الى العالم النفسي، و تقابل العوالم من الواضحات.

و قد ظهر مما ذكرنا ان صورة الامر التي في افق نفس المكلف هي الداعي للاتيان، و هذه الصورة حيث كانت محتملة الانطباق على كل واحد من فردي الترديد، فالنسبة الى الفرد الذي كان الامر الواقعي فيه يكون هو مطابقها حقيقة و هو اطاعة حقيقية، و بالنسبة الى الفرد الآخر يكون انقيادا.

فالآتي بكلا المحتملين يكون منبعثا عن الامر الشخصي الخارجي بصورته الحاصلة في نفس المكلف.

ص: 150

الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا

اشارة

هذا بعض الكلام في القطع مما يناسب المقام، و يأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة و الاشتغال، فيقع المقام فيما هو المهم من عقد هذا المقصد، و هو بيان ما قيل باعتباره من الامارات، أو صح أن يقال.

و قبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم أمور:

أحدها: إنه لا ريب في أن الامارة غير العلمية، ليست كالقطع في كون الحجية من لوازمها و مقتضياتها بنحو العلية، بل مطلقا (1)، و أن

______________________________

و ثالثا: ان احتمال لزوم الامر الانبعاث عن الامر التفصيلي، اما لاحتمال دخالته في الغرض كقصد القربة و قصد الوجه أولا، فان كان لاحتمال دخالته في الغرض فهو و ان كان مما لا يمكن اخذه في نفس الامر الواحد، إلّا انه يمكن بيان دخالته بامرين، و هو ايضا مما تغفل عنه العامة كقصد الوجه، فعلى الشارع بيانه لو كان مما له دخل في ترتب الغرض.

و ان كان احتمال دخالته لا لدخوله في ترتب الغرض، فبعد الاتيان بالمحتملين يحصل الغرض فلا مناص من سقوط اعتباره، هذا اولا.

و ثانيا ان احتمال دخالته مع عدم دخوله في الغرض لا وجه له اصلا، و ليس للعقل الّا ان يلزم بما به يحصل الفراغ اليقيني.

(1) حاصل هذا الامر هو اثبات ان الظن ليس كالقطع في عليته للحجية على ثبوت ما قام عليه، و ذلك لكونه ليس هو انكشافا تاما لما تعلق به، لان احد طرفيه احتمال العدم، فلا يكون ما قام عليه الظن و اصلا تام الوصول، و حيث كان احد طرفيه ارجح من الطرف الآخر كان مما يمكن ان يجعل طريقا، بان يجعل له الحجية و يعتبره حجة منجزا لو اصاب و عذرا لو اخطأ، فالظن من حيث ذاته ليس فيه ضرورة تقتضي الحجية و لا عدم الحجية، فنسبة الحجية اليه نسبة الامكان الخاص و هو سلب الضرورة عن الطرفين.

ص: 151

ثبوتها لها محتاج إلى جعل أو ثبوت مقدمات و طروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلا، بناء على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة (1)، و ذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية بدون

______________________________

و مما ذكرنا ظهر انه كما انه ليس علة تامة للحجية ليس فيه الاقتضاء لها ايضا، بمعنى انه يؤثر الحجية لو لا المانع، لوضوح ان الحجية للطريق بما هو طريق لا تكون الابان يكون موصلا بالفعل، و حيث ان الظن مشوبا باحتمال الخلاف فبما هو ظن لا اقتضاء فيه بالذات للايصال التام، لان احتمال عدم الوصول من مقومات ذات الظن، و قد اشار الى ان الامارة كالظن ليست علة تامة للحجيّة بقوله: «انه لا ريب في ان الامارة غير العلمية ليس كالقطع في كون الحجية من لوازمها و مقتضياتها بنحو العلية» التامة، فليست الامارة غير العلمية كالقطع لها العلية التامة للحجية، و اشار الى عدم اقتضائها بنحو تؤثر الحجية لو لا المانع بقوله: «بل مطلقا».

(1) لما تبيّن ان ليست الامارة علة تامة للحجية و ليس لها اقتضاء لها ايضا، و حيث ان للامارة كشفا ناقصا لرجحان احد الطرفين فيها على الآخر- بخلاف الشك فانه مما يتساوى فيه الطرفان- كانت قابلة لثبوت الحجية لها بجعل من الشارع او من العقل.

و لا يخفى ان حجية الامارات غير العلميّة شرعا يتبع فيه دلالة الدليل على حجيتها، فربما يكون دالا على حجية الامارة مطلقا و لو مع امكان تحصيل الواقع بالعلم، كالمستفاد من بعض ادلة حجية خبر العادل، فانها تدل على حجيّته و ان امكن تحصيل الواقع بالعلم.

و اما حجيتها عقلا، بان تكون حجة عند العقل منجزة لو أصابت و معذرة لو أخطأت فهو مشروط بمقدمات لا بد من تحققها و طروء حالات لا بد من ثبوتها، و عند تمامها يكون الظن- مثلا- علّة تامة عند العقل للحجية، و حينئذ يكون كالقطع حجة لا بجعل جاعل، و سيأتي في محله البحث في اقتضاء تلك المقدمات، و الخلاف في انها

ص: 152

ذلك (1) ثبوتا بلا خلاف، و لا سقوطا (2) و إن كان ربما يظهر فيه من بعض المحققين

______________________________

هل هي بنفسها تنتج كون الظن حجة من دون جعل او انها كاشفة عن جعل الشارع للظن؟

و الاول هي نتيجة مقدمات الانسداد بنحو الحكومة، لوضوح كون نتيجتها حكم العقل و ادراكه بكون الظن حجة كالقطع من غير جعل جاعل لحجيته.

و الثاني هو نتيجة الانسداد بنحو الكشف لكشفها عن جعل الشارع للظن عنده بعد تمامية المقدمات.

فحجيّة الظن على الاول غير مجعولة و على الثاني مجعولة، و لذا جعل المصنف ثبوت حجية الظن بالانسداد على نحو الحكومة في قبال جعل الحجية للظن فقال «و ان ثبوتها» أي ثبوت الحجية «لها» أي للامارات غير العلمية «محتاج الى جعل او ثبوت مقدمات و طروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية» للظن «عقلا بناء على تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة» دون الكشف لكونها على الكشف تكون كاشفة عن جعل الشارع فلا تكون في قبال الجعل.

(1) هذا تعليل لكون الامارات غير العلمية ليست كالقطع علة تامة للحجية، بل هي بذاتها ليست بعلة تامة بل و لا اقتضاء لها للحجية كما عرفت، و لذا قال: «و ذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية بدون ذلك» أي بدون جعل.

(2) قد عرفت في مباحث القطع ان هناك مسألتين: مسألة ثبوت الحكم بالقطع، و مسألة سقوطه بالقطع: أي ان القطع المتعلق بالحكم منجز له، و القطع بالامتثال يستلزم سقوط الحكم و براءة الذمة منه، و لا اشكال في ان القطع في كلا المقامين ثبوتا و سقوطا حجة بلا خلاف، و انه بذاته من دون جعل يثبت به الحكم و يسقط به الحكم.

ص: 153

.....

______________________________

و اما الامارات غير العلمية فلا اقتضاء فيها بالذات لثبوت الحكم بها و انما يثبت الحكم بها اما لجعل الشارع او لحكم من العقل بثبوت الحجية لها في اثبات الحكم بعد ثبوت مقدمات و طروء حالات.

و اما سقوط الحكم بالامتثال الظني فانه بعد ما كان شغل الذمة اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني، يتضح انه لا حجية للامتثال الظني في اسقاط الحكم ايضا، و الى هذا اشار بقوله: «ثبوتا بلا خلاف و لا سقوطا» أي ان الامارات غير العلمية ليست كالقطع في اثبات الحكم و هو مما لا خلاف فيه، و لذا قال ثبوتا بلا خلاف، فان القطع مثبت للحكم بلا خلاف من غير حاجة الى جعل او ثبوت مقدمات و طروء حالات.

و اما الامارات غير العلمية فانما تقتضي اثبات الحكم و كونها حجة في ثبوته اما بجعل او ثبوته اما بجعل او بطرو حالات و ثبوت مقدمات، و مثله في مرحلة السقوط فان القطع بالامتثال حجة على سقوط الحكم بلا خلاف.

و اما الامتثال بغير القطع من الامارات غير العلمية فلا ينبغي ايضا الاشكال في عدم اقتضائها لسقوط الحكم، لما عرفت من ان الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني و من الواضح عدم حصول الفراغ اليقيني في الامتثال غير العلمي و ان غايته حصول الظن بالسقوط، و لا يكفي ذلك بل لا بد من حصول العلم بالفراغ و سقوط التكليف، فغير القطع ليس بحجة لا في مرحلة ثبوت التكليف و لا في مرحلة سقوطه، و القطع وحده هو الحجة بالذات في اقتضاء ثبوت التكليف و في مقام سقوطه و لذا قال: «لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجية» بالذات «بدون ذلك» أي بدون جعل و لا مقدمات في مرحلة ثبوت الحكم به «بلا خلاف» و كذا لا ينبغي الاشكال في كون غير القطع ليس كالقطع في انه حجة في مرحلة سقوط التكليف في مقام الامتثال لوضوح عدم الاشكال في سقوط التكليف بالامتثال القطعي دون الامتثال غير العلمي و لذا قال: «و لا سقوطا».

ص: 154

الخلاف و الاكتفاء بالظن بالفراغ، و لعله لاجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل (1)، فتأمل (2).

______________________________

(1) نفى عدم الخلاف في عدم مساواة الامارة غير العلمية للقطع في مقام ثبوت التكليف.

و اما في مقام اسقاط التكليف بالظن بالامتثال حيث انه يظهر من بعض المحققين الاكتفاء بالامتثال الظني و عليه فيكون الظن بالامتثال كالقطع به في مقام الاسقاط، فلذا لم يعقبه بعدم الخلاف بل اشار الى خلاف بعض المحققين فيه و الى وجهه.

و حاصله: ان مبنى لزوم الامتثال للتكليف عند العقل هو وجوب دفع الضرر المظنون، و مع الظن بالامتثال لا ظن بالضرر بل يكون الضرر موهوما و لا يجب عند العقل لزوم دفع الضرر المحتمل أي الموهوم، و قد اشار الى نفس الخلاف بقوله:

«و ان كان ربما يظهر فيه من بعض المحققين الخلاف و الاكتفاء بالظن بالفراغ» فيكون الظن بالامتثال كالقطع بالامتثال، و الى وجهه أشار بقوله: و لعله لاجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل» أي المرجوح و هو الطرف الموهوم للطرف الراجح في الظن.

(2) يحتمل ان يكون اشارة الى ان الضرر مع الاتيان بالطرف الراجح مقطوع به على القول باستحقاق المتجري للعقاب، لبقاء التكليف ببركة الاستصحاب عند الاتيان بالامتثال الظني للشك في سقوطه، مع انه يلزم القائل بالاكتفاء بالامتثال الظني عدم حجية الظن النوعي بالتكليف الذي يقوم الظن الشخصي على خلافه لان الضرر فيه محتمل ايضا، و لا يلزم دفع الضرر المحتمل على رأيه و بعيد منه ان يلتزم بذلك، مضافا الى ان قضية لزوم دفع الضرر ليست من القضايا العقلية بل هي من الامور الجبليّة، فرب ضرر محتمل يتوجه الانسان بجبلته لدفعه مقدما له على دفع الضرر المظنون بل المقطوع، حيث يكونان اقل اهمية من الضرر المحتمل على فرض تحققه، فليس كل ضرر محتمل لا يلزم دفعه.

ص: 155

إمكان التعبّد بالأمارة غير العلمية شرعا

ثانيها: في بيان إمكان التعبد بالامارة غير العلمية شرعا، و عدم لزوم محال منه عقلا، في قبال دعوى استحالته للزومه (1)، و ليس الامكان بهذا المعنى، بل مطلقا أصلا متبعا عند العقلاء، في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع (2)، لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الامكان عند

______________________________

و يحتمل ان يكون اشارة الى انه مع لزوم الخروج عن عهدة التكليف لقاعدة استدعاء شغل الذمة اليقيني للفراغ عقلا- يتبيّن منه انه ليس المبنى في لزوم الخروج عن عهدة التكليف هو لزوم دفع الضرر المظنون حتى يستلزم الاكتفاء به في مقام الامتثال.

(1) المتحصل مما ذكره في الامر الاول هو ان نسبة الامارات غير العلمية الى الحجية نسبة الامكان الخاص و هو سلب الضرورة عن الطرفين، فلحوق الحجية للامارات ممكن بالامكان الذاتي، و حيث لا مانع من ان يكون الممكن الذاتي ممتنعا وقوعا كما يظهر من ادلة القائلين بامتناع جعل الحجية للامارات غير العلمية، من لزوم تحليل الحرام و تحريم الحلال هو الامتناع الوقوعي، فالبحث فيها من ناحية امكان التعبد بها و عدمه هو البحث في امكانها الوقوعي دون الذاتي، و الى هذا اشار بقوله: «و عدم لزوم محال منه عقلا في قبال دعوى استحالته للزومه» أي ان المدعي لاستحالة جعل الحجية للامارات غير العلمية هو استلزامه للمحال، فليس جعل حجيتها من المحال بالذات المقابل للامكان بالذات، بل لانه يستلزم المحال و هو الامتناع الوقوعي في قبال الوجوب الوقوعي الذي يلزم من عدم وقوعه محال، و في قبال الامكان الوقوعي الذي لا يلزم من وقوعه و لا عدم وقوعه محال.

(2) لا يخفى انه يظهر من الشيخ الاعظم في رسائله، هو انه اذا شككنا في امكان شي ء ذاتا او وقوعا فهناك اصل عقلائي بنى عليه العقلاء، و هو ان كلما شك في امكانه يبنى على امكانه، لان سيرتهم في مقام الشك في امكان شي ء البناء على امكانه، حتى يثبت امتناعه، حيث قال الشيخ في رسائله معترضا على المشهور لما

ص: 156

.....

______________________________

استدلوا على امكان التعبد بالامارات: بانّا نقطع بانه لا يلزم من التعبد بها محال، قال الشيخ (قدس سره): و في هذا التقرير نظر، اذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على احاطة العقول بجميع الجهات المحسنة و المقبحة، و على العلم بانتفائها جميعا: أي بانتفاء الجهات المقبحة حتى لا يلزم المحال و انتفاء المحسنة حتى لا يكون التعبد لازما، و هو غير حاصل لوضوح عدم الاحاطة بجميع الجهات و عدم العلم بانتفائها، ثم قال (قدس سره): فالأولى ان يقرر هكذا: انا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة، و هذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالامكان ... انتهى.

و يؤيد هذا الاصل عندهم هو الكلمة المعروفة عن الشيخ الرئيس: و هي كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان ما لم يذدك عنه قاطع البرهان، و المتحصل منها هو ان يودع المشكوك فيه في بقعة الامكان: أي يبنى على امكانه إلّا ان يمنع عن ذلك البرهان القائم على عدم امكانه، فان الظاهر من الامر بايداعه في هذه البقعة هو البناء على امكانه، فان الامر الغريب اذا قرع السمع يحصل الشك فيه من جهة غرابته و لو لم يكن خبرا، و معنى حصول الشك فيه هو الشك في امكانه و عدم امكانه فامر بايداعه في بقعة الامكان، و المراد من الامر بايداعه في هذه البقعة هو البناء على امكانه ما لم يذد: أي ما لم يمنع عن ايداعه فيها البرهان القائم على عدم امكانه. و المصنف (قدس سره) حيث يرى عدم صحة دعوى هذا الاصل عند العقلاء، و انه ليس لهم بناء على امكان ما شك في امكانه حتى يثبت امتناعه لذلك نفاه و قال: «و ليس الامكان بهذا المعنى» أي الامكان الوقوعي الذي هو عبارة عن عدم استلزام الوقوع للمحال في قبال دعوى استحالة الوقوع لاستلزامه المحال، فاذا شك في امكان الوقوع او شك في الامكان الذاتي المقابل للوجوب و الامتناع الذاتيين فليس هناك اصل عقلائي يقتضي البناء على امكان ما شك في امكانه وقوعا او ذاتا، و قد اشار الى الامكان الذاتي بقوله: «بل مطلقا» و الى نفي الاصل بقوله: «اصلا متبعا عند العقلاء الى آخر الجملة».

ص: 157

الشك فيه (1)، و منع حجيتها- لو سلم ثبوتها- لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها (2)، و الظن به لو كان فالكلام الآن في إمكان التعبد بها

______________________________

و حاصله: انه ليس للبناء على امكان ما شك في امكانه وقوعا او ذاتا اصل عقلائي يكون هو المتبع عندهم في مقام احتمال ما يقابل هذا الاحتمال من احتمال الامتناع، لبداهة كون الشك لا بد فيه من احتمالين، فالشك في الامكان له طرفان احتمال الامكان و احتمال ما يقابله و هو الامتناع، و ليس للعقلاء بناء عملي على ترجيح طرف الامكان الذاتي او الوقوعي على طرف الامتناع بحيث يرتبون الاثر عملا على كونه ممكنا لا ممتنعا.

(1) قد اشار المصنف الى منع دعوى هذا الاصل بوجوه:

الاول: ما اشار اليه بقوله: «لمنع الى آخره»، و حاصله: ان دعوى كون الاصل المتبع عند العقلاء هو امكان ما شك في امكانه مرجعها الى ان سيرتهم في مقام العمل هو ترتيب آثار الامكان عليه عملا حتى يثبت امتناعه، فان هذه الدعوى ممنوعة لمنع كون بناء العقلاء و سيرتهم على ترتيب آثار الامكان عملا على الشي ء المشكوك في امكانه، و لم يثبت بعد التتبع لاحوالهم ان سيرتهم عملا هو البناء على ذلك من ترتيب آثار الامكان عند الشك فيه، بل الظاهر منهم خلاف ذلك لانهم يقولون: حدّث العاقل بما لا يليق فان صدّق فلا عقل له.

(2) هذا هو الوجه الثاني للمناقشة في دعوى هذا الاصل العقلائي، و حاصله: ان كون السيرة حجة معتبرة عند الشارع موقوف على ثبوت اعتبارها عنده، فنحن لو سلمنا تحقق هذه السيرة من العقلاء فلا نسلم حجيتها و اعتبارها عند الشارع، فان تحقق اعتبار هذه السيرة و حجيتها عند الشارع موقوف على ثبوت دليل قطعي يدل على اعتبار الشارع لها، و ذلك بان يثبت بالقطع إمضاؤه لها، و لا يكفي في ثبوت الامضاء عدم ثبوت الردع منه لها، لوضوح انه لا يستلزم عدم ثبوت الردع ثبوت الامضاء، مع انه قد ثبت الردع منه في الجملة في النهي عن الاخذ بغير العلم، و الى

ص: 158

و امتناعه، فما ظنك به (1)؟ لكن دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات إمكانه، حيث يستكشف به عدم ترتب محال من تال باطل فيمتنع مطلقا،

______________________________

هذا الوجه اشار بقوله: «و منع حجيتها» أي لمنع حجية هذه السيرة «لو سلم ثبوتها» أي لو سلم ثبوت هذه السيرة عند العقلاء فانا نمنع حجيتها «لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها» عند الشارع، و الاصل العقلائي انما يكون حجة شرعا حيث يثبت اعتبار الشارع له، و من الواضح عدم ثبوت دليل قطعي من الشارع على اعتباره لها و حجيتها عنده.

(1) حاصله: انه لا يمكن ان يدعى ثبوت حجية السيرة بقيام الظن على حجيتها و اعتبارها، بعد ما عرفت من انتفاء الدليل القطعي على حجيتها، بدعوى كفاية عدم ثبوت الردع عنها في حجيتها و لا تحتاج الى ثبوت دليل على امضائها، و من الواضح عدم ثبوت الردع عنها، اذا لو كان هناك ردع عنها لنقل لتوفر الدواعي الى نقله، و عدم الثبوت و ان لم يكن دليلا على الثبوت الّا انه لما عرفت وجود الداعي لنقله لو كان يتضح حصول الظن بعدم الردع، و يكفي في ثبوت الحجية الظن بها اللازم للظن بعدم الردع عنها.

و الجواب عنه: اولا: لا نسلم الظن بذلك لوضوح انه ليس كل ردع تتوفر الدواعي الى نقله، و خصوصا في مثل هذه السيرة التي مدلولها الامكان، مضافا الى ما عرفت: من ان اصل ثبوتها غير مسلم، لما مرّ من انكار ثبوت هذه السيرة عند العقلاء، و الى هذا اشار بقوله: «و الظن به لو كان».

و ثانيا: ان الظن حيث انه ليس حجة بذاته فهو محتاج الى دليل قطعي يقوم على اعتباره و حجيته.

و بعبارة اخرى: ان الظن بحجيّة السيرة حاله حال السيرة في عدم حجيته بذاته و انه لا بد من قيام دليل على اعتباره و حجيته.

ص: 159

.....

______________________________

و الدليل على حجية الظن القائم على حجية السيرة القائمة على امكان التعبد بالظن المشكوك امكانه اما ان يكون هو القطع و هو غير موجود، اذ لو قام القطع على حجية الظن القائم على حجية هذه السيرة لكان دليلا قطعيا على حجية هذه السيرة بالواسطة، لعدم الفرق بين كون متعلق القطع نفس حجية هذه السيرة من دون واسطة، و بين كون متعلقه الظن القائم على حجيتها، فان النتيجة فيهما على السواء و هي حجية هذه السيرة قطعا، إلّا أنّك قد عرفت عدم قيام الدليل القطعي على حجيتها.

و ان كان الدليل القائم على حجية هذا الظن القائم على حجية هذه السيرة هو الظن ايضا فلازمه التسلسل او الدور، لما مرّ من عدم حجيّة الظن بذاته و لا بد فيه من ثبوت حجيته بدليل، و المفروض عدم كونه هو القطع قطعا، اذ المفروض كون الدليل هو ظن آخر يقوم على حجية هذا الظن القائم على حجية هذه السيرة، فننقل الكلام الى هذا الظن المدعى قيامه على حجية هذا الظن القائم على حجية هذه السيرة و هلم جرا فيلزم التسلسل. و ان كان الدليل على حجية هذا الظن هو نفس الظن الذي كان متعلقا له من جهة حجيته فيلزم الدور، لتوقف حجية الظن القائم على حجية هذا الظن على حجية هذا الظن، و المفروض كون حجية هذا الظن الذي هو المتعلق له متوقفة على حجية الظن الذي قد تعلق به، فتتوقف حجية المتعلّق على حجية المتعلّق له المتوقفة حجيته على حجية نفس المتعلّق و هو دور واضح.

هذا مضافا الى ان المفروض كون امكان التعبد بالظن مشكوكا، لان المدعى ان الاصل فيما شك في امكانه و امتناعه هو امكانه: أي ترتيب الاثر على امكانه مع فرض الشك في امكان التعبد به، و مع فرض الشك في امكان التعبد به كيف يدعى قيام الظن على التعبد به؟ فان الظن بالشي ء و الشك به متضادان لا يعقل اجتماعهما، لان الظن هو رجحان احد الطرفين و الشك هو تساويهما.

ص: 160

أو على الحكيم تعالى، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الامكان، و بدونه لا فائدة في إثباته، كما هو واضح (1).

______________________________

و لمزيد التوضيح نقول: ان محل الكلام هو كون امكان التعبد بالامارات غير العلمية مشكوكا لاحتمال امتناع التعبد بها احتمالا مساويا، و من الامارات نفس السيرة المدعى قيامها في المقام على التعبد بالمشكوك امكانه و امتناعه، فنفس هذه السيرة حيث انها من الامارات فإمكان التعبد بها كامتناع التعبد بها مشكوك ايضا، و من الواضح انه مع الشك في امكان التعبد بها و عدمه لا تكون هي بنفسها حجة على امكان التعبد، لان لازم حجيتها على امكان التعبد هو التعبد بها الذي قد عرفت ان امكانه ايضا مشكوك لانها بعض الامارات غير العلمية المشكوك في امكان اعتبارها و امتناعه، فكيف يمكن ان تكون السيرة حجة على امكان التعبد مع ان اللازم من حجيتها و اعتبارها على امكان التعبد هو التعبد بها المشكوك في امكانه و امتناعه، فكون السيرة حجة على الامكان يتوقف على تحقيق التعبد بها، و المفروض ان امكان التعبد بها مشكوك فضلا عن كونه متحققا، فحجيّة السيرة تتوقف على تحقق التعبد بها و هو غير متحقق، لان المفروض ان امكان التعبد بها مشكوك فضلا عن تحققه و وقوعه، و الى هذا اشار بقوله: «فالكلام الآن في امكان التعبد بها و امتناعه فما ظنك به» أي بالتعبد.

(1) بعد ان منع وجه الاستدلال على الامكان بالاصل ذكر الوجه المرضي عنده دليلا على الامكان، و حاصله: ان امكان وقوع الشي ء لا يستلزم وقوعه، و لكن وقوعه يستلزم امكانه، لوضوح ان ما لا امكان لوقوعه لا يعقل ان يقع، فاذا وقع فوقوعه اتمّ الادلة على امكانه. و لا يخفى ان المانع عن امكان الشي ء اما لزوم المحال الذي لا يختلف الحال فيه بين الحكم و غيره، كلزوم اجتماع الضدين او المثلين، فان الحكيم و غيره متساويان في عدم امكان ان يريدا و يكرها شيئا واحدا في زمان واحد، و لا يعقل ايضا ان يريدا الشي ء الواحد بارادتين مستقلتين في زمان واحد، فوقوع

ص: 161

و قد انقدح بذلك ما في دعوى شيخنا العلامة- أعلى الله مقامه- من كون الامكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلا (1)، و الامكان في

______________________________

التعبد بالامارات غير العلمية دليل على انه لا يلزم من وقوع التعبد بها اجتماع ارادة و كراهة في شي ء واحد في زمان واحد، و لا ارادتين مستقلتين بشي ء واحد في زمان واحد، و في هذا يستوى الحكيم و غيره.

و اما ان يكون المانع عن وقوع التعبد هو لزوم ما يمتنع على الحكيم دون غيره كالالقاء في المفسدة، فوقوع التعبد بها من الحكيم يدل على عدم استلزامه لذلك ايضا، و الى هذا اشار بقوله: «لكن دليل وقوع التعبد بها» أي بالامارات غير العلمية «من طرق اثبات امكانه» أي من طرق اثبات امكان التعبد لاستلزام الوقوع لامكان الوقوع «حيث يستكشف به» أي بالوقوع «عدم ترتب محال من تال باطل» كلزوم اجتماع الضدين او المثلين الذي لا يختلف فيه الحكيم و غيره «فيمتنع مطلقا» على الحكيم و غيره «او» مثل الالقاء بالمفسدة فيمتنع «على الحكيم تعالى» بالخصوص، فالوقوع اتم دليل على الامكان، و وقوع التعبد به من الحكيم دليل على انه لا محال ذاتي يترتب عليه كاجتماع الضدين او المثلين، و لا محال عرضي و هو ما لا يقع من الحكيم كالالقاء في المفسدة، لان الحكيم لا يعقل ان يقع منه ما يلزم منه المحال الذاتي و لا المحال العرضي بعد فرض كونه حكيما «فلا حاجة معه» أي مع الوقوع «في» مقام «دعوى الوقوع الى اثبات الامكان» اولا ثم الوقوع «و بدونه» أي و بدون الوقوع «لا فائدة في اثباته» أي في اثبات الامكان، اذ اثبات الامكان لا يستلزم الوقوع، بخلاف الوقوع فانه يستلزم الامكان اذ لا يقع ما لا امكان لوقوعه.

(1) أي ظهر مما ذكرنا الخلل في مسلك الشيخ (قدس سره) في الرسالة لاثبات الامكان الوقوعي بالاصل العقلائي «من كون الامكان عند العقلاء مع» الشك فيه ب «احتمال الامتناع اصلا» متبعا عندهم فيحمل ما شك في امكانه و امتناعه على

ص: 162

كلام الشيخ الرئيس كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان، ما لم يذدك عنه واضح البرهان، بمعنى الاحتمال المقابل للقطع و الايقان (1)، و من الواضح أن لا موطن له إلا الوجدان،

______________________________

الامكان عندهم، فيكون الاصل هو الدليل على امكان ما شك في امكانه و امتناعه، و قد عرفت مما مر وجه الخلل فيه.

(1) قد عرفت مما مرّ: انه قد ذكروا كلمة الشيخ الرئيس مؤيدة لكون الاصل المتبع عند العقلاء هو البناء على امكان ما شك في امكانه و امتناعه، و هو واضح اذا كان مراد الشيخ من الامكان في كلمته هو الامكان الذاتي او الوقوعي.

اما اذا كان مراد الشيخ من الامكان في كلمته هو الاحتمال المقابل لليقين فلا تكون مؤيدة للاصل المدعى، و الظاهر ان مراد الشيخ من الامكان في كلمته هو الاحتمال، لوضوح ان امره بالايداع في بقعة الامكان لكل ما يطرق السمع من الغرائب لا تتم الكلية فيه إلّا بان يكون المراد منه هو الاحتمال، لانه اذا طرق سمعنا دعوى امتناع ممتنع بالذات او وجود واجب وجود بالذات فقد حكم بايداعه في بقعة الامكان، و من الواضح عدم امكان ايداع الممتنع بالذات او الواجب بالذات في بقعة الامكان الذاتي أو الوقوعي، لعدم معقولية كون الممتنع بالذات او الواجب بالذات ممكنا ذاتا او وقوعا.

اما اذا كان مراده من الامكان هو الاحتمال فلا مانع من اطراد الكليّة في كلامه، لان المتحصل من كلامه على هذا انه اذا طرق السمع امتناع ممتنع بالذات او واجب الوجود بالذات فذروا هذه الدعوى في بقعة الاحتمال، و لا تسارعوا الى انكارها قبل الفحص عما يثبت فسادها فيكون مانعا عن قبولها و يجب حينئذ طردها من بقعة الاحتمال، و الى هذا اشار بقوله: «الامكان في كلام الشيخ الرئيس بمعنى الاحتمال المقابل للقطع و الايقان» لا الامكان الذاتي و الوقوعي المقابل للوجوب و الامتناع.

ص: 163

فهو المرجع فيه بلا بينة و برهان. و كيف كان (1)، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان

______________________________

(1) حاصله: ان كلمة الشيخ الرئيس ليس المراد منها الاشارة الى ان الاصل المتبع عند العقلاء هو البناء على امكان ما شك في امكانه و امتناعه، بل هي كلمة جرت منه على حسب ما كان حاصلا له في وجدانه، بل في وجدان كل من سمع الامر الغريب، فان من الوجدانيات لكل احد انه اذا سمع امرا غريبا يحصل له احتمال صحته و فساده، و غرابته ربما تدعو اول وهلة الى الحكم بفساده، و لكنه لا ينبغي له قبل الفحص عنه ان يرفع هذا الامر الغريب عن بقعة الاحتمال، بل عليه ان يذره في بقعته حتى يرفعه عنها واضح البرهان. نعم لو سبق عنده قيام البرهان المانع لكان ذائدا له عن ايداعه في بقعة الاحتمال.

و قد تبين انه اذا كان المراد من الامكان في كلمة الرئيس هو الاحتمال المقابل للقطع و الايقان دون الامكان المقابل للوجوب و الامتناع، فلا بد و ان يكون الموطن و المحل له هو الوجدان المتحقق في افق النفس، لانه هو الموطن و المحل للاحتمال المقابل للقطع و الايقان، بخلاف ما اذا كان المراد منه هو المقابل للوجوب و الامتناع، فان مقرّه هو العمل و ترتيب الاثر الخارجي على المشكوك، و الى هذا اشار بقوله:

«و من الواضح» أي بعد ان كان المراد من الامكان في كلمة الرئيس هو الاحتمال المقابل للقطع و الايقان يتضح «ان لا موطن له» أي لا موطن لهذا الامكان «الّا الوجدان» لان الوجدان هو موطن الاحتمال.

و لما كان ايضا ان من سماع الامر الغريب يحصل احتمال صحته و فساده في افق النفس بالوجدان، و الامور الوجدانية لا تتوقف على برهان يدل على تحققها بل تحققها يكون محسوسا بنفسه في افق النفس و الوجدان قال (قدس سره): «فهو المرجع فيه بلا بينه و لا برهان».

و يتضح ايضا من هذا انه اذا كان المراد من الامكان هو الاحتمال الذي موطنه الوجدان انه لا يعقل ان يكون النزاع في امكان التعبد بالامارات غير العلمية- بين

ص: 164

محاذير التعبّد بالأمارة غير العلمية

اشارة

ما يلزم التعبد بغير العلم من المحال، أو الباطل و لو لم يكن بمحال (1)

______________________________

المشهور و ابن قبة(1) القائل بامتناعه- هو بمعنى الاحتمال، لانه اولا: ان الامكان بمعنى الاحتمال ليس مقابلا للامتناع بل هو مقابل للقطع. و ثانيا: ان الامكان بمعنى الاحتمال موطنه الوجدان ليس قابلا في بعض المقامات لاقامة البينة و البرهان، بل يرجع الى الوجدان فيه فيرى ان التعبد بالامارات غير العلمية هل هو من المحتملات وجدانا في افق النفس أو من المقطوع بوقوعه او بعدمه، و الحال ان ابن قبة اقام البراهين على عدم امكان التعبد بالامارات غير العلمية.

(1) بعد ما عرفت ان محل النزاع في امكان التعبد بالامارات غير العلمية ليس هو بمعنى الاحتمال، فيدور امره بين ان يكون المراد منه هو الامكان الذاتي الخاص الذي هو بمعنى سلب الضرورة عن طرفي الوجود و العدم.

او ان المراد منه هو الامكان الوقوعي بمعنى ما لا يلزم من وقوعه محال. و حيث ان النزاع في الامكان الذاتي بعيد جدا لوضوح عدم كون التعبد بالامارات من قبيل اجتماع النقيضين او الضدين، مضافا الى ان صريح ابن قبة القائل بالامتناع هو انه يلزم من جعل التعبد بها المحال لا ان نفس جعل التعبد محال بذاته، فيتعين ان يكون محل الكلام هو الامكان الوقوعي، فلذا قال (قدس سره): «فما قيل او يمكن ان يقال في بيان ما يلزم التعبد بغير العلم من المحال او الباطل» فالمحال او الباطل هو لازم جعل التعبد بغير العلم لا نفس جعل التعبد.

و لا يخفى ان المراد من الباطل اللازم لجعل التعبد بغير العلم هو ما لا يصح صدوره من الحكيم لا مطلقا، فهو باطل من الحكيم و ليس بمحال بالذات و لذا قال

ص: 165


1- 11. ( 1) ابن قبة هو محمد بن عبد الرحمن بن قبة ابو جعفر الرازي المذكور في كتب الرجال، و هو من علمائنا الاجلاء صاحب كتاب الانصاف في الامامة و غيره.( منه قدّس سرّه)

أمور (1):

______________________________

(قدس سره): «او الباطل و لو لم يكن بمحال».

(1) لا يخفى ان الامور التي ذكرها المصنف ثلاثة، فلقائل ان يقول: انه لما كان بصدد ذكر ما قيل او يمكن ان يقال كان عليه الاستيفاء و لا اقل لما قيل، و الحال انه اسقط احد دليلي ابن قبة و ذكر احدهما و هو دليله الثاني، و لم يذكر دليله الاول، فان المحكي عن ابن قبة في امتناع التعبد بالخبر الواحد دليلان:

الاول: انه لو جاز التعبد بالخبر الواحد في الاخبار عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم لجاز التعبد به في الاخبار عن اللّه تعالى، و التالي باطل اجماعا، و لم يذكره المصنف كما انه لم يذكر غير الامور الثلاثة مما يمكن ان يقال: كلزوم اجتماع النقيضين فيما اخطأت الامارة و كان لسانها عدم حكم من الاحكام و كان الحكم ثابتا في الواقع.

الّا انا نقول: ان الامور الثلاثة التي ذكرها المصنف هي المهم مما قيل او يمكن ان يقال.

ثم لعل وجه اسقاطه للدليل الاول من دليلي ابن قبة هو لكون محصله الاستدلال بالاجماع على امتناع التعبد بالخبر الواحد، و قد عرفت ان محل الكلام هو امكان التعبد و امتناعه و هو من المسائل العقليّة، و لا مساغ لدعوى الاجماع في المسائل العقلية. و لو سلمنا صحته في المسائل العقلية لكن المتحصل منه هو الاجماع على عدم وقوع التعبد بالخبر الواحد في الاخبار عن اللّه تعالى، و هو ليس محل الكلام بل محل الكلام هو امكان الوقوع و امتناع الوقوع، و عدم الوقوع لا يقتضي امتناع الوقوع.

مضافا الى انه اخص مما هو محل الكلام، فانه في امكان التعبد بمطلق الامارات غير العلمية، و الامتناع لو سلم فانه في التعبد بالخبر الواحد بالخصوص و هو لا يستلزم امتناع التعبد بمطلق الامارات غير العلمية.

ص: 166

.....

______________________________

الّا ان يدعى انه اذا ثبت امتناع التعبد في الخبر الواحد يثبت في غيره من الامارات غير العلمية بالأولوية القطعيّة، و لذا قال الشيخ الاعظم (قدس سره) في رسائله:

و يظهر من الدليل المحكي عن ابن قبة في استحالة العمل بالخبر الواحد عموم المنع لمطلق الظن، و ان كان الظاهر من عبارة الشيخ بعد ذكره للدليل الثاني من دليلي ابن قبة ان الدليل الذي يظهر منه عموم المنة في مطلق الامارات غير العلمية هو دليله الثاني، لانه قال (قدس سره) الثاني أي من وجهي ابن قبة ان العمل به موجب لتحليل الحرام و تحريم الحلال، اذ لا يؤمن ان يكون ما اخبر بحليته حراما و بالعكس انتهى كلام ابن قبة، ثم قال الشيخ (قدس سره): و هذا الوجه كما ترى جار في مطلق الظن بل في مطلق الامارة غير العلمية و ان لم تفد الظن، و لا بد ان يكون مراد الشيخ من الظن الذي لا تفيده الامارة هو الظن الشخصي، او ان مراده من الامارة غير العلمية ما تشمل الاصول.

و لا يخفى ان الظاهر من قول الشيخ و هذا الوجه هو الاشارة الى هذا الوجه الثاني، لانه لو اراد الاشارة الى كلا الوجهين لقال و هذان الوجهان كما ترى جاريان في مطلق الظن، او لقال و هذا الذي ذكره كما ترى جار في مطلق الظن، او امثال هذه التعابير الدالة على ما يشمل كلا الوجهين المحكيين عن ابن قبة.

و اما اسقاطه للزوم اجتماع النقيضين من التعبد بالامارة فيما اذا اخطأت و كان لسانها عدم حكم من الاحكام اصلا فلعلّ الوجه في ذلك هو عدم شمول دليل التعبد بالامارة لمثل هذه الامارة التي لسانها عدم حكم من الاحكام، لان لازم شمول التعبد لها هو خلو الواقعة عن الحكم، و قد قام الاجماع على عدم خلو الواقعة عن الحكم.

ص: 167

المحذور الأول

أحدها: اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلا فيما أصاب، أو ضدين من إيجاب و تحريم (1) و من إرادة

______________________________

(1) حاصل هذا الامر الاول: انه يلزم من التعبد بالامارة اجتماع المثلين او التصويب لو اصابت الواقع، و اجتماع الضدين او التصويب لو اخطأت الامارة الواقع، و انما يلزم ذلك لو قلنا ان التعبد بالامارة يستلزم كون مؤداها حكما ظاهريا اصابت او اخطأت.

و توضيح هذا الاستلزام بان نقول:

ان التعبد بالامارة كقوله: صدّق العادل لازمه كون مؤداها حكما على كل حال، فان التعبد بالامارة كما يحتاج الى جاعل يجعله للامارة يحتاج ايضا الى مجعول يتعلق به الجعل، و ليس في الامارة ما يصحّ ان يكون هو المتعلّق للجعل غير الحكم الذي أدّت اليه الامارة.

و من الواضح ايضا ان التعبد بالامارة انما هو في مقام الشك بلون الحكم الواقعي الفعلي، و انه هل هو الوجوب او الحرمة او الندب او الكراهة او الاباحة؟ اما جنس الحكم الواقعي فمعلوم ثبوته لما مرّ من عدم خلو واقعة عن حكم واقعي أصابه من اصابه و أخطأه من أخطأه، فمتعلق الشك لونه و نوعه لا جنسه، لان جنسه معلوم و لا يعقل ان يكون متعلق العلم هو متعلق الشك، فمتعلق العلم هو ان للواقعة حكما، و متعلق الشك هو ان ذلك الحكم الفعلي هل هو الوجوب او الحرمة او الندب او الكراهة او الاباحة؟ و جعل التعبد بالامارة هو الشك في لون الحكم الفعلي الواقعي، و لازمه عدم العلم به، و لازم التعبد بالامارة هو جعل الحكم على طبق ما أدّت اليه، فمؤدى الامارة حكم على كل حال، فاذا قامت الامارة على وجوب صلاة الجمعة فمؤداها هو وجوب صلاة الجمعة، فالوجوب هو الحكم المجعول على طبقها الذي استلزمه التعبد بها، فاذا اصابت الواقع بان كانت صلاة الجمعة حكمها الواقعي ايضا هو الوجوب فلازم هذا أن يكون لصلاة الجمعة وجوبان: وجوب

ص: 168

.....

______________________________

واقعي، و وجوب ثان قد جاء من قبل جعل الحكم على طبق ما أدت اليه الامارة فيجتمع في صلاة الجمعة وجوبان و هو من اجتماع المثلين.

هذا اذا قلنا بوجود الحكم الواقعي و بقائه مستمرا الى الآخر، كما هو مذهب المخطئة.

و اما اذا قلنا بعدم وجود الحكم الواقعي و انه ليس هناك حكم الّا ما أدت اليه الامارة، او قلنا بوجود الحكم الواقعي ابتداء و لكنه لا يبقى بل يضمحل بقيام الامارة كما هو مذهب بعض المصوّبة فلا يلزم اجتماع المثلين، لعدم الحكم الواقعي اما من رأس بناء على التصويب بالمعنى الاول، او اضمحلاله له و عدمه بعد قيام الامارة كما هو بناء على التصويب بالمعنى الثاني.

فاتضح ان بالتعبد بالامارة لازمه فيما اذا اصابت اما اجتماع المثلين او التصويب.

و لا يخفى ان اجتماع المثلين من المحالات الذاتية الباطلة بالذات لا بالعرض.

و اما التصويب، فبالمعنى الاول هو ايضا من المحالات الذاتية، لان الامارة حيث ان لسانها كون مؤداها هو الحكم الواقعي فلازمها الظن بوجود الحكم الواقعي، و لازم التصويب بالمعنى الاول القطع بعدم الحكم الواقعي من رأس، و انه ليس هناك شي ء الا ما أدت اليه الامارة من الحكم الظاهري، فيلزم من قيام الامارة تحقق لازمها و هو الظن بوجود الحكم الواقعي في حال القطع بعدم وجوده، و لا يعقل اجتماع الظن بوجود شي ء و القطع بعدمه في حال واحد، و هو من اجتماع الضدين بالنسبة الى القطع و الظن، و بملاحظة الوجود و العدم هو من اجتماع النقيضين و هما من المحالات الذاتية. و هناك محالات اخرى و هي ايضا من المحالات الذاتية يستلزمها التصويب بهذا المعنى الاول يأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى في باب الاجتهاد و التقليد.

و اما التصويب بالمعنى الثاني فهو ليس من المحالات الذاتية الّا انه خلاف الاجماع المحقق على وجود الحكم الواقعي و بقائه مشتركا بين العالم و الجاهل أصابه من أصابه

ص: 169

.....

______________________________

و اخطأه من اخطأه، و انه لكل واقعة حكم واقعي في كل حال من الاحوال ابتداء و استمرارا في حال العلم و الجهل، و سواء أصابت الامارة أو أخطأت، و هو باق لا يضمحل و لا يزول.

و الحاصل: انه يلزم من جعل التعبد بالامارة اذا أصابت الواقع اما اجتماع المثلين او التصويب.

و اما اذا اخطأت الامارة الواقع بان قامت على وجوب صلاة الجمعة، و كانت صلاة الجمعة في الواقع محرمة فاللازم من التعبد بالامارة اجتماع الوجوب للصلاة الآتي من قبل الحكم الظاهري على طبق مؤدى الامارة، و حرمة الصلاة التي هي الحكم الواقعي للصلاة، و هو من اجتماع الضدين، هذا بناء على مذهب المخطئة القائلين بوجود الحكم الواقعي و استمراره الى الآخر. او التصويب بناء على رأي المصوّبة من عدم الحكم الواقعي او اضمحلاله عند قيام الامارة. و الاول و هو اجتماع الضدين من المحالات الذاتية. و الثاني و هو التصويب من المحالات الذاتية ايضا بناء على الرأي الاول فيه و هو عدم الحكم الواقعي من رأس و مما قام الاجماع على بطلانه بناء على الرأي الثاني فيه و هو اضمحلال الحكم الواقعي عند قيام الامارة، و قد اشار (قدس سره) الى لزوم اجتماع المثلين من التعبد بغير العلم من الامارات فيما اذا اصاب المتعبّد به الواقع او الضدين فيما اذا اخطأ بقوله: «احدها اجتماع المثلين من ايجابين» كما اذا أدت الامارة الى وجوب الجمعة و كانت واجبة ايضا في الواقع «او تحريمين مثلا» كما اذا أدت الى حرمة الجمعة و كانت محرمة ايضا في الواقع هذا «فيما اصاب» و لا يخفى انه انما ذكر الضمير فيما اصاب لانه يعود الى التعبد بغير العلم.

و اما فيما اذا اخطأ المتعبد به فقد اشار اليه «او ضدين من ايجاب و تحريم» و في ذيل العبارة اشار الى ان هذا فيما اذا اخطأ و سننبّه عليه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 170

و كراهة و مصلحة و مفسدة ملزمتين (1) بلا كسر و انكسار في البين (2) فيما

______________________________

(1) لا يخفى ان اجتماع الوجوب و التحريم من اجتماع الضدين في الاحكام، و لما كان الحكم الالزامي هو طلب الفعل لزوما او الترك كذلك، و طلب الفعل ينشأ من ارادة المولى للفعل و طلب الترك ينشأ من كراهة المولى للفعل، فالوجوب الذي هو طلب الفعل لا بد فيه من ارادة للفعل، و الحرمة التي هي طلب الترك لا بد فيها من كراهة للفعل، فاجتماع الوجوب و الحرمة في مورد واحد لازمه اجتماع الارادة و الكراهة في ذلك المورد ايضا. و لما كانت ارادة الفعل ناشئة ايضا عن مصلحة في الفعل ملزمة، و كراهة الفعل ناشئة عن مفسدة في الفعل ملزمة كان لازم اجتماع ارادة الفعل و كراهته اجتماع المصلحة الملزمة و المفسدة الملزمة في ذلك الفعل ايضا.

اذا عرفت هذا- تعرف انه اذا اخطأت الامارة: بان قامت على ايجاب ما كان حكمه الواقعي التحريم يلزم منه اجتماع الضدين في مقامات ثلاثة: في الحكمين و هما الايجاب و التحريم، و في الارادة و الكراهة، و في المصلحة و المفسدة الملزمتين، و كما ان الايجاب ضد التحريم فالارادة ضد الكراهة و المصلحة و الملزمة ضد المفسدة الملزمة.

و بعد ان اشار الى لزوم اجتماع الضدين في الايجاب و التحريم .. اشار الى لزوم اجتماع الضدين في الارادة و الكراهة و في المصلحة و المفسدة الملزمتين بقوله: «و من ارادة و كراهة و مصلحة و مفسدة ملزمتين» و تقييد المصلحة و المفسدة بالملزمتين انما هو لان المصلحة و المفسدة غير الملزمتين ليسا من الضدين بل هما خلافان و لا مانع من اجتماع الخلافين.

(2) وجه التقييد بعدم الكسر و الانكسار في المصلحة و المفسدة واضح، لانه اذا وقع بينهما كسر و انكسار فاما ان يتغلب احدهما فالغالب هو الموجود و المغلوب معدوم أو بحكم المعدوم، و اما ان لا يتغلب احدهما بعد الكسر و الانكسار بان يكون كل واحد منهما كاسرا و منكسرا، و لازم ذلك انعدامهما معا او كونهما بحكم المعدومين.

و حيث ان المفروض اجتماع الحكمين الظاهري و الواقعي و لازمه بقاء المصلحة

ص: 171

أخطأ (1)، أو التصويب (2) و أن لا يكون هناك غير مؤديات الامارات أحكام (3).

المحذور الثاني

ثانيها: طلب الضدين فيما إذا أخطأ و أدى إلى وجوب ضد الواجب (4).

______________________________

و المفسدة الملزمتين مؤثرتين، و لازم ذلك عدم الكسر و الانكسار بينهما، و الّا لاثر احدهما فقط و كان هو الموجود لا غير.

(1) قد عرفت ان اجتماع الضدين من الايجاب و التحريم انما هو فيما اذا أدت الامارة مثلا الى الايجاب و كان الحكم الواقعي هو التحريم او بالعكس و انما يكون هذا فيما اذا أخطات الامارة، و اما فيما اذا أصابت فلازمه اجتماع الايجابين او التحريمين و هما من اجتماع المثلين، و لذا عقب اجتماع المثلين بقوله: «فيما أصاب» و اجتماع الضدين بقوله: «فيما أخطأ».(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 5 ؛ ص172

2) لا يخفى انه هو احد المحتملين في كل من الفرضين: فرض الاصابة و فرض الخطأ، ففي صورة الاصابة يلزم اما اجتماع المثلين او التصويب، و في صورة الخطأ يلزم اما اجتماع الضدين او التصويب كما عرفته مما مرّ.

(3) ربما يقال ان ظاهر قوله: ان لا يكون هناك غير مؤديات الامارات احكام هو التصويب بالمعنى الاول، و هو عدم الحكم الواقعي المشترك بين الجاهل و العالم من رأس، لانه مع وجود الحكم الواقعي ابتداء و اضمحلاله عند قيام الامارة كما هو معنى التصويب الثاني لا يصح ان يقال بنحو الاطلاق انه لا يكون هناك غير مؤديات الامارات احكام.

لكنه يمكن ان يقال: انه لا مانع من شمول عبارته لكلا المعنيين، لانه بعد قيام الامارة على حكمها لا يكون هناك غيره في هذه الحال، اما لعدم الحكم الواقعي من رأس او لاضمحلاله بقيام الامارة. و اللّه العالم.

(4) هذا هو المحذور الثاني اللازم من التعبد بغير العلم و هو لزوم طلب الضدين، و انما يلزم بشرطين: الاول: ان تخطأ الامارة. الثاني: ان تؤدي الى وجوب ضد

ص: 172


1- 12. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

.....

______________________________

الواجب، او تؤدي الى وجوب ضد المندوب الواقعي، او تؤدي الى ندب ضد الواجب الواقعي، او تؤدي الى ندب ضد المندوب الواقعي، و في غير هذه الاربعة لا يلزم من التعبد بغير العلم طلب الضدين كما سيتضح، فما ذكره المصنف من أداء الامارة الى وجوب ضد الواجب هو من باب المثال بذكر احد المصاديق الذي يتحقق فيها طلب الضدين فيما اذا أخطأت الامارة.

و قبل الشروع في بيانه نقول: ان الفرق بين هذا المحذور و المحذور الاول و هو لزوم اجتماع المثلين فيما اصاب و الضدين فيما اخطأ ان اجتماع المثلين و الضدين في الحكمين لا بد فيه من كون المتعلق واحدا، بان تؤدي الى وجوب الصلاة التي حكمها الواقعي هو الوجوب او تؤدي الى حرمة الصلاة التي حكمها الواقعي هو الوجوب، فالمتعلق واحد و هو الصلاة، و في هذا المحذور لا بد في خطأ الامارة في المتعلق بان تؤدي الامارة الى الحكم الذي متعلقه غير متعلق الحكم الواقعي، بان تؤدي الامارة الى وجوب الصلاة فعلا، و الحكم الواقعي هو وجوب الازالة في ذلك الوقت فورا.

فالفرق بين هذا المحذور و المحذور الاول هو وحدة المتعلق في الاول و تعدده في الثاني.

و هناك فرق آخر بينهما و هو ان الاول من المحالات الذاتية، و هذا المحذور من المحالات العرضية، لان امتناع طلب الضدين انما هو على الحكيم الذي لا يكلف بغير المقدور، فهو من الامور الباطلة التي لا يمكن وقوعها من الشارع الحكيم، لا من المحالات الذاتية التي لا يفرق فيها بين الشارع الحكيم و غيره من الموالي.

اذا عرفت هذا- نقول: ان تقييد هذا المحذور بكونه فيما اخطأت الامارة قد تبين مما ذكرنا من لزوم تعدد المتعلق، بان تؤدي الأمارة الى حكم متعلقه غير المتعلق للحكم الواقعي، فان لازمه خطأ الامارة. و اما القيد الثاني و هو ان تؤدي الامارة الى وجوب ضد الواجب الواقعي او ندبه، او ندب ضد المندوب الواقعي، او وجوب ضد المندوب الواقعي. اما اذا أدت الامارة الى غير ذلك فلا يلزم طلب الضدين لانه لا يمتنع اجتماعهما للقدرة على امتثالهما معا، لبداهة ان الامارة- مثلا-

ص: 173

.....

______________________________

اذا أدت الى حرمة ضد الواجب لا يمتنع امتثالهما على المكلف، كما إذا أدّت الامارة الى حرمة الصلاة- مثلا- و كان الحكم الواقعي هو وجوب الازالة في ذلك الوقت، فان المكلف يستطيع ان يزيل و ان يترك الصلاة في وقت واحد، و كذا اذا أدت الامارة الى حرمة الضد و كان الحكم الواقعي هو الحرمة ايضا، كما اذا أدت الامارة الى حرمة الصلاة في المسجد للجنب و كان الحكم الواقعي هو حرمة الازالة له ايضا في ذلك، فان امكان امتثالهما واضح ايضا.

و مثله ما اذا أدت الامارة الى كراهة ضد الواجب الواقعي أو الى كراهة ضد الحرام الواقعي، فان امكان امتثالهما بمكان من الامكان، و كذا اذا أدت الى اباحة ضد الواجب الواقعي، او ضد الحرام الواقعي، او المندوب الواقعي، او المكروه الواقعي، فان عدم لزوم طلب الضدين فيما ذكرنا واضح جدا.

و انما يلزم من التعبد بغير العلم طلب الضدين في الفروض الاربعة المذكورة لا غير، لوضوح انه اذا أدت الامارة الى وجوب ضد الواجب الواقعي فيكون هناك طلبان: طلب متعلقه الازالة مثلا، و طلب متعلقه الصلاة، و يلازم وجود كل واحد منهما عدم وجود الآخر فلا يمكن امتثالهما، لفرض كون كل منهما ضدا للآخر يلازم وجوده عدم وجود الآخر، فطلبهما معا طلب الضدين و هو ما يمتنع على الحكيم التكليف به.

و مثله ما اذا أدت الامارة الى وجوب ضد المندوب الواقعي، او ندب ضد المندوب الواقعي، او وجوب ضد المندوب الواقعي، فانه يكون في الجميع طلبان قد تعلق كل واحد منهما بضد الآخر فلا يمكن امتثالهما.

ص: 174

المحذور الثالث

ثالثها: تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة فيما أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام، و كونه محكوما بسائر الاحكام (1).

______________________________

(1) هذا هو المحذور الثالث، و حاصله: انه يلزم من التعبد بغير العلم تفويت المصلحة الملزمة فيما اذا كان الحكم الواقعي هو الوجوب و مؤدى الامارة عدم الوجوب الجامع بين الاحكام الباقية سواء أدت الامارة الى الحرمة أو الكراهة او الندب او الاباحة، فان لازم الجميع عدم الوجوب و ان اختلفت في الالزام بالترك فيما اذا أدت الى الحرمة، او ترجيح الترك في الكراهة او ترجيح الفعل في الندب او الاذن في الفعل و الترك على الاباحة. و لما كان الحكم الواقعي هو الوجوب المنبعث عن مصلحة ملزمة، فتأدية الامارة الى الالزام بالترك في الاول او الاذن في الترك اللازم من الثلاثة الأخر يستدعي تفويت المولى- بواسطة جعله للتعبد بغير العلم- للمصلحة الملزمة، هذا اذا كان الحكم الواقعي هو الوجوب.

و اما اذا كان الحكم الواقعي هو الحرمة فانه يلزم من التعبد بغير العلم- فيما اذا كان مؤدى الامارة عدم الحرمة الجامع بين الاحكام الباقية ما عدا الحرمة- الالقاء في المفسدة اللازم تركها سواء أدت الامارة الى الوجوب او احد الاحكام الثلاثة الأخر، فانه فيما اذا أدت الى الوجوب يكون الزاما بالفعل المشتمل على المفسدة الملزمة، و في الثلاثة يكون إذنا منه في ارتكاب الفعل ذي المفسدة الملزمة.

و لا يخفى ان هذا المحذور الثالث ليس من المحالات الذاتية، بل هو من الامور الباطلة التي يمتنع على الحكيم ارتكابها، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «ثالثها تفويت المصلحة» أي انه يلزم من التعبد بغير العلم تفويت المصلحة «او الالقاء في المفسدة».

اما تفويت المصلحة الملزمة فهو «فيما» اذا «أدى» التعبد بغير العلم «الى عدم وجوب ما هو واجب» واقعا.

ص: 175

و الجواب: إن ما ادعي لزومه، إما غير لازم، أو غير باطل (1)، و ذلك لان التعبد بطريق غير علمي (2) إنما هو بجعل

______________________________

و اما الالقاء في المفسدة فهو فيما اذا ادى التعبد بغير العلم الى عدم الحرمة و اليه اشار بقوله: «او عدم حرمة ما هو حرام» واقعا و هو الجامع بين «كونه محكوما بسائر الاحكام» كما عرفت تفصيل ذلك.

(1) هذا اجمال ما ياتي ذكره تفصيلا، فان هذه المحاذير الثلاثة التي ادعي استلزام التعبد بغير العلم لها بعضها لا يلزم من التعبد بغير العلم، و بعضها لا مانع من استلزام التعبد له لانه لازم غير باطل، و لذا قال: «ان ما ادعي لزومه» من التعبد بغير العلم «اما غير لازم» و هو اجتماع المثلين فيما اصاب، او التصويب و اجتماع الضدين أو التصويب فيما اخطأ و طلب الضدين فيما أخطأ ايضا، فانه لا يلزم من التعبد بغير العلم ذلك «او» انه لا مانع من لزومه لانه «غير باطل» و هو تفويت المصلحة و الالقاء في المفسدة.

(2) توضيحه يحتاج الى بيان امر، و هو: ان مهمّ الاقوال في المجعول في الامارة ثلاثة:

الاول: مختاره (قدس سره) و هو كون المجعول فيها هو نفس الحجية، و هي من الاحكام الوضعية كالشرطية و الجزئية، و يترتب عليها آثارها الاربعة: تنجيز التكليف الواقعي لو أصابته الامارة، و صحة الاعتذار اذا اخطأت، و مخالفتها تجريا، و موافقتها انقيادا.

الثاني: كون المجعول فيها هو الحكم الطريقي و هو جعل الحكم على طبقها بعنوان انه هو الواقع، و هو ما يظهر من الشيخ الاعظم في رسائله، و سيأتي تقريبه عند تعرض المصنف له.

الثالث: كون المجعول فيها هو الحكم النفسي و هو المنسوب الى المشهور لظاهر قولهم: ان ظنيّة الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم، و هو حكم واقعي ثانوي قد جعل للموضوع الذي قامت عليه الامارة بسبب قيامها عليه، و لم يشر اليه المصنف بعنوان

ص: 176

حجيته (1)، و الحجية المجعولة غير مستتبعة لانشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق، بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب،

______________________________

كونه قولا ثالثا، و لكنه يشير اليه في مقام الجواب عن اشكال المثلية و الضدّية في ما قامت عليه بعض الاصول العملية، لانه قائل فيها بجعل الحكم النفسي.

(1) بيانه ان معنى الحجية هو كون الشي ء مما يصح ان يحتج به العبد على مولاه، فانها من الحجة التي هي مستند المحتج في مقام احتجاجه، و هذا المعنى موجود في القطع لا بجعل جاعل كما تقدم بيانه مفصّلا في المبحث الاول من مباحث القطع فان القاطع مما يصح له الاحتجاج بقطعه، و للقطع حجيّة بذاته و ليس لغيره هذه الحجيّة بالذات، لان غيره ليس كالقطع مما ينكشف به متعلقه انكشافا تاما لا يشوبه احتمال الخلاف بل الانكشاف به انكشاف مشوب باحتمال الخلاف، و مع كونه كذلك لا يصح للعبد الاحتجاج به على المولى في الاكتفاء باتيانه، اذ مع احتماله الخلاف لا يقطع باتيان ما امره مولاه باتيانه، فللمولى ان يجعل الحجية لما هو ليس حجة بذاته بان يعتبره مما يصح للمولى و للعبد الاحتجاج به، و هو امر معقول يصح جعله و اعتباره و يترتب عليه آثاره الاربعة، فان جواب الامام عليه السّلام للسائل الذي يسأله عن ما يرجع اليه حيث لا يمكنه ان يصل الى الامام ليحصل له العلم، فيجيبه الامام عليه السّلام مشيرا الى زرارة بقوله: (فعليك بهذا الجالس)(1) فان المتحصل من امره باتباع ما يقوله زرارة معناه اني قد اعتبرت خبره حجة كالعلم يصح لك التعويل عليه و الاحتجاج به، و مثله المتحصّل من صدّق العادل، فان المراد من تصديق العادل ليس صرف الاذعان النفسي بخبره، بل هو كون كلامه صدقا و واقعا، و حيث انه لا يوجب العلم بالواقع وجدانا فلا بد من ان يكون المراد بذلك هو كون لكلامه ما للعلم من صحة التعويل عليه و الاحتجاج به، و أصرح من هذا كله تصريح بعض الاخبار بان قول العادل

ص: 177


1- 13. ( 1) بحار الانوار ج 2. عن الكشي ص 136.

و صحة الاعتذار به إذا أخطأ، و لكون مخالفته و موافقته تجريا و انقيادا مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجة غير المجعولة، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدّين، و لا طلب الضدّين و لا اجتماع المفسدة و المصلحة و لا الكراهة و الارادة، كما لا يخفى (1).

______________________________

حجة، كقوله عليه السّلام: (فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فانهم حجتي عليكم و انا حجة اللّه)(1).

و على كل فجعل الحجية بنفسها امر معقول، و حيث ان مهمّ العبد انما هو الحصول على ما يصح له الاحتجاج به عند مولاه، فاذا عبّده المولى بالتعويل و الرجوع الى طريق من الطرق فالمفهوم منه هو اعتبار ذلك الطريق حجة للعبد يرجع اليها و يستند لها و يعول عليها، فجعل نفس الحجية ثبوتا و اثباتا هو المتحصّل من جعل التعبد بغير العلم من الطرق. و اللّه العالم.

(1) حاصله: انه اذا كان المجعول في الطرق غير العلمية هو نفس حجيتها يتضح الجواب عن المحذور الاول و الثاني: من لزوم اجتماع المثلين او التصويب او الضدين أو التصويب و لزوم طلب الضدين، فانهما انما يتوهم لزومهما فيما اذا كان المجعول في الطرق هو الحكم الظاهري على طبق ما أدت اليه، لوضوح انه اذا كان المجعول نفس حجية الطرق من دون جعل الحكم الظاهري على طبقها فليس هناك غير الحكم الواقعي شي ء اصلا، فانه فيما اصابت الطرق كانت منجزة له، و يكون هو المنجز تعبدا بواسطة هذه الحجة التي أدّت اليه، و ليس هناك حكم غير الحكم الواقعي حتى يلزم اجتماع المثلين أو التصويب، و فيما اخطأت الطرق فهي معذرة عن الحكم الواقعي فقط و ليس حكم غيره مضادا له حتى يلزم اجتماع الضدين او التصويب.

ص: 178


1- 14. ( 1) كمال الدين، ص 484 تحقيق علي اكبر الغفاري.

.....

______________________________

و منه انقدح عدم لزوم المحذور الثاني، و هو طلب الضدين فيما اخطأت الطرق و أدّت الى وجوب ضد الواجب مثلا، لعدم وجود حكم آخر حتى يلزم منه طلب الضدين و هو واضح، و لذا قال (قدس سره): «و الحجيّة المجعولة غير مستتبعة لانشاء احكام تكليفية الى آخر الجملة» حتى يتوهم لزوم المحذورين «بل» الحجية حيث تكون هي المجعولة «انما تكون» موجبة لترتيب آثارها عليها فهي «موجبة لتنجز التكليف» الواقعي «به» أي بالطريق غير العلمي «اذا اصاب» الطريق الواقع الى آخر عبارته المتضمنة لترتيب الآثار الثلاثة الأخر.

ثم اشار الى عدم اجتماع الحكمين بناء على جعل الحجية لعدم وجود حكم غير الحكم الواقعي بقوله: «كما هو شان الحجة غير المجعولة» أي ان شان جعل الحجية للطرق في عدم لزوم اجتماع الحكمين فيها كشأن الطرق غير المجعولة حجيتها، فكما لا يلزم منها الاجتماع لعدم الحكم، كذلك الطرق المجعولة حجيتها فانها لا حكم مجعول فيها حتى يلزم اجتماع الحكمين المتماثلين او المتضادين و لذا قال: «فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين او ضدين و لا طلب الضدين» و هو المحذور الثاني.

ثم اشار الى عدم لزوم اجتماع الضدين في المراتب السابقة على الحكم و هي مرتبة المصلحة و المفسدة و الارادة و الكراهة بقوله: «و لا اجتماع المفسدة و المصلحة و لا الكراهة و الارادة» لبداهة انه بعد ان لم يكن التعبد موجبا لجعل الحكم الظاهري في المتعلق الذي أدت اليه الامارة فلا مصلحة فيه و لا مفسدة فيه غير المصلحة و المفسدة المستتبعة للحكم الواقعي، و كذا لا إرادة و لا كراهة للمتعلق غير الارادة و الكراهة الموجبة لجعل الحكم الواقعي.

ص: 179

و أما تفويت مصلحة الواقع، أو الالقاء في مفسدته فلا محذور فيه أصلا، إذا كانت في التعبد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الالقاء (1).

______________________________

(1) لما أجاب عن المحذور الاول و الثاني بانه لا يستلزمهما جعل التعبّد للطرق غير العلمية و هو الذي اشار اليه اجمالا بقوله: «ان ما ادعي لزومه إما غير لازم»- اشار الى الجواب عن المحذور الثالث، و هو استلزام جعل التعبد للطرق تفويت المصلحة الملزمة او الالقاء في المفسدة الملزمة، و هو الذي اشار اليه اجمالا بقوله:

«او غير باطل» و اما الجواب عنه تفصيلا فاشار اليه «فلا محذور فيه الى آخره».

و توضيحه: ان اصابة الطرق و عدم اصابتها بالنسبة الى القطع في اصابته و عدم اصابته فيها محتملات ثلاثة:

الاول: ان يكون الطريق و القطع متساويين في الاصابة و عدم الاصابة، و على هذا لا مانع من جعل التعبّد بالطريق لان فوت المصلحة الملزمة و الوقوع في المفسدة الملزمة متحققان على كل حال، فلا مانع عقلا من جعل التعبّد بالطريق، و هذا المقدار و ان كان غير كاف في الجعل لوضوح ان الشي ء يحتاج الى المقتضي و لا يكفي فيه محض عدم المانع، الّا انه حيث كان الاشكال من ناحية وجود المانع كان الجواب عنه بكون هذا الاحتمال كافيا في دفع اشكال وجود المانع.

الثاني: ان تكون الطرق اكثر اصابة للواقع من القطع و هو احتمال غير بعيد، لان الشارع قيّدها بما تكون الاصابة فيها اكثر من الطرق التي يلتمسها الناس في ما يحصل لهم القطع منها، فانه كثيرا ما يحصل لهم القطع من اخبار من لا يوثق بخبره.

و على كل فعلى هذا الاحتمال لا مانع من جعل التعبد بالطرق، بل اللازم على الشارع جعل الطرق لفرض كونها اكثر اصابة من القطع، فيلزم على الشارع جعلها

ص: 180

نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية للاحكام التكليفية، أو بأنه لا معنى لجعلها إلا جعل تلك الاحكام (1)، فاجتماع حكمين و إن كان يلزم، إلا

______________________________

محافظة على تحصيل المصالح الملزمة بحسب الامكان و تقليل التورط في المفاسد الملزمة لفرض كون الطرق اكثر اصابة للواقع من القطع.

الثالث: ان تكون الطرق اقل اصابة للواقع من القطع و هذا على نحوين:

- الاول: ان لا يكون هناك مصلحة اخرى في جعل التعبد بالطرق، و على هذا لا بد و ان لا يصدر من الشارع العالم بالامور التعبّد بالطرق.

- الثاني: ان تكون الطرق اقل اصابة من القطع، و لكن في جعل التعبّد بها مصلحة ملزمة اهم من المصلحة الملزمة في الحكم الواقعي و اهم من المفسدة فيه ايضا، و على هذا فلا مانع من جعل التعبّد بالطرق و ان لزم فوت المصلحة الملزمة و الوقوع في المفسدة الملزمة الواقعيتين لفرض تدارك ما يفوت المصلحة الملزمة و الوقوع في المفسدة الملزمة بالمصلحة الملزمة التي هي اهم منهما، و الى هذا الاخير اشار في العبارة بقوله:

«فلا محذور فيه الى آخر الجملة».

(1) هذا شروع في الجواب عن المحاذير بناء على جعل الحكم الطريقي، و ان جعل التعبد بالطرق غير العلمية لا بد فيه من جعل الحكم و لكنه طريقي لا نفسي.

فلا بد من بيان معنى الحكم الطريقي ليتضح الفرق بينه و بين الحكم النفسي:

و هو ان الحكم الجامع بين الطريقي و النفسي هو الانشاء للطلب المتعلق بمادة من المواد كالصلاة مثلا، و هذا الانشاء: تارة يكون لمصلحة في نفس الصلاة كالحكم الواقعي المتعلق بالصلاة. و اخرى يكون الانشاء المتعلق بالصلاة لم يكن منبعثا عن المصلحة المتعلقة بها، بل كان الداعي لانشائه هو تنجيز الحكم الواقعي المتعلق بها و العذر عنه، و ذلك كما في الحكم الظاهري الذي أدّى اليه الطريق، فان الطريق المؤدّي الى وجوب الصلاة حيث نقول بان جعل التعبد بالطرق غير العلمية لا بد فيه من جعل الحكم الطريقي فان انشاء طلب الصلاة المؤدّي اليه الطريق ليس لمصلحة في

ص: 181

.....

______________________________

نفس الصلاة، بل كان ذلك بداعي تنجيز الحكم الواقعي عند الاصابة و التعذير عنه عند المخالفة، فليس الحكم الطريقي إنشاء بداعي جعل الداعي لمتعلقه كالحكم النفسي، بل هو انشاء حكم فائدته تنجيز الحكم الواقعي عند الاصابة و العذر عنه لو خالف، فعند الاصابة و ان كان انشاء الحكم الظاهري موجودا الّا ان الحكم المنجز الذي له البعث الحقيقي هو الحكم الواقعي، و عند الخطأ ايضا الحكم الطريقي موجود و لكن لا بعث حقيقي لا للحكم الواقعي لفرض الخطأ و عدم الحكم الواقعي، و لا للحكم الظاهري لفرض عدم كون الداعي مصلحة متعلقه، فالحكم الطريقي لا بعث فيه و لا زجر.

اذا عرفت هذا ... فاعلم ان كون التعبد بالطرق غير العلمية لا بد فيه من جعل الحكم الظاهري الطريقي- يمكن تصويره بنحوين:

الاول: ان نقول ان المجعول بالاصالة في الطرق هو نفس حجيتها، و لكن الحجيّة تستتبع جعل الحكم الطريقي استتباع الملزوم للازمه، فان قول الامام عليه السّلام مثلا:

(فعليك بهذا الجالس)(1) يفهم من سمعه ان اخباره طريق معتبر عنه عليه السّلام، و ما يخبر به من وجوب او حرمة يجب الاخذ به. و أدلّ من هذا قوله عليه السّلام: (العمري و ابنه ثقتان فما أدّيا اليك عني فعني يؤديان)(2) فانه دال على حجية خبرهما، و كون ما يؤديانه هو حكم الشارع الذي يجب الاخذ به، و هو حكم طريقي لظاهر قوله عليه السّلام: ان تأديتهما تأدية الى قولي.

و الحاصل: ان الحكم الطريقي هو الحكم المجعول على طبق مؤدى الطريق بلسان انه هو الحكم الواقعي، لكنه بداعي تنجزه لو اصابه و يلزمه العذر عنه لو خالفه، لا لمصلحة في نفسه، فهو انشاء لحكم لا بعث فيه و لا زجر، لانه لو اصاب كان

ص: 182


1- 15. ( 1) بحار الانوار: ج 2، ص 246. عن الكشي، ص 136.
2- 16. ( 2) الكافي ج 1 ص 330.

.....

______________________________

البعث للحكم الواقعي و ان أخطأه كان عذرا عنه، و لا يكون حينئذ بعث و لا زجر لا من الحكم الظاهري لفرض كونه بداعي التنجيز للواقع، و حيث لا واقع فلا تنجيز، و لا من الحكم الواقعي لعدم وجوده في فرض الخطأ.

و على كل فجعل الحجية بنفسها امر معقول و لكن يلزمه جعل الحكم الطريقي بداعي التنجيز او التعذير، و الى هذا اشار بقوله: «نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية للاحكام التكليفية» و سيأتي الاشارة منه الى كونه طريقيّا.

الثاني: ان نقول ان المجعول بالأصالة هو نفس هذا الحكم الطريقي و لا معنى لجعل التعبد بالطريق غير العلمي الّا جعل هذا الحكم الطريقي، لعدم معقولية جعل الحجية بنفسها، و هو الظاهر من الشيخ الاعظم حيث ينكر جعل الاحكام الوضعية من رأس، فهو يرى انه لا معنى لجعل التعبد بالطريق الّا هذا المعنى و هو الظاهر من قوله عليه السّلام: (خذوا ما رووا) (1) الوارد في بني فضال، فانه لا دلالة فيه على غير الاخذ بما يقولونه من الاحكام المؤدية اليها اخبارهم و رواياتهم، و الى هذا اشار بقوله:

«او بأنه لا معنى لجعلها» أي لا معنى لجعل الحجية «إلّا جعل تلك الاحكام» بدعوى ان لازم قوله صدق العادل هو كون ما اخبر به صدقا، و لازم كونه صدقا ان ما اخبر بكونه واجبا فهو واجب و ما اخبر بكونه حراما فهو حرام، و لما لم يكن لخبر العادل قبل التعبّد به هذا المعنى بل كان كسائر الاخبار مما يحتمل الصدق و الكذب، فبقوله صدّق العادل قد جعل له الغاء احتمال الكذب و ان ما يخبر به هو صدق بحسب هذا الجعل و الاعتبار، و قد عرفت ان لازم كونه صدقا هو وجوب ما اخبر بوجوبه و حرمة ما اخبر بحرمته، فمتعلق الجعل في الخبر هو الحكم الذي يؤدي اليه الخبر بعنوان انه هو الواقع لا حجية الخبر، و كونه كالقطع كما يظهر من الشيخ الاعظم في الاحكام الوضعية من انكارها مطلقا، و انه لا معنى لجعل الملكية الّا جعل آثارها، و لا معنى لجعل الجزئية الّا الحكم باتيان الجزء في ضمن الكل، و لا معنى للشرطية الّا الحكم باتيان المشروط مقيدا بالشرط، و هكذا الحال في جميع الاحكام

ص: 183

أنهما ليسا بمثلين أو ضدين، لان احدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لانشائه الموجب للتنجز، أو لصحة الاعتذار بمجرده (1) من دون

______________________________

الوضعية، فالمجعول في المقام هو الحكم الظاهري الطريقي على طبق مؤدى الطريق، و الحجية منتزعة منه كانتزاع الجزئية من الحكم باتيان الجزء في ضمن الكل، و كانتزاع الشرطية من الحكم باتيان المشروط مقيدا بشرطه، فالمجعول أولا و بالذات هو الحكم الطريقي، و الحجية مجعولة بتبع منشأ انتزاعها و هو الحكم الطريقي، و لذا قال المصنف «او بانه لا معنى لجعلها إلّا جعل تلك الاحكام».

(1) هذا هو الجواب عن محذوري اجتماع المثلين او الضدين و طلب الضدين بناء على كلا النحوين في الحكم الظاهري الطريقي.

و توضيحه: ان امتناع اجتماع الحكمين المتماثلين او المتضادين انما هو فيما اذا كان كل واحد من الحكمين فعليّا حتميّا، أما اذا كان احدهما انشائيا لا فعلية فيه او كان احدهما فعليا تعليقيا و الآخر فعليا حتميّا فلا مانع من اجتماع الحكمين كذلك، لبداهة ان الممتنع في المتماثلين هو فعلية بعثين او زجرين كل منهما محركا بنفسه مستقلا، لامتناع اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد، و في المتضادين انما هو لامتناع فعلية التحريك نحو وجود شي ء و فعلية التحريك نحو عدمه.

و من الواضح ان الحكم الانشائي لا تحريك فعلي فيه، فالحكمان الانشائيان لا تماثل فيهما و لا تضاد، و الحكمان اللذان احدهما فعلي حتمي و الآخر انشائي لا تضاد فيهما و لا تماثل، و كذلك الحكمان اللذان احدهما فعلي تعليقي و الآخر فعلي حتمي ايضا لا تماثل فيهما و لا تضاد، لانهما و ان كانا معا فعليين إلّا ان احدهما لما كان فعليا تعليقيا فلا تحريك له بالفعل، و التحريك بالفعل للفعلي الحتمي لانه هو المنجز، و الفعلي التعليقي غير منجز فلا تحريك له، فان ما له التحريك بالفعل هو المنجز، و التنجيز انما هو للفعلية الحتمية، اما الفعلي الذي لو علم به او قامت الحجة عليه لتنجز فلا تنجيز له ما دام معلقا فلا تحريك له، و حيث كان لا تحريك له بالفعل

ص: 184

.....

______________________________

فلا مانع من ان يجتمع مع ما له التحريك بالفعل و هو الفعلي المنجز الذي هو الفعلي الحتمي.

و لا يخفى ان مقامنا من اجتماع الحكم الانشائي و الحكم الفعلي، لان الحكم الطريقي المجعول في الطرق غير العلمية ان اصاب الواقع كان منجزا له، فالحكم الفعلي المنجز هو الحكم الواقعي، و الحكم الظاهري انشائي بداعي التنجيز للحكم الواقعي المتعلق بموضوعه لا بداعي التحريك للموضوع، و ان اخطأ فالحكم الواقعي و ان لم يكن محركا بالفعل لعدم وصوله لا بالعلم و لا بالحجة لفرض خطأ الطريق، و لا فعلية للحكم الطريقي ايضا لانه لم يكن بداعي التحريك و جعل الداعي، بل كان بداعي التنجيز و حيث اخطأ الواقع فلا تنجيز له و لا تحريك.

و لما لم يكن الحكم الطريقي عن مصلحة في متعلقه و الّا لكان حكما نفسيا كالحكم الواقعي و انما كان بداعي التنجيز، فلا بد ان يكون قد نشأ عن مصلحة في غير متعلقه.

و بين الشيخ الاعظم و المصنف خلاف في المصلحة التي نشا عنها الحكم الطريقي، فالشيخ يرى انه نشأ عن مصلحة في السلوك، و المصنف يرى انه نشأ عن مصلحة في نفس انشاء الحكم الطريقي.

و قد اشار المصنف الى ان اجتماع الحكم الطريقي و الحكم الواقعي ليس من اجتماع المثلين او الضدين او من طلب الضدين بقوله: «فاجتماع حكمين» بناء على جعل الحكم الظاهري الطريقي «و ان كان يلزم» لوضوح اجتماع الحكم الواقعي مع الحكم الظاهري الطريقي «إلّا انهما ليسا بمثلين او ضدين لان احدهما» و هو الحكم الظاهري «طريقي» و قد عرفت انه لا منافاة في ذلك لعدم كونهما فعليين، بل احدهما فعلي و هو الحكم الواقعي و الثاني انشائي و هو الحكم الطريقي و لا مانع في مثل هذا الاجتماع.

لا يخفى ان المتحصل من كلام الماتن ان الحكم الطريقي لما كان إنشاؤه بداعي التنجيز و التعذير ففي مقام الاصابة يكون الحكم الواقعي هو الفعلي الحتمي المحرك،

ص: 185

.....

______________________________

و الحكم الطريقي انشائي قد انشئ بداعي تنجيز الحكم الواقعي، و في مقام الخطأ فالحكم الواقعي هو الفعلي ايضا إلّا انه لما اخطأته الامارة لا يكون و اصلا فلا يكون محركا و فعليا حتميا و الحكم الطريقي انشائي ايضا بداعي التعذير.

و يظهر من بعض القائلين بالحكم الطريقي غير هذا و ان الحكم الطريقي هو الحكم المماثل المجعول بلسان انه هو الواقع، ففيما اذا أخطأت الامارة لا حكم طريقي و ليس هناك إلّا الحكم الواقعي و هو فعلي، بمعنى انه قد بلغ الحكم كلّ ما يمكن ان يبلغه من جهة المولى، و هو كونه بحيث يمكن ان يكون داعيا، و لكنه لا يكون داعيا و محركا بالفعل لعدم وصوله، لان الدعوة و التحريك بالفعل منوطان بالوصول.

و اذا اصابت الامارة فالحكم الفعلي المحرك هو الحكم الطريقي، و الحكم الواقعي غير قابل للتحريك و الدعوة لعدم وصوله لا بالعلم و لا بالاحتياط، و لذلك اشكل عليهم بانه يلزم نقص الغرض من جعله، لانه بداعي جعل الداعي، و لا يكون داعيا لا في حال خطا الامارة و لا في حال اصابتها.

و أجابوا بانه لا يلزم نقض الغرض فيما اذا كان الغرض من جعله هو دعوته فيما اذا وصل من باب الاتفاق.

و اما اشكال تفويت المصلحة و الالقاء في المفسدة فلا يلزم فيما كان في جعل الامارة مصلحة اقوى، و هي مصلحة التسهيل على المكلف من كلفة تحصيل العلم، و اللّه العالم.

و اشار الى كون الحكم الطريقي لم ينشأ عن مصلحة في متعلقه بقوله: «عن مصلحة في نفسه موجبة لانشائه» أي ان الحكم الطريقي قد انشأ عن مصلحة في نفسه اقتضت إنشاءه لا في متعلقه، و قد اشار الى كونه بداعي التنجيز و التعذير بقوله:

«الموجب للتنجيز او لصحة الاعتذار بمجرده» أي بمجرد انشاء الحكم الطريقي يترتب عليه التنجيز و صحة الاعتذار و تحصل مصلحته الداعية لانشائه.

ص: 186

إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة بمتعلقه (1) فيما يمكن هناك انقداحهما، حيث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل، و إن لم

______________________________

(1) قد عرفت فيما مرّ عند بيان المحاذير المدعاة في جعل التعبد بالطرق غير العلمية ان التضاد و التماثل بناء على لزومه فهو لازم في مراتب ثلاث: في مرتبة الحكم، و في مرتبة الارادة و الكراهة، و في مرتبة المصلحة و المفسدة.

و بعد ما تبيّن ان الحكم الطريقي و الحكم الواقعي لا منافاة و لا امتناع في اجتماعهما و انما المنافاة في الحكمين الفعليين الحتميين، و الحكم الطريقي حكم انشائي لا يلزم من اجتماعه مع حكم الواقعي الفعلي تماثل و لا تضاد- أراد أن ينبّه على انه كما لا تماثل و لا تضاد في الحكمين اذا كان احدهما نفسيا بداعي التحريك و عن مصلحة في متعلقه، و الثاني طريقيا بداعي التنجيز و التعذير و عن مصلحة في نفس انشائه.

كذلك لا تماثل و لا تضاد بينهما في مرتبة الارادة و الكراهة و لا تماثل و لا تضاد بينهما في مرتبة المصلحة و المفسدة الملزمتين.

اما في مرتبة الارادة و الكراهة فلان الارادة في الحكم الواقعي ناشئة عن مصلحة في المتعلق فلا بد و ان يكون متعلق الارادة فيه على طبقها متعلقها نفس وجوده، و كذلك الكراهة فيه ناشئة عن مفسدة في المتعلق فلا بد و ان يكون متعلق الكراهة هو عدمه ايضا و الحكم الطريقي ينشأ دائما عن مصلحة في نفس انشائه، فمتعلقها نفس انشائه و لا ارادة فيه متعلقة بمتعلق الارادة او الكراهة في الحكم الواقعي.

و منه تبيّن ايضا انه لا تماثل و لا تضاد في مرتبة المصلحة و المفسدة، فان طلب الفعل او الترك في الحكم الواقعي ينشأ عن مصلحة او مفسدة في متعلقه، و الحكم الطريقي قد نشأ عن مصلحة في نفس انشائه، فلم يلزم اجتماع مصلحتين في مورد واحد و هو المتعلق و لا اجتماع مفسدة و مصلحة فيه ايضا، بل المصلحة و المفسدة في الحكم الواقعي محلها المتعلق، و في الحكم الطريقي محل المصلحة فيه نفس انشائه،

ص: 187

يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الّا على، إلّا أنه إذا أوحى بالحكم الشأني من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي، أو ألهم به الولي، فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما، الارادة أو الكراهة الموجبة للانشاء بعثا أو زجرا، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق، بل إنما كانت في إنشاء الامر به طريقيا. و الآخر واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، موجبة لارادته أو كراهته، الموجبة لانشائه بعثا أو زجرا في بعض المبادئ العالية، و إن لم يكن في المبدأ الأعلى إلا العلم بالمصلحة أو المفسدة- كما أشرنا- فلا يلزم أيضا اجتماع إرادة و كراهة، و إنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثا و زجرا، و إنشاء حكم آخر طريقي، و لا مضادة بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا و لا يكون من اجتماع المثلين فيما اتفقا، و لا إرادة و لا كراهة أصلا إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي (1)،

______________________________

و قد اشار الى عدم التضاد في مرتبة الارادة و الكراهة بقوله: «من دون ارادة نفسانية او كراهة كذلك» أي نفسانية «متعلقة بمتعلقه» و اما الاشارة الى عدم التضاد و التماثل في مرتبة المصلحة و المفسدة فسيشير اليه في ضمن كلامه الآتي.

(1) توضيحه: ان المصلحة و المفسدة الملزمتين المتعلقتين بالفعل، اما ان يكونا بحيث يقتضيان ايجاد الفعل أو تركه من المولى الآمر بنفسه فمثل هذا يكون من افعاله المباشريّة لا يوجب أمرا و لا نهيا، بل يوجبان ارادة الفعل و الترك من نفس المولى، و هو خارج عن محل كلامنا.

و اما ان يكونا بحيث يقتضيان ايجاد الفعل او تركه لا من المولى نفسه بل من عبده و ينشا منهما ارادة و كراهة في نفس المولى الآمر و لكن متعلقهما فعل الغير، هذا محسوس وجدانا في الموالي و العبيد الممكنين.

و اما في الواجب تعالى فالمصلحة و المفسدة لا يقتضيان وجود ارادة او كراهة في نفسه تبارك و تعالى؛ اما لما يقال: من ان اراد و كراهته، لا يتخلفان عن المراد، فلا بد

ص: 188

.....

______________________________

و ان ينحصر ذلك في الارادات التكوينية دون التشريعية التي يتخلّف فيها المراد عن الارادة، فلا بد و ان يكون ارادته في التشريع هو نفس علمه بالصلاح و الفساد من دون شوق الى وجود الفعل او كراهيّة له.

او لما يقال: من ان الشوق الى شي ء إنما هو لكون المصلحة فيه عائدة الى ما ينفع المولى الآمر، و أما فيما لا يكون وجوده مما فيه منفعة عائدة الى المولى فلا يحصل له شوق نفساني اليه، و من الواضح ان افعال العباد مما لا فائدة فيها عائدة اليه- تبارك و تعالى عن الحاجة- فانه الغني بالذات جلّت عظمته، فلذلك لا تكون المصلحة و المفسدة في افعال العباد مما توجب شوقا نفسانيا او كراهة نفسانية فيه تعالى و ليس فيه غير العلم بالصلاح او الفساد.

و حيث كان المصنف يرى المسلك الاول في عدم الارادة و الكراهة في المبدأ الاعلى، و هو امتناع تخلّف المراد عن الارادة فيه تعالى. و امّا في المولي غيره ممن يحيطه افق الامكان فلا مانع من تخلّف الارادة عن المراد فيهم في مقام التشريع، فلذلك خصّ عدم الارادة و الكراهة به تبارك و تعالى. و اما بالنسبة الى المشرعين غيره من انبيائه و أوصيائه عليهم افضل الصلاة و السلام فقد صرح بحدوث الارادة و الكراهة التشريعيتين في انفسهم المقدّسة.

و على كل حتى بناء على مسلكه (قدس سره) انما ينقدح في نفس النبى أو الولي الارادة و الكراهة فيما اذا كانت المصلحة و المفسدة في الفعل لا فيما اذا لم تكن في الفعل مصلحة و لا مفسدة كما في الحكم الطريقي الذي لا ينشا عن مصلحة، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «فيما يمكن هناك انقداحهما» أي انقداح الارادة و الكراهة و هو في غير المبدأ الاعلى تعالى شانه «حيث انه مع المصلحة و المفسدة الملزمتين في فعل» أي فيما كانت المصلحة و المفسدة في نفس الفعل «و ان لم يحدث بسببها ارادة او كراهة في المبدأ الاعلى» جلّ شانه «الّا انه اذا اوحي بالحكم الشأني» الناشئ «من قبل تلك المصلحة او المفسدة الى النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم او الهم به الولي فلا محالة ينقدح في نفسه

ص: 189

.....

______________________________

الشريفة بسببهما» أي بسبب المصلحة او المفسدة الداعيين الى الحكم الموحى بهما الى النبي او الملهم بهما الولي يحدث منهما «الارادة او الكراهة الموجبة للانشاء بعثا او زجرا» و لكن ذلك انما هو فيما كانت المصلحة او المفسدة في نفس الفعل المتعلق للبعث او الزجر كما في الحكم الواقعي النفسي «بخلاف ما ليس هناك مصلحة او مفسدة في المتعلق» كما في الحكم الطريقي «بل انما» في الحكم الطريقي «كانت» مصلحة «في نفس انشاء الامر به» في نفس الحكم المنشأ «طريقيا و» في «الآخر» الذي هو حكم «واقعي حقيقي» كان ناشئا «عن مصلحة او مفسدة في متعلقه موجبة لارادته او كراهته الموجبة» تلك الارادة و الكراهة «لانشائه بعثا او زجرا في بعض المبادئ العالية» كالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الولي عليه السّلام «و ان لم يكن في المبدأ الاعلى» ارادة و لا كراهة بل ليس هناك «إلّا العلم بالمصلحة او المفسدة كما اشرنا فلا يلزم ايضا» أي في بعض المبادئ العالية الذي قلنا بحصول الارادة و الكراهة في انفسهم المقدّسة، إلّا انه في اجتماع الحكم الواقعي و الطريقي الظاهري لا يلزم ايضا اجتماعهما أي «اجتماع ارادة و كراهة» بسببهما فيما لو اختلفا بان اخطأ الحكم الظاهري الطريقي و لم يصب الواقع «و انما لزم» منهما اجتماع «انشاء حكم واقعي حقيقي» يكون «بعثا و زجرا» فعليا «و انشاء حكم آخر طريقي» لا بعث له و لا زجر، و انما كان بداعي التنجيز و التعذير «و لا مضادة بين الإنشاءين» اذا كانت الفعلية لاحدهما «فيما اذا اختلفا» بان كان احدهما امرا و الآخر نهيا «و» ايضا «لا يكون» اجتماعهما «من اجتماع المثلين فيما» اذا «اتفقا» بان اصاب الحكم الطريقي الواقع.

و منه ظهر ايضا انه لا مضادة في المرتبة السابقة و هي مرتبة الارادة و الكراهة بينهما و لذا قال: «و لا ارادة و لا كراهة اصلا إلّا بالنسبة الى متعلق الحكم الواقعي» و لا منافاة ايضا في مرتبة المصلحة و المفسدة لان مصلحة الحكم الواقعي و مفسدته في متعلقه، و مصلحة الحكم الطريقي في نفسه كما عرفت.

ص: 190

فافهم (1).

نعم يشكل الامر في بعض الاصول العملية، كأصالة الاباحة الشرعية، فإن الاذن في الاقدام و الاقتحام ينافي المنع فعلا، كما فيما صادف الحرام (2)، و إن كان الاذن فيه لاجل مصلحة فيه،

______________________________

(1) لعله اشارة الى ان الظاهر مما ذكره هو التزامه (قدس سره) بالفعلية الحتمية في الحكم الواقعي مطلقا أصابت الامارة او أخطأت.

و يمكن ان يقال: ان ايصال الحكم الى مرتبة الفعلية الحتمية لا يعقل ان يكون من الشارع العالم بخطإ الامارة لانه لغو، اذ ايصال الحكم الى مرتبة الحتمية انما هو يمكن ان يترقب منه ان يكون منجزا، و مع خطأ الامارة لا يترقب منه التنجيز مع المعذرية عنه ايضا و هو واضح.

(2) لا يخفى ان الاصول هي البراءة و الاحتياط و التخيير و الاستصحاب و قاعدة الحل.

و لا يخفى ان المصنف لا يقول بجعل الحكم النفسي في البراءة و الاحتياط و التخيير، و اما الاستصحاب فقد مرّ منه في الإجزاء ان لجعل الحكم النفسي فيه وجها قويا، و هذا لا يدل على القول بجعل الحكم النفسي فيه. نعم فيه دلالة على قوة احتمال الجعل فيه دون القطع و الجزم به، و لكنه (قدس سره) في قاعدة الحل يقول بجعل الحكم النفسي: أي بجعل حكم الاباحة نفسيا لا طريقيا في موردها، و لذا نصّ عليها في المتن، و في قاعدة الطهارة و ان قال (قدس سره) بجعل الحكم النفسي فيها إلّا انها ليست من القواعد المبحوث عنها في علم الاصول و انما هي من القواعد الفقهية، و لذا لم يذكرها، و لعل قوله: «كاصالة الاباحة» اشارة الى كل قاعدة يقال فيها بالحكم النفسي، و تكون اصالة الاباحة من باب المثال.

و على كل حال فحيث انه في مثل اصالة الاباحة يقول بجعل الحكم النفسي لذا اشكل الامر في الجواب عن لزوم اجتماع الضدين في مرتبة الحكم و في مرتبة الارادة و الكراهة ايضا.

ص: 191

لا لاجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه (1)، فلا محيص في

______________________________

(1) لا يخفى ان الاباحة على قسمين: إباحة لا اقتضائية و هي التي تكون لعدم مصلحة ملزمة او غير بالغة حدّ الالزام، و عدم مفسدة ملزمة او غير بالغة حدّ الالزام: أي يخلو الفعل عما يقتضي الوجوب و الاستحباب و الحرمة و الكراهة.

و اباحة اقتضائية و هي التي تكون عن مصلحة تقتضي الحكم بالاباحة و الاذن في الفعل و الترك كما في الحكم الظاهري، و لا يخفى ان المصلحة المقتضية للإباحة هي في نفس الحكم الظاهري بالاباحة و في نفس الترخيص في الاقدام و عدمه، و ليست المصلحة الداعية الى الحكم بالاباحة هي في نفس المباح، بل هي في نفس الاذن لا في الماذون فيه.

و قد اتضح من هذا انه لا منافاة و لا مضادة في مرتبة المصلحة و المفسدة فيما اذا كان مورد اصالة الحل حراما واقعا، لان مفسدة الحرمة الواقعية في نفس الفعل، و مصلحة الحكم بالحلية في نفس الحكم بالحلية لا بالماذون فيه، و لكن تقع المنافاة في مرتبة الكراهة الموجبة للحكم بالحرمة و عدم الكراهة الموجبة للحكم بالاباحة، فان لازم الاذن في الفعل و الترك عدم كراهة الفعل و هذه منافاة بالتناقض، و في مرتبة الحكم تقع المضادة لوضوح المضادة بين الحكم بالحرمة و الحكم بالاباحة، و لا يتأتى الجواب السابق في الحكم الطريقي هنا، لبداهة ان حكم الاباحة ليس بداعي التنجيز و التعذير، بل هو حكم نفسي بداعي مصلحة في نفسه، و قد اشار الى هذا بقوله:

«فان الاذن في الاقدام الى آخر الجملة» و اشار الى ان الاباحة في المقام اقتضائية و ليست لا اقتضائية بقوله: «و ان كان فيه» أي في الاقدام و الاقتحام «لاجل مصلحة»، و بقوله «فيه» أي في نفس الاذن في الاقدام اشار الى انها في نفس الحكم لا في متعلقه و لذا قال: «لا لاجل عدم مصلحة او مفسدة ملزمة» و هي الاباحة اللااقتضائية التي تكون «في الماذون فيه».

ص: 192

مثله (1) إلا عن الالتزام بعدم انقداح الارادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضا، كما في المبدأ الاعلى، لكنه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى كونه على صفة و نحو لو علم به المكلف لتنجز عليه، كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها، و كونه فعليا إنما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولوية، فيما

______________________________

و يمكن ان يقال: ان البراءة و ان لم يكن فيها جعل حكم نفسي الّا انها رافعة للحكم الفعلي، و رفع الحكم الفعلي ينافي وجود الحكم الفعلي بالمناقضة فمحذور الجمع بين الحكم الفعلي الواقعي و الحكم الفعلي الظاهري من المضادة و ان لم يكن موجودا، الّا ان محذور المنافاة بين وجود الحكم الواقعي الفعلي و رفعه موجود بنحو التناقض، و ايضا فان لازم الرفع للحكم الفعلي في مورد البراءة هو الترخيص و إرخاء العنان و هو مضاد للحكم الواقعي، فالمنافاة بنحو المضادة بين لازم البراءة و الحكم الفعلي الواقعي ايضا متحقق، و ان لم نلتزم بجعل الحكم النفسي فيها، و اللّه العالم.

(1) قد عرفت ان الاقوال في التعبّد بالطرق غير العلمية ثلاثة: جعل الحجية الصّرف، و جعل الحكم الطريقي اما بتبع جعل الحجية او من غير جعل الحجية، و جعل الحكم النفسي المماثل لما ادّت اليه الامارة و هو المنسوب الى ظاهر المشهور.

و قد تعرّض لدفع المحاذير بناء على جعل الحجية، و بناء على جعل الحكم الطريقي، و لم يتعرّض للدفع بناء على جعل الحكم النفسي في الامارات، و لكنه حيث يقول بجعل الحكم النفسي في مؤدّى بعض الاصول العملية تعرّض لها و لدفعها، و لما كان الدفع يتأتى ايضا بناء على جعل الحكم النفسي في الامارات اشار بقوله: «في مثله» الى دفعها ايضا، لان دفع الاشكال في الحكم النفسي في الاصول يجري عينا في دفع اشكال الحكم النفسي في الامارات ايضا.

ص: 193

إذا لم ينقدح فيها الاذن لاجل مصلحة فيه (1).

______________________________

(1) و توضيحه: إنه قد مرّ في المباحث السابقة في القطع و الظن الاشارة الى ان الفعلية على نحوين: فعلية حتميّة، و فعلية تعليقيّة، و الفعلية الحتميّة هي الفعلية البالغة حدّا يلازمها مرتبة التنجز و ترتب العقاب و الثواب، و هي الفعلية التي لو كان العبد في مقام اداء رسم العبودية لكان الامر محركا له بالفعل، و هذه المرتبة لا تكون الا بوصول الحكم بنحو من انحاء الوصول، اما بالعلم او بالامارة الموصلة له بناء على الطريقية و جعل الحجية او الوصول تعبدا، فان الحكم القائم عليه الحجة المجعولة طريقا له من الشارع نحو من انحاء الوصول له، و لذا قال في الحكم الطريقي انه بداعي التنجيز و التعذير لا بداعي المصلحة في متعلقه كما مرّ.

و اما الفعليّة التعليقيّة: و هي كون الحكم بحيث لو علم به لتنجز أي لبلغ مرتبة الحكم الذي يلازمه التنجز بمعنى تماميته من كل جهة تستدعي كونه حكما بالفعل من ناحية المولى، و لم يبق له شرط من ناحية المولى اصلا، و انما بقى له شرط واحد لا يرجع الى المولى و هو كونه واصلا.

و في مورد الاصول حيث ان لسانها ليس لسان الايصال فلم يعتبرها الشارع من هذه الناحية، و انما اعتبرها لجعله الحكم بالحلية في موردها، فالحكم لم يصل في موردها بالعلم على الفرض لان موردها بفرض الشك فيه، و لا بالحجة القائمة عليه بما هي طريق معتبر اليه، اذ المفروض عدم قيام الامارة المعتبرة عليه ايضا، فالحكم الواقعي لم يصل اصلا.

و مثله الحال بناء على جعل الحكم النفسي المماثل لما قامت عليه الامارة، فان الامارة و ان كان لسانها انه الواقع الّا انه بناء على جعل الحكم المماثل على طبق مؤدّاها ينحصر وصول الحكم الواقعي بالعلم فقط، لوضوح ان من يرى جعل الحكم النفسي في الامارة لا يقول بجعل حجية الامارة بما هي طريق الى الحكم الواقعي، فالحكم الواقعي- ايضا- في مورد قيام الامارة لا يكون و اصلا ايضا.

ص: 194

.....

______________________________

فاذا عرفت ان الحكم الواقعي في مورد الاصول و الامارة لا يكون واصلا فلا مانع من اجتماع الحكم الواقعي بهذه المرتبة من الفعلية التعليقية و الحكم الظاهري النفسي- في مورد الاصل و الامارة- البالغ مرتبة الفعلية الحتمية للعلم بوصوله قطعا، لحصول شرط حتميّته و هو قيام الاصل و الامارة عليه، فان الحكم الظاهري مقطوع به و انما المشكوك او المظنون هو الحكم الواقعي في مورد الاصل و الامارة.

و انما كان لا مانع من اجتماع هذين الحكمين و هما الواقعي الفعلي التعليقي و الظاهري النفسي الفعلي الحتمي، لوضوح ان التماثل و التضاد بين الحكمين ليس لمحض كونهما حكمين و فردين من طبيعة واحدة او من طبيعتين، بل لكون الحكمين المتماثلين اجتماعهما من اجتماع العلتين المستقلتين المؤثرتين بالفعل على معلول واحد و هو محال، و في التضاد من اجتماع العلتين المتضادتين بالفعل في مقام التأثير، و التأثير لا يكون إلّا للحكم الواصل، و حيث لا وصول للحكم الواقعي على الفرض فلا قابلية له للتاثير، و لا تأثير الا للحكم النفسي الظاهري، و لا يعقل مزاحمة ما لا قابلية له للتاثير لما له قابلية التاثير، فلا مانع من اجتماعهما.

و مما بينا يتضح: ان الحكم المسبوق بالارادة و الكراهة هو الحكم الفعلي الحتمي، لان الارادة و الكراهة المسبوق بهما الحكم هي شوق المولى الى ان يتحرك العبد بالامر و ان ينزجر بالنهي، و لما لم يكن الحكم الفعلي واصلا فلا قابلية لان يتحرك به العبد و لا لأن ينزجر بواسطته، فلا يكون الحكم الفعلي التعليقي مسبوقا بالإرادة او الكراهة ليلزم التماثل و التضاد في هذه المرتبة ايضا.

و اتضح ايضا ان المبادئ العالية المشرّعة للاحكام كالنبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الوصي عليه السّلام بعد أن جعلا الحكم الظاهري النفسي على طبق مؤدى الامارة و في مورد الاصول مع علمهما بعدم وصول الحكم الواقعي في مقامهما لا يعقل ان يكون الحكم الواقعي مسبوقا عندهما بالارادة و الكراهة في مورد الاصول و الامارات لما عرفت، و الى هذا اشار بقوله: «فلا في مثله محيص الّا عن الالتزام بعدم انقداح الارادة أو الكراهة في

ص: 195

فانقدح بما ذكرنا أنه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الاصول و الامارات فعليا (1)، كي يشكل تارة بعدم لزوم الاتيان

______________________________

بعض المبادئ العالية ايضا كما في المبدأ الاعلى» عزّ و جل، غايته انه في المبدأ الاعلى لا مجال لهما اصلا، و في المبادئ العالية لهما مجال، و لكنه حيث لم يتحقق شرطهما، و اشار الى ان الحكمين فعليان و لكن احدهما تعليقي و هو الحكم الواقعي و الآخر حتمي بقوله: «لكنه لا يوجب الالتزام» أي ان الالتزام بعدم انقداح الارادة و الكراهة لا يوجب الالتزام «بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي» بل هو فعلي ايضا لكنه ليس بحتمي بل هو تعليقي «بمعنى كونه على صفة و نحو لو علم به المكلف لتنجز عليه» و قد عرفت ان مرتبة التنجز ملازمة لمرتبة الفعلية الحتمية لا التعليقية و المرتبة الحتمية هي الواصلة بالعلم، و لذا قال: «كسائر التكاليف الفعلية التي» تكون قبل تعلق العلم بها تعليقية و لكنها «تتنجز بسبب تعلق القطع بها».

و قوله (قدس سره): «و كونه فعليا انما يوجب البعث او الزجر الى آخر الجملة» معناه: ان الفعلية المطلقة و لو كانت تعليقية لا توجب البعث و الزجر الذي يلازمه ايضا الارادة و الكراهة في نفس النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الولى عليه السّلام، و انما هو في الفعلية الحتمية، و حينئذ لا بد و ان تكون الفعلية تعليقية في مورد الاصول و الامارات بناء على جعل الحكم النفسي على طبق مؤدّاها لا توجب بعثا و لا زجرا و لا ارادة و لا كراهة، لانه لا يعقل ان تبلغ المرتبة الحتمية في نفوسهم الزكية مع جعلهم الاذن في الاقدام و عدمه في موارد الاصول، و جعلهم الحكم النفسي الموجب للبعث و الزجر في مورد الامارات لمنافاتهما للفعلية الحتميّة للحكم الواقعي.

(1) هذا تعريض بما يظهر من الشيخ (قدس سره) في مقام الجواب عن الاشكالات المتقدمة بناء على جعل الحكم النفسي في موارد الاصول و الامارات.

و حاصل ما يظهر من الشيخ (قدس سره) في المقام هو الالتزام بكون الحكم الواقعي انشائيا و الحكم الفعلي هو الحكم الظاهري النفسي.

ص: 196

حينئذ بما قامت الامارة على وجوبه، ضرورة عدم لزوم امتثال الاحكام الانشائية ما لم تصر فعلية و لم تبلغ مرتبة البعث و الزجر، و لزوم الاتيان به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان (1).

______________________________

و قد ظهر مما ذكره المصنف من ان الالتزام بالفعلية التعليقية تفي بدفع المحاذير المذكورة و لا داعي الى الالتزام بكونه انشائيا، بل لا بد من الالتزام بكونه فعليا تعليقيا لئلا يرد عليه الإشكالان الآتيان.

(1) هذا هو الاشكال الاول الذي يرد على ما يظهر من الشيخ من الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي فعليا و انه انشائي.

و حاصله: ان الاحكام الانشائية التي هي مرتبة جعل القانون قد مرّ الكلام فيها، و ان الحكم في هذه المرتبة لا يقتضي العلم به الامتثال فضلا عن قيام الامارة عليه، بخلاف الحكم الفعلي الذي يكتسب الحكم فيه جميع ما له من الجهات فيما يتعلق بالمولى، و لم يفقد سوى شرط واحد و هو وصوله الذي هو ليس من شئون المولى، و الحكم ما لم يبلغ هذه المرتبة لا يكون له امتثال و لا يكون له قابلية ان يكون باعثا و زاجرا بالفعل حتى لو تعلق به العلم، و انما الذي يكون كذلك هو الحكم البالغ مرتبة الفعلية فانه المكتسب لكل حيثية من قبل المولى، و عند تعلق العلم به يكون بعثا و زجرا بالفعل.

و من الواضح ان الحكم الواقعي في مورد الاصول و الامارات لو تعلق العلم به لكان موجبا للبعث و الزجر فلا بد ان لا يكون إنشائيا، لما عرفت من ان الحكم الانشائي لا يقتضي تعلق العلم به ان يكون موجبا للبعث و الزجر و لا يلزم امتثاله و الاتيان به، و الى هذا اشار بقوله: «ضرورة عدم لزوم امتثال الاحكام الانشائية ما لم تصر فعليّة» اولا «و» ما «لم تبلغ مرتبة البعث و الزجر» ثانيا.

و من البديهي «لزوم الاتيان» أي بالحكم الواقعي في مورد الاصول و الامارات لو تعلق العلم «به» و هو «مما لا يحتاج الى مزيد بيان أو اقامة برهان».

ص: 197

لا يقال: لا مجال لهذا الاشكال، لو قيل بأنها كانت قبل أداء الامارة إليها إنشائية، لانها بذلك تصير فعلية، تبلغ تلك المرتبة (1).

فإنه يقال: لا يكاد يحرز بسبب قيام الامارة المعتبرة على حكم إنشائي لا حقيقة و لا تعبدا، إلا حكم إنشائي تعبدا، لا حكم إنشائي أدت إليه الامارة، أما حقيقة فواضح، و أما تعبدا فلان قصارى ما هو قضية حجية الامارة كون مؤداها هو الواقع تعبدا، لا الواقع الذي أدت إليه الامارة (2)،

______________________________

(1) حاصل لا يقال: ان الحكم الانشائي لو كان محض الحكم المرتب على موضوعه لورد عليه ما ذكر: من ان العلم به فضلا عن قيام الامارة عليه لا يجعله فعليّا فلا يجب امتثاله، و لكنه ليس كذلك بل هو مقيد بأداء الامارة، بمعنى ان الحكم الانشائي- مثلا- هكذا: تجب الجمعة المؤدية لها الامارة، فهو حكم انشائي مقيد بأداء الامارة، و مثل هذا الحكم الانشائي المقيد لا بد من بلوغه الى درجة الفعلية الحتمية بأداء الامارة اليه، و ليس مثل هذا الحكم الانشائي مما يحتاج الى ما يبلغه الى درجة الفعلية غير اداء الامارة اليه، و الى هذا أشار بقوله: «لو قيل بانها» أي الاحكام الواقعية الانشائية «كانت قبل أداء الامارة اليها انشائية» لا يجب امتثالها، و اما بعد أداء الامارة اليها لا بد و ان تصير فعلية لانها ليست محض انشاء الحكم المرتب على موضوعه، بل هي انشائية مقيدة باداء الامارة فهي «لانها» مقيدة «بذلك تصير فعلية و تبلغ المرتبة» باداء الامارة اليها.

(2) و حاصله: ان الامارة القائمة على الحكم لا يعقل ان تكون مبلغة لهذا الحكم الانشائي المقيد بأداء الامارة.

و توضيحه: ان الموضوع المقيد اما ان يحرز كلا جزأيه بالعلم، او يحرز كلا جزأيه بالتنزيل، او بكون احد جزأيه محرزا بالعلم و الآخر بالتنزيل.

و الاول كإحراز المائية و الكريّة بالعلم، و الثاني كاحراز المائية و الكرية كليهما بالاستصحاب، و الثالث كاحراز احدهما بالعلم و الآخر بالاستصحاب.

ص: 198

.....

______________________________

و الموضوع في مقامنا مركب من الحكم و قيد أداء الامارة، و حيث ان الامارة مما لا توجب العلم فلا يكون الموضوع بجزأيه محرزا بالعلم، و ليس الموضوع محرزا بكلا جزأيه بالتنزيل، لوضوح لزوم ثبوت كل حكم بأمارتين: أمارة تقوم على الحكم، و أمارة تقوم على اداء الامارة اليه.

لا يقال: ان المقام من القسم الثالث الذي يحرز احد جزأيه بالوجدان و جزؤه الآخر بالتنزيل، فان الحكم الذي هو مؤدى الامارة هو الحكم الواقعي تنزيلا و تعبدا، فأحد جزأيه قد احرز بالتنزيل، و اما جزؤه الآخر و هو اداء الامارة اليه فهو محرز بالوجدان لفرض قيام الامارة و ادائها الى الحكم وجدانا بلسان انه هو الواقع.

فانه يقال: ان الامارة المؤدية الى الحكم التعبدي التنزيلي لا يعقل ان يكون مما يحرز بها الجزء الثاني بالوجدان، و هو نفس اداء الامارة المفروض اخذه قيدا للحكم الانشائي الواقعي، و لا يحرز بها ذلك إلّا ان يكون لسان الامارة هو القيام على الحكم بما هو مقيد باداء الامارة، فان أداء الامارة الذي هو قيد قد اخذ شرعا في نفس الحكم الانشائي لم تؤد الامارة اليه، و انما ادّت الى الحكم الانشائي فقط من دون قيده المأخوذ فيه في انشائه كذلك.

نعم لو كان لسان الامارة قد قام على الحكم الانشائي بما هو مقيد باداء الامارة لتمّ ذلك، و لكنه من الواضح ان الامارة ليس لها هذا اللسان، و هو القيام على الحكم بما هو مقيد بادائها اليه، و انما لسانها ان مؤداها هو الحكم الواقعي من دون كونه مقيدا بادائها اليه، هذا اولا.

و ثانيا: ان الامارة لا يعقل ان تقوم على الحكم المقيد باداء نفسها اليه، لان معنى كونها قائمة على الحكم المقيد بأدائها بنفسها اليه هي كونها حاكية عن حكايتها عنه، و الحال أنه لا يعقل ان تكون حاكية عن الحكم و حاكية عن حكايتها عن الحكم ايضا، لوضوح لزوم تقدم المحكى عنه على الحاكي له و تأخر الحاكي عن المحكى عنه، فحكايتها حيث انها هي احد المحكى عنه على الفرض لا بد من كونها متقدمة، و من

ص: 199

فافهم (1).

______________________________

حيث كونها ايضا هي الحكاية عن المحكى عنه لا بد ان تكون متاخرة، و ليس لنا في المقام الّا حكاية واحدة، فهذه الحكاية باعتبار كونها محكيا عنها تكون متقدمة، و باعتبار كونها هي بنفسها الحكاية عن المحكى تكون متأخرة، و لا يعقل ان يكون الشي ء الواحد متقدما و متأخرا، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «لا يكاد يحرز بسبب قيام الامارة المعتبرة على حكم انشائي» إلّا احراز الحكم الواقعي تعبدا من دون قيده الشرعي المأخوذ فيه على الفرض و هو أداء الامارة اليه، فالحكم الواقعي الانشائي المفروض كونه هو المقيد شرعا بأداء الامارة لم يحرز بسبب قيام الامارة «لا حقيقة و لا تعبدا» بل لم يحرز بها «الا حكم انشائي تعبدا لا حكم انشائي» مقيد بكونه «أدّت اليه الامارة اما حقيقة فواضح» لعدم كون الامارة مما توجب العلم حتى يحصل بها الاحراز حقيقة «و اما تعبدا فلأن» الاحراز للحكم تعبدا بما هو مقيد باداء الامارة لا يكون إلّا بان تكون قائمة على الحكم بما هو مقيد بأداء نفسها اليه، و ليس لها هذه الإفادة بل «قصارى ما» يستفاد مما «هو قضية حجية الامارة كون مؤداها هو الواقع تعبدا» من دون قيد و «لا» تؤدي الى «الواقع» المقيد بانه «الذي أدت اليه الامارة».

(1) لعله اشارة الى الدقة كما قيل. و يمكن ان يكون اشارة الى ان الشيخ لا يعقل ان يلتزم بان الحكم الواقعي الانشائي هو المقيد شرعا بأداء الامارة، لانه في مقام الجواب عن الاشكالات بناء على جعل الحكم الطريقي و النفسي، و لكنه بناء على جعل الحكم النفسي على طبق مؤدى الامارة كما هو المنسوب الى المشهور لا يتم، لان المشهور يقولون بالحكم النفسي مطلقا سواء أدّت الامارة الى الواقع او لم تؤد اليه، و اذا كان الحكم الانشائي الواقعي هو المقيد باداء الامارة يلزم اجتماع المثلين فيما اذا أدّت الامارة اليه، إلّا ان يكون المشهور يقولون بجعل الحكم على طبق مؤدى الامارة في صورة خطأها و عدم أدائها الى الواقع فقط.

ص: 200

اللهم إلّا أن يقال: إن الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع- الذي صار مؤدى لها- هو دليل الحجية بدلالة الاقتضاء (1)، لكنه لا يكاد يتم إلا إذا لم يكن للاحكام بمرتبتها الانشائية أثر أصلا، و إلا لم تكن لتلك الدلالة مجال، كما لا يخفى (2).

______________________________

و يمكن ان يكون اشارة الى ان ما التزمه المصنف (قدس سره) من الفعلية التعليقيّة لا يتأتى فيه ما ذكرناه في قولنا: فانه يقال، لان الفعلية التعليقيّة و ان كانت مقيدة بأداء الامارة لتكون حتمية، إلّا ان هذا القيد فيها ليس شرعيا بل هو عقلي، لان اداء الامارة وصول عند العقل كما ان العلم وصول، فليس القيد شرعيا حتى يكون الموضوع للفعلية الحتمية هو الحكم الواقعي المقيد شرعا بأداء الامارة ليرد عليها ما اوردناه على الشيخ (قدس سره)، و اللّه العالم.

(1) و حاصله: انه يمكن ان يقال ان المقام من باب احراز كلا جزأي الموضوع بالتنزيل، و ان هناك تنزيلين: تنزيل للحكم الذي هو مؤدى الامارة منزلة الحكم الواقعي، و تنزيل ليس مدلولا للامارة، بل الدال عليه دلالة الاقتضاء و لزوم صون كلام الحكيم عن اللغوية، لانه اذا كان الموضوع مركبا فتنزيل شي ء منزلة احد جزأي الموضوع لا فائدة فيه ما لم يكن الجزء الآخر محرزا بالوجدان او بتنزيل آخر، و حيث لا وجدان و لا علم فلا بد و ان يكون هناك تنزيل آخر يتضمن تنزيل هذه الامارة منزلة الاداء الذي هو القيد للحكم الواقعي، و الى هذا اشار بقوله: «إلّا ان يقال ان الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع الذي صار مؤدى لها» تنزيلا و تعبدا «هو دليل الحجيّة بدلالة الاقتضاء» لا بنفسه على ان هناك تنزيلا آخر يتضمن احراز الجزء الآخر تعبدا او تنزيلا ايضا للزوم صون تنزيل الحكيم عن اللغوية، بعد ان لم يكن لتنزيل احد جزأي الموضوع فائدة من دون تنزيل للجزء الآخر.

(2) و حاصله: ان صون كلام الحكيم عن اللغوية المستلزم اقتضاء لتنزيل الجزء الآخر انما يتم فيما اذا لم يكن لاحراز الحكم الانشائي بما هو انشائي فائدة و اثر

ص: 201

و أخرى بأنه كيف يكون التوفيق بذلك؟ مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق و الاصول العملية المتكفّلة لاحكام فعلية، ضرورة أنه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين، كذلك لا يمكن احتماله.

فلا يصح التوفيق بين الحكمين، بالتزام كون الحكم الواقعي- الذي يكون مورد الطرق- إنشائيا غير فعلي (1)، كما لا يصح بأن الحكمين ليسا في

______________________________

اصلا، عدا كونه و اصلا الى درجة الفعليّة، و اما اذا كان له اثر بما هو حكم انشائي فلا نضطر الى دلالة الاقتضاء صونا لكلامه عن اللغوية، لعدم لزوم اللغوية في هذا التنزيل المتضمن لتنزيل المؤدى منزلة الحكم الواقعي الانشائي، و الى هذا اشار بقوله:

«لا يكاد يتم الى آخر الجملة».

إلّا ان يقال: ان الاثر للحكم الانشائي اذا لم يكن هو بلوغه الى درجة الفعلية ليترتب عليه الامتثال لا يكون اثر له الا فيما اذا تعلق النذر باحرازه بما هو حكم انشائي، فتكون هذه الاهمية في جعل الامارة لا ثمرة لها الا في مقام تعلق النذر و شبهه، و هو بعيد جدا بل مقطوع بعدمه فلا مناص عن دلالة الاقتضاء.

(1) و حاصله: ان الالتزام بان هناك احكاما انشائية مقيدة باداء الامارة اليها لا يمنع عن احتمال ان يكون هناك احكام فعليّة واقعية، و اذا احتملنا وجود احكام فعليّة واقعية في مورد الاصول و الامارات مع جعل الحكم النفسي الفعلي على طبق مؤداهما يكون لازمه احتمال اجتماع الحكمين الفعليين، و من الواضح ان احتمال اجتماع الحكمين الفعليين من احتمال المحال، و المحال لا بد و ان يكون مقطوعا بعدمه، فاحتماله كالقطع به محال.

و الحاصل: ان الذي يلتزم بالحكم الانشائي في مقام الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي انما هو للفرار عن اجتماع الحكمين المتنافيين اما من حيث التماثل او التضاد، و لا يمكنه ان يتخلص من هذا المحذور إلّا بالالتزام بانه لا يحتمل في مورد جعل الحكم الظاهري حكم فعليا واقعيا اصلا، لان احتمال وجود الحكم الفعلي

ص: 202

الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري بتعدّد الرتبة

مرتبة واحدة بل في مرتبتين، ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين، و ذلك لا يكاد يجدي، فإن الظاهري و إن لم يكن في تمام مراتب الواقعي، إلا أنه يكون في مرتبته أيضا. و على تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة (1)، فتأمل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق، فإنه دقيق و بالتأمل حقيق.

______________________________

احتمال اجتماع المتنافيين، و المتنافيان لا بد و ان يكون مقطوعا بعدهما، بخلاف ما التزمناه من الجمع بالفعلي التعليقي و الحتمي، و الى هذا اشار بقوله: «ضرورة انه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين كذلك لا يمكن احتماله».

(1) هذا وجه آخر للجميع بين الحكمين، و يظهر من القائل به انه يدفع التنافي بين الحكمين الواقعي و الظاهري النفسي مع الالتزام بفعليتهما معا.

و تقريبه: ان الحكم الواقعي موضوعه نفس عنوان الشي ء من دون تقيّده بعلم او جهل، و لا اطلاق له ناظر اليهما، اذ لا يعقل ان يكون الحكم الواقعي ناظرا الى الجهل به و العلم به لانهما يتاخران عنه، لوضوح ان الجهل بالحكم لا تحقق له الا حيث يكون هناك حكم ثم يجهل به، و مثله العلم به، فالحكم الواقعي لا نظر له الى الجهل به و لا الى العلم به، و إلّا لزم الخلف لان العلم طريق محض اليه، و لو كان الحكم مقيدا بالعلم لكان قبل العلم به لا حكم، و هو خلاف فرض كون هناك حكم اصابه العلم ام أخطأه كما مرّ بيان ذلك في مباحث القطع. و لا بد ايضا ان تكون المصلحة الداعية له كذلك لا تمنع عن المصلحة المقيدة بالجهل به، لكون الحكم لا بد و ان يكون على طبق المصلحة الداعية له، فاذا كان الحكم الواقعي لا يعقل ان يكون ناظرا الى الجهل به فلا بد و ان تكون مصلحته كذلك.

و اما الحكم الظاهري فهو متأخر عن الحكم الواقعي بمرتبتين لتاخر الحكم عن موضوعه و قد اخذ في موضوع الحكم الظاهري الجهل بالحكم الواقعي، فهو متأخر عن الجهل بالحكم الواقعي، و الجهل بالحكم الواقعي متاخر عن الحكم الواقعي كما

ص: 203

.....

______________________________

عرفت، فالحكم الظاهري متاخر عن الجهل المتأخر عن الحكم الواقعي فهو متاخر عنه بمرتبتين.

و من الواضح ايضا انه لا مانع من ان يكون للموضوع الذي له حكم واقعي مصلحة اخرى مقيدة بالجهل به، تقتضي هذه المصلحة المقيدة بالجهل بالحكم الواقعي حكما آخر على خلاف الحكم الواقعي، و لا تمانع بينهما اصلا لا بين الحكمين و لا بين المصلحتين.

اما عدم مانعية الحكم الواقعي عن الحكم الظاهري فلانه غير ناظر اليه، و اما عدم مانعية مصلحة الحكم الواقعي فلما عرفت من ان الحكم الواقعي لا بد و ان يكون على طبق مصلحته، و لما لم يكن هو مانعا فلا بد و ان تكون مصلحته ايضا غير مانعة.

و اما عدم مانعية الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي فواضح، لتاخره عنه بمرتبتين و لا يعقل ان يكون المتأخر مانعا عن المتقدم عليه، و مصلحته كذلك لما مرّ من كونها مقيدة بالجهل ايضا فلا تكون مانعة عن المصلحة غير المقيدة بالجهل، و الى هذا اشار بقوله: «بان الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين» كما مرّ تقريبه موضحا.

و الجواب عنه: ان الحكم الظاهري و ان كان متاخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين و ليس في مرتبته حتى يكون مانعا عنه، الّا ان الحكم الواقعي يكون في مرتبة الحكم الظاهري فيكون مانعا عنه، و لا فرق بين ان يكون التمانع من طرف واحد او من طرفين، فالحكم الظاهري لا يمنع الحكم الواقعي و لكن الحكم الواقعي يمنعه، و اذا كان الحكم مانعا عن الحكم الظاهري فلا يعقل فعليتهما معا.

اما مانعية الحكم الواقعي عن الحكم الظاهري المتأخر عنه، فلوضوح ان تقدم الحكم الواقعي تقدّم طبعيّ، و المتقدم بالطبع على شي ء لا مانع من اجتماعه مع المتأخر عنه بالطبع، فان الواحد متقدم بالطبع على الاثنين و لا مانع من اجتماعه معه، بل ربما في مقام الوجود يقترنان زمانا، و مع ذلك فالواحد متقدم بالطبع و ان الاثنين

ص: 204

.....

______________________________

متأخر بالطبع، لان ملاك التقدم الطبعي موجود في الواحد و هو انه يمكن ان يوجد الواحد و لا اثنان، و ملاك التأخر متحقق في الاثنين لعدم امكان ان يوجد الاثنان و لا وجود للواحد، فالمتقدم بالطبع يكون موجودا مع المتأخر عنه.

و اما كون الحكم الواقعي غير ناظر اليه ففيه اولا: ان التمانع مربوط باجتماعهما في الوجود لا في النظر و الاطلاق.

و ثانيا: ان الحكم الواقعي و ان كان ليس له اطلاق نظري بالنسبة الى الحكم: أي في مرحلة التصور و النظر، و لكنه له اطلاق طبعي بمعنى انه حيث لم يكن الحكم الواقعي مقيدا بالجهل و لا بالعلم فهو في حال الجهل موجود كوجوده في حال العلم، كما ان المفروض في هذا الجمع كون الحكم الواقعي فعليا، فهو حكم فعلي موجود في حال وجود الحكم الظاهري، و وجوده و فعليته تلازم كونه مانعا عن فعلية الظاهري.

و اما كون الشي ء يمكن ان تكون له مصلحة مقيدة بالجهل بالحكم الواقعي مقتضية لجعل حكم على خلافه، فان كان مراده انه تكون له مصلحة مقيدة بالجهل بالحكم الواقعي غير الفعلي فلا مانع عن ذلك لكنه خلاف الفرض، و ان اراد ان له مصلحة مقيدة بالجهل بالحكم الواقعي الفعلي فأصل ثبوت مصلحة كذلك لا مانع عنها ايضا، إلّا انها لا يعقل ان تكون موجبة للحكم الظاهري، لوضوح ان ايجابها لذلك ايجاب لما له المانع، و ما له المانع لا يعقل أن يوجبه شي ء، و الى هذا اشار بقوله: «و ذلك لا يكاد يجدي» أي تأخر الحكم الظاهري عن الحكم الواقعي بمرتبتين غير مجد في رفع مانعية فعلية الحكم الواقعي عن الاجتماع مع فرض فعلية الحكم الظاهري ايضا «فان الحكم الظاهري و ان لم يكن في تمام مراتب» الحكم «الواقعي» لفرض تقيده بالجهل المتأخر رتبة عن الحكم الواقعي «إلّا انه يكون» الحكم الواقعي «في مرتبته» أي في مرتبة الحكم الظاهري «ايضا» لوضوح فرض وجود الحكم الواقعي

ص: 205

تأسيس الاصل في الشك في الحجيّة

ثالثها: إن الاصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا و لا يحرز التعبّد به واقعا، عدم حجيته جزما، بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعا، فإنه لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية فعلا، و لا يكاد يكون الاتصاف بها، إلا إذا أحرز التعبد به و جعله طريقا متبعا، ضرورة أنه بدونه لا يصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد إصابته، و لا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها، و لا يكون مخالفته تجريا، و لا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا، و إن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته، فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته و عدم ترتيب شي ء من الآثار عليه، للقطع بانتفاء الموضوع معه (1)، و لعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة

______________________________

و فعليته في حال وجود الحكم الظاهري و فعليته «و على تقدير المنافاة» بين الحكمين الفعليين الموجودين «لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة».

(1) لا يخفى ان الظاهر من قوله: «الاصل فيما لا يعلم اعتباره» عدم حجيّته هو كون عدم الحجية للمشكوك في حجيته انما هي ببركة الاصل و هو استصحاب عدم حجيته، و لكن المتحصّل من ذيل عبارته و هو قوله: «فمع الشك في التعبد به يقطع بعدم حجيته» هو كون الشك في الحجية كافيا في القطع بعدم ترتب آثارها و لا حاجة الى استصحاب عدم الحجية لعدم ترتيب آثارها.

و توضيحه: انه قد مرّ ان الحجيّة مما يمكن اعتبارها بالخصوص، و آثارها هي آثار القطع التنجيز عند الاصابة و العذر عند الخطأ، و ان موافقتها بما هي موافقة لها انقياد و مخالفتها بما هي مخالفة لها تجر، و من الواضح ايضا ان هذه الآثار الاربعة انما هي للحجية الواصلة، اما الحجية غير الواصلة فلا يترتب عليها شي ء من هذه الآثار اصلا، فالحجية المنشأة ما لم تحرز اما بالعلم او بقيام الطريق المقطوع اعتباره عليها لا تكون واصلة فليس لها اثر اصلا.

ص: 206

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: ان الحكم المجعول أو آثاره اللاحقة له بواسطة الجعل اما ان تكون لاحقة لذاته كالحكم الواقعي اللاحق للموضوع باعتبار مصلحته او مفسدته.

او تكون لا حقة لخصوص العلم به أو احرازه كالرخصة في التصرف في اموال الغير المنوطة كما يستفاد من ادلتها، كما يقال بانها مشروطة بالعلم بالرضا و مع الشك في الرضا لا يجوز التصرف قطعا في مال الغير، فحال الشك في الرضا حال العلم بعدم الرضا في عدم جواز التصرف بمال الغير واقعا، و الآثار الاربعة للحجية هي من قبيل الثاني، فانها آثار للحجيّة المحرزة اما بالعلم او بالطريق المقطوع الاعتبار فهي آثار للحجية الواصلة، و من الواضح انه لا وصول مع الشك في الحجية، فمع الشك فيها يقطع بعدم ترتب آثارها و لا حاجة الى التعبد باستصحاب عدم الحجية لنفي ترتب آثارها، لان الموضوع لها هي الحجية الفعلية لا الحجية الانشائية، فالموضوع للحجية الفعلية مركب من جعل الحجية و الوصول، و من البديهي ان المركب ينتفي بانتفاء احد اجزائه، و قد عرفت انه مع الشك في الحجية لا وصول لها، فأحد اجزاء هذا المركب منتف فلا مورد لترتب الآثار التي كان الموضوع فيها مركبا و قد انتفى احد اجزائه، و قد اشار الى ان هذه مرتبة على الحجية الواصلة دون الحجية المنشأة غير الواصلة بقوله: «فانها لا تكاد تترتب الا على ما اتصف بالحجية فعلا» و لا تكون الحجية حجية بالفعل إلّا اذا كانت واصلة، و لذا قال: «و لا يكاد يكون الاتصاف بها إلّا اذا احرز التعبد به» اما بالعلم او بالطريق المقطوع الاعتبار فانه وصول و احراز تعبدي كالاحراز العلمي، و قد اشار الى ان الآثار الاربعة للحجية بقوله: ف «انه بدونه لا تصح المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرد اصابته» و هذا هو التنجيز عند الاصابة، و بقوله: «و لا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها» و هذا هو الاثر الثاني و هو العذر لو اخطأ الطريق الذي قد وصلت حجيته، و بقوله:

«و لا تكون مخالفته تجريا» الى الاثر الثالث و هو كون مخالفته بما هي مخالفة تجريا

ص: 207

برهان (1).

______________________________

و ظلما و هتكا لحرمته، و بقوله: «و لا» تكون «موافقته بما هي موافقة انقيادا» الى الاثر الرابع و هي كون موافقته بما هي موافقة له انقيادا و التزاما برسوم العبودية.

و قوله: «و ان كانت الى آخر الجملة» اشارة الى ما مرّ منه في كون موافقة المحتملات و الاتيان بالشي ء برجاء الواقع من افضل مراتب الطاعة لكنها ليست موافقة للتكليف بما هي موافقة منبعثة عن امره بنفسه، بل هي منبعثة عن احتماله لا عن نفسه.

و قد اشار الى عدم الحاجة الى الاستصحاب لنفي هذه الآثار و ان الشك بنفسه موجب للقطع بعدمها و ان الشك في الحجية كالقطع بعدم الحجيّة بقوله: «فمع الشك في التعبد به» أي في التعبد بالطريق المشكوك حجيته «يقطع بعدم حجيته و عدم ترتيب شي ء من الآثار» الاربعة «عليه» و قد اشار الى ان السبب في ذلك هو كون موضوع هذه الآثار هو المركب من الجعل للحجية مع الوصول، و انه مع الشك في الحجية لا وصول فينتفي المركب بانتفاء احد اجزائه بقوله: «للقطع بانتفاء الموضوع معه» أي مع عدم الاحراز.

(1) لا يخفى وضوح ما ذكره بناء على ان المجعول هي الحجيّة، و اما بناء على ان المجعول هو الحكم الطريقي او الحكم النفسي فاحتياج نفيه الى استصحاب العدم لازم لانه كسائر الاحكام المشكوك فيها، و لو كان الشك فيها كافيا في عدمها من دون حاجة الى اصل من الاصول كالبراءة الشرعية او استصحاب العدم للزم ان لا مجرى لهما في كافة الاحكام المشكوكة في الشبهة الحكمية، و هو مما لا يمكن الالتزام به، مضافا الى امكان جعل الاحتياط في موردها، و ما كان مجال لجعل الاحتياط فيه كان امر وضعه و رفعه بيد الشارع فلا مانع من الرجوع الى الاصول الدالة على رفعه، فتامل.

ص: 208

و أما صحة الالتزام بما أدى إليه من الاحكام، و صحة نسبته إليه تعالى (1)، فليسا من آثارها، ضرورة أن حجية الظن عقلا- على تقرير

______________________________

(1) توضيحه: ان مسلك المصنف في تأسيس الاصل ما مرّ: من ان الحجية لها آثار اربعة، و هي مرتبة على الحجية المحرزة بنحو من انحاء الاحراز لا على نفس الحجيّة، ففي مقام الشك في الحجيّة يقطع بعدم ترتب الآثار، و مع القطع بعدم ترتبها في حالة الشك لا وجه لاستصحاب عدم الحجيّة، اذ لا بد من اثر ليكون الاستصحاب جاريا بلحاظه، و حيث كان في حال الشك في الحجيّة يكون عدم الاثر مقطوعا به، فلا يكون أثر لاستصحاب عدم الحجية حتى يكون جاريا بلحاظه.

و للشيخ الاعظم طريق غير هذا في نفي الآثار عند الشك.

و حاصله: ان معنى حجية التعبد بالظن و الطرق غير العلمية و وجوب العمل بها ليس هو إلّا وجوب الالتزام بمؤداها و الاستناد اليه قلبا، و صحة اسناد مؤداها الى الشارع بما انه حكمه و تشريعه فللحجيّة اثران: الاستناد الى المؤدى قلبا، و اسناده الى الشارع قولا، و هذان الأثران يترتبان على الظن الذي قام الدليل على حجيته، اذ ليس معنى حجيته الّا هذين الامرين.

و اما الظن الذي لم يقم الدليل على حجيّته فيحرم الالتزام بمؤداه و الاستناد اليه، و يحرم اسناده اليه بالادلة الاربعة كتابا و سنة و اجماعا و عقلا.

اما الكتاب فقوله تعالى: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ 17] و الاستدلال بها هو ان المراد من الاذن هو بيانه الواصل، و مع عدم الوصول تكون النسبة اليه تبارك و تعالى افتراء، و الاستفهام الانكاري دال على حرمة الافتراء و هو نسبة ما لم يصل اليه تعالى، فهذه الآية قد دلت على حرمة الاسناد لما لم يصل، و انه من الافتراء و هو محرم، و بحكم الملازمة بين حرمة الاسناد اليه و حرمة الاستناد و الالتزام

ص: 209

.....

______________________________

به بما انه حكمه تعالى تدل على حرمة الاستناد قلبا، فهي دالة بالمطابقة على حرمة الاسناد قولا، و بالملازمة على حرمة الاستناد قلبا.

و اما السنة فقوله عليه السّلام: (و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم)(1) في مقام تعداد قضاة الباطل، فانه ظاهر في حرمة الالتزام بالحق غير الواصل و ان كان حقا في الواقع، بقرينة قوله و هو لا يعلم و ان القضاء به من القضاء الباطل المحرم، و بالملازمة بين حرمة الالتزام و حرمة الاسناد اليه حرمة يثبت حرمة الاسناد اليه ايضا، فهو دال بالمطابقة على حرمة الالتزام و بالملازمة على حرمة الاسناد.

و اما الاجماع فقد ادعي في كلمات جماعة على حرمة الالتزام و الاسناد معا.

و اما العقل فلحكم العقل بقبح الالتزام و هو عقد القلب على ما لا يعلم انه حكم اللّه بانه حكم اللّه، لانه تصرف في سلطانه، لان لازم الالتزام به هو البناء على تحققه، و البناء على تحقق ما يرجع اليه تعالى من دون علم به تصرف فيما يختص به عزّ و جل، و هو ظلم له فهو قبيح.

و لا يختص التشريع بخصوص الاتيان للشي ء بعنوان انه حكم اللّه، بل يعم نفس البناء و عقد القلب عليه ايضا، و بعد ثبوت قبحه عند العقل يكون محرما شرعا بالملازمة بين ما حكم به العقل و ما حكم به الشرع، و اذا ثبتت حرمة الالتزام تثبت حرمة الاسناد اليه تعالى بالملازمة، مضافا الى ان نفس الاسناد افتراء و هو محرم كالكذب.

و اذا تم هذا من كون وجوب الالتزام و صحة الاسناد من آثار الحجية الواصلة، بل هو نفس الحجية بناء على مسلك الشيخ من انكار الحكم الوضعي و انه عبارة عن الحكم التكليفي- فمعنى الحجية هو وجوب الالتزام و صحة الاسناد للحكم الواصل، فما لا يعلم به ليس بواصل فيحرم الالتزام به و اسناده، فلا بد و ان لا يكون حجة

ص: 210


1- 18. ( 1) وسائل الشيعة: ج 18، ص 11/ 6، باب 4 من أبواب صفات القاضي.

الحكومة في حال الانسداد- لا توجب صحتهما، فلو فرض صحتهما شرعا مع الشك في التعبد به لما كان يجدي في الحجية شيئا ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها، و معه لما كان يضر عدم صحتهما أصلا، كما أشرنا إليه آنفا. فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد، و عدم جواز الإسناد إليه تعالى غير مرتبط بالمقام، فلا يكون الاستدلال عليه بمهم، كما أتعب به شيخنا العلامة- أعلى اللّه مقامه- نفسه الزكية، بما أطنب من النقض و الابرام، فراجعه بما علقناه عليه، و تأمل.

و قد انقدح- بما ذكرنا- أن الصواب فيما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير الاصل، فتدبر جيدا (1).

______________________________

بالفعل فتنتفي الحجية بالفعل بثبوت آثار عدمها، و هذا معنى كون الاصل فيما شك في حجيته هو عدم حجيته.

(1) و الجواب عنه: ان صحة الالتزام و الاسناد ليسا من آثار الحجية، و انما آثارها هي الامور الاربعة المذكورة: من التنجيز و التعذير و الانقياد و التجري كما تقدم بيانها، و اذا لم يكن الالتزام و الاسناد من آثار الحجية فلا وجه لاثبات عدم الحجية بنفي وجوب الالتزام و بعدم صحة الاسناد، اذ لا يثبت عدم الشي ء الا بنفي ما كان من آثار وجوده دون غيرها.

و توضيح كون الالتزام و الاسناد ليسا من آثار الحجية ان نقول: بناء على كون الحجية المجعولة نفس الحكم الوضعي، و هي اعطاء وصف الحجية للامارة بحيث تكون مما يحتج به، فان معنى هذا هو اعتبارها بحيث يترتب عليها الآثار الاربعة: من التنجيز و المعذرية و الانقياد و التجري، و هذا و ان لم يقل به الشيخ (قدس سره) لكنه بناء عليه لا يكون هناك حكم حتى يجب الالتزام به و يصح اسناده.

و بناء على كون الحجية هي جعل الحكم سواء كان هو الحكم الطريقي او النفسي فلا يجب الالتزام و لا يصح الاسناد ايضا، لان الواصل حقيقة هو الحكم

ص: 211

.....

______________________________

الذي أدت اليه الامارة سواء كان طريقيا او نفسيا، و اما الحكم الواقعي فليس بواصل بنفسه.

نعم الحكم الذي أدت اليه الامارة وصل بعنوان انه هو الحكم الواقعي، فما يصح الالتزام به و اسناده هو هذا الحكم الذي أدت اليه بعنوان انه هو الواقع، و هذا في الحقيقة التزام و اسناد للحكم الظاهري. و اما الحكم الواقعي بما هو واقعي فلا يصح الالتزام به و لا اسناده لعدم وصوله، و الغرض مما ذكره و استدل على حرمة الالتزام به و اسناده ما يرجع الى الحكم الواقعي، و الحكم الواقعي سواء ثبتت الحجية ام لم تثبت لا يجوز الالتزام به و لا يصح اسناده، و اذا كان مع ثبوت الحجية لا يترتب جواز الاسناد و لا وجوب الالتزام بالنسبة الى الحكم الواقعي، فلا معنى لاستكشاف عدم الحجية بعدهما، مضافا الى ان صحة الاسناد اليه انما هو من آثار العلم بالحكم دون الحكم لانه صدق، و عدم صحة الاسناد في حال العلم بعدم الحكم من آثار العلم بالعدم لانه كذب، و عدم صحة الاسناد في حال الشك لانه افتراء و هو خصوص نسبة الشي ء الى من لا يعلم انه منه، و كون الاثر من آثار العلم بالشي ء و العلم بعدمه و الشك فيه غير كونه من آثار نفس الشي ء، بخلاف ما مر من الآثار فان التنجيز و التحريك لنفس الحكم غايته ان الشرط في كونه محركا و باعثا هو العلم، و اما الصدق و الكذب و الافتراء فهي من آثار نفس العلم و العلم بالعدم و الشك.

هذا كله مضافا الى ما اشار اليه المصنف من كون صحة الالتزام و الاسناد ليستا من آثار الحجية أولا: بان الحجية تتحقق و لا يصح الالتزام و الاسناد كما في حجية الظن الانسدادي على الحكومة، فانه بناء على الحكومة يكون حال الظن حال القطع من دون وجود حكم في البين، لان نتيجة الانسداد بناء على الحكومة هو حكم العقل بان للظن- بعد تمامية مقدمات الانسداد- ما للقطع من الآثار، و العقل ليس بمشرع للاحكام الشرعية فليس في البين حكم شرعي لا واقعي و لا ظاهري.

ص: 212

.....

______________________________

و اذا كانت الحجية موجودة و لا يصح الالتزام بحكم و لا اسناد حكم اليه تعالى- تبين ان صحة الالتزام و الاسناد ليسا من آثار الحجية فلا وجه لاستكشاف عدمها بنفيها، و الى هذا اشار بقوله: «ضرورة أن حجية الظن عقلا على تقرير الحكومة في حال الانسداد» لازمها كون الظن كالقطع في هذا الحال، و ليس هناك حكم اصلا لا واقعا لفرض عدم العلم به، و لا ظاهرا لعدم الجعل الشرعي على الحكومة، فعلى الحكومة لا حكم حتى يصح اسناده و الاستناد اليه، و لذا قال (قدس سره): «لا توجب صحتهما» أي حجية الظن على الحكومة لا توجب صحة الاسناد و لا صحة الاستناد، و هذا كاشف عن ان الاسناد و الاستناد ليسا من آثار الحجية.

ثانيا: ما اشار اليه بقوله: «فلو فرض الى آخره»، و حاصله: انه لو فرضنا قيام دليل شرعي على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي و صحة اسناده اليه في مورد الامارة فقط من دون دلالة لذلك الدليل على ثبوت الآثار الاربعة من التنجيز و بقية الثلاثة لما كانت الامارة حجة يجب العمل على طبقها، و لو فرضنا ثبوت ملازمة عرفية بين وجوب الالتزام و صحة الاسناد، و بين ثبوت تلك الآثار فالحجية انما تثبت لتحقق الدليل على آثارها المستلزمة لها، و هذا غير كون نفس وجوب الالتزام و صحة الاسناد من آثارها، و لذا لو فرضنا عدم الملازمة عرفا لما كان ثبوت وجوب الالتزام و صحة الاسناد مما يقتضي حجية الامارة أي وجوب العمل على طبقها.

و لا ينبغي ان يخفى ان فرض قيام الدليل على وجوب الالتزام بحكم اللّه الواقعي و صحة اسناده اليه انما يكون بتوسعة الصدق الجائز شرعا الى ما يشمل مشكوك الصدق و الكذب، و بتخصيص التشريع القبيح عقلا و شرعا بخصوص ما علم انه ليس من الدين، و لا يشمل المشكوك كونه من الدين.

و اما ما ذكره الشيخ (قدس سره): من الاستدلال بالآية فمن الواضح انها تدل على حرمة الافتراء لا على حرمة الالتزام.

ص: 213

إذا عرفت ذلك، فما خرج موضوعا عن تحت هذا الاصل أو قيل بخروجه يذكر في ذيل فصول.

حجية ظواهر الألفاظ

فصل لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة، لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها، لوضوح عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الافادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح (1).

______________________________

و مثلها قوله عليه السّلام: (رجل قضى بالحق و هو لا يعلم) فانها تدل على حرمة ذلك لانها افتراء.

و اما الاجماع فهو مع انه من المنقول محتمل المدرك، و لا حجية للاجماع المنقول لو قلنا بحجيته مع احتمال كون مدركه احد الادلة التي ذكرت.

و اما العقل فغايته هو حكمه بقبح الالتزام لانه تصرف في سلطان المولى، و لا يكون محرما شرعا إلّا بالقول بالملازمة بين ما يحكم به العقل و ما يحكم به الشرع، و هي محل اشكال بل منع، لإمكان ان يكون هناك مصلحة لا يدركها العقل تكون غالبة على القبح الذي ادركه، و من الواضح عدم احاطة العقل بجميع جهات الشي ء، هذا كله مضافا الى ما مر من عدم وجوب الموافقة الالتزامية. و اما حرمة الاسناد فيما لا يعلم انه حكم اللّه فقد عرفت انها لكونها افتراء لا لانه من آثار الحجية.

فاتضح ان مسلك المصنف هو الصواب في تقرير الاصل، و اللّه العالم.

(1) توضيحه: ان العقلاء تارة يكون لهم بناء على قضايا كلية كبنائهم على حسن العدل و قبح الظلم، و في مثل هذا لا حاجة في التمسك بها الى ثبوت عدم الردع عنها لانها قضايا بنى عليها العقلاء حفظا للنظام و ابقاء للنوع، و الشارع رئيس العقلاء.

نعم للشارع بما هو شارع و مطلع على حقايق الاشياء في مقام تطبيق هذه الكلية على

ص: 214

.....

______________________________

المصاديق الخارجيّة حق الرفع و الوضع الكاشف عن وجود مصالح و مفاسد يخفى ادراكها على العقلاء، فلا يكون حكمه بخلافها ظاهرا تخصيصا لها، بل يكون من قبيل التخصّص بحيث لو اطلع العقلاء لعرفوا ان الموارد الخارجة قد زوحمت القاعدة فيها بما يخرجها عن كونها مصداقا لها، كحكمه بقطع يد السارق إزاء سرقته لمقدار لا يدرك العقلاء المصلحة الموجبة للقطع فيه.

و اخرى: يكون للعقلاء بناء على الاخذ بشي ء لحاجتهم اليها في مقام ترتيب عملهم عليه كمثل اخذهم بظواهر الالفاظ، و في مثل هذا لا بد من إمضاء للشارع لهذه الطريقة العقلائية، و انما كانت هذه محتاجة الى الامضاء دون الاولى لوضوح ان بناءهم على الاخذ بالظاهر ليس من باب ابقاء النوع و حفظ النظام، و ليس لقيام برهان عقلي عندهم يلزم بالاخذ بها، فللشارع ان يخترع طريقة اخرى، فلذا كانت محتاجة إلى إمضاء من الشارع لهذه الطريقة، و انه ليس له طريقة غير طريقة العقلاء في هذا البناء.

و لإحراز امضاء الشارع بما هو شارع طريقان:

- الاول: ان ينصّ على الامضاء.

- الثاني: ان تكون طريقتهم بمرأى منه و مسمع فلم يردع عنها، و استكشاف عدم ردعه في المقام بوجهين:

الاول: ان للشارع كلاما له ظاهر يتضمن احكاما و غيرها، فلو كان له طريق في إرادة خلاف ما هو ظاهر كلامه للزمه البيان لطريقته الخاصة التي بها تفهم احكامه و غيرها من قصص و حكايات، و من الواضح انه ليس للشارع طريقة يختص بها في افهام كلامه المتضمن للاحكام و غيرها، فهذا دليل واضح كاشف عن ان طريقته هي طريقة العقلاء في الاخذ بالظاهر.

ص: 215

عدم تقييد الظواهر بالظن الفعلي

و الظاهر أن سيرتهم على اتباعها، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلا (1)، و لا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعا، ضرورة أنه لا مجال

______________________________

الثاني: انه لو تحقق منه ردع لنقل الينا بالتواتر، اذ الاخذ بظواهر الالفاظ اعظم مورد للابتلاء، فلو كان للشارع طريقة غير الاخذ بالظاهر لنقل بالتواتر، و حيث لم يكن لنقل الردع عين و لا اثر كان ذلك كاشفا قطعيا عن امضائه للطريقة العقلائية.

و قد اشار هنا الى الوجه الاول بقوله: «لوضوح عدم اختراع طريقة اخرى في مقام الافادة لمرامه»، و ستأتي الاشارة منه الى الوجه الثاني في طي هذا الجزء ايضا.

قوله (قدس سره): «بالجملة الخ» انما قال في الجملة لان الغرض اثبات ان للعقلاء بناء على الاخذ بالظاهر، اما انه هل هو مقيد عندهم بافادته للظن، او مقيد بعدم الظن على الخلاف، او انه مخصوص بمن قصد افهامه، او دعوى اختصاص خصوص ظواهر الكتاب بالنبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الائمة عليهم السّلام فسيأتي التعرض لها واحدا واحدا و انه غير مقيد بشي ء منها.

(1) بعد ما عرفت من تحقق بناء العقلاء على العمل بالظواهر و ثبوت الامضاء له، وقع الكلام في مقامات:

الاول: ما اشار اليه بقوله: «الظاهر ان سيرتهم على اتباعها» أي اتباع الظهورات «من غير تقييد بافادتها للظن فعلا» المراد من الظن الفعلي هو الظن الشخصي، لوضوح كون الظواهر مما تفيد الظن النوعي، مضافا الى كون الظن النوعي لا يلزم ان يكون ظنا فعليّا، فلا بد و ان يكون المقيد بالفعلية هو الظن الشخصي.

و الظاهر من سيرة العقلاء في الاخذ بالظواهر هو عدم تقيدها بافادة الظن الشخصي، و لذا لا يقبل اعتذار العبد في عدم الاخذ بما له ظهور في انه لم يحصل له منه الظن.

ص: 216

عدم تقييد الظواهر بالظن بالخلاف

عندهم للاعتذار عن مخالفتها، بعدم إفادتها للظن بالوفاق، و لا بوجود الظن بالخلاف (1).

______________________________

و لعل السبب في بنائهم على عدم تقييد الظواهر بافادتها للظن الشخصي ان الظن مما لا سبيل اليه الا من قبل نفس مدّعيه، فيبطل الغرض الداعي لبنائهم على الاخذ بالظهور الذي عليه يقوم نظام الاجتماع.

و ما يقال: من انه لا اشكال في كون الظهور ليس للعقلاء بناء عليه في مقام العلم، سواء كان العلم على وفاق الظهور او على خلافه، و هو ايضا مما لا سبيل اليه فلا يكون الداعي لعدم تقييدهم لها بالظن هو كونه مما لا سبيل اليه الّا من قبل مدّعيه.

فانه يقال: فرق بين العلم و الظن بالوفاق، فان الظهور لا قابلية نوعية فيه لافادة العلم لاحتمال الغفلة او الخطأ، بخلاف الظن بالوفاق فان الظهور كثيرا ما يفيد الظن الشخصي لوهن احتمال الغفلة او الخطأ، و لا قابلية نوعية للظهور لافادة العلم، فالعلم دائما يكون حاصلا من الخارج لا من نفس الظهور، فكان مجال لاحتمال تقيد الظهورات به بخلاف العلم.

(1) هذا هو المقام الثاني و هو انه هل ان بناء العقلاء على الاخذ بالظهور مقيد بعدم قيام الظن الشخصي على خلافه، او انه غير مقيد بذلك و ان بناءهم على الاخذ بالظهور و ان كان ظن شخصي على خلافه؟

و قد استدل المصنف على عدم تقيد بنائهم بذلك بنفس الدليل السابق على عدم تقيده بالظن بالوفاق: و هو ان الظاهر من سيرتهم الاخذ به و ان كان هناك ظن شخصي على خلافه، و لذا لا يصح الاعتذار عن الاخذ بالظهور بحصول الظن على الخلاف، و قد اشار الى عدم تقيد الظهور عند العقلاء لا بالظن بالوفاق و لا بعدم الظن على الخلاف جامعا بينهما بهذا الدليل الدال على عدم تقيده بهما بقوله:

«ضرورة انه لا مجال عندهم للاعتذار الى آخر الجملة» و قد ذكر غير المصنف

ص: 217

عدم اختصاص حجيّة الظهور بمن قصد افهامه

كما أن الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه، و لذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى، من تكليف يعمه أو يخصه، و يصح به الاحتجاج لدى المخاصمة و اللجاج، كما تشهد به صحة الشهادة بالاقرار من كل من سمعه و لو قصد عدم إفهامه، فضلا عما إذا لم يكن بصدد إفهامه (1)، و لا فرق في ذلك بين الكتاب المبين و أحاديث سيد المرسلين و الائمة الطاهرين.

______________________________

دليلا آخر على عدم تقييد بنائهم بعدم الظن على الخلاف، و ملخصه: ان عدم الظن بالخلاف لا يعقل ان يكون جزء المقتضي و لا يعقل ان يكون شرطا من باب كون عدم المانع من شرائط تأثير المقتضي.

اما معقولية كونه جزء المقتضي فلانه عدمي، و العدم لا يعقل ان يكون مؤثرا و لا شريكا في التأثير، اذ لا يعقل ان يترشح الوجود من العدم لا بنحو الاستقلال و لا بنحو أن يكون جزءا من المؤثر.

و اما عدم معقولية كونه شرطا من باب عدم المانع، لوضوح ان المانع عن تاثير الحجة لا بد و ان يكون حجة، فلا بد من فرض حجية الظن بالخلاف حتى يكون الظن بالخلاف حجة مزاحمة فيكون عدمه شرطا، لبداهة اشتراط الحجة بعدم قيام حجة على خلافها، و هذا خلف لان المدعي يدعي كون عدم الظن بالخلاف شرطا مع فرض عدم حجية الظن القائم على خلاف الظهور، فتامل.

(1) هذا هو المقام الثالث و هو انه هل يختص حجية الظهور بمن قصد افهامه ام لا؟

و قد ذهب المحقق القمي (قدس سره) الى اختصاص حجية الظهور بمن قصد افهامه.

و مختار المصنف وفاقا للاكثر هو الثاني.

ص: 218

.....

______________________________

و غاية ما يمكن ان يقال في تقريب اختصاص حجية الظهور بمن قصد افهامه دون غيره: ان استعمال المتكلم اللفظ في المعنى انما هو لاجل كون المتكلم يريد افهام المعنى به، فاذا كان مخاطبا لشخص فيكون قصده إفهامه للمعنى باللفظ، فعليه ان يكون كلامه الملقى الى من قصد افهامه وافيا بغرضه، و اذا لم يكن وافيا بذلك كان ناقضا لغرضه، فلو نصب قرينة خاصة يفهمها خصوص من قصد افهامه دون غيره لا يكون ناقضا لغرضه، فاذا احتملنا ان يكون هناك قرينة حالية او مقالية و لكنها قد سقطت من الكلام بعد ان فهم منها المقصود بالافهام المعنى المراد بها لا يكون ذلك الكلام حجة لغير المقصود بالافهام، لعدم لزوم نقض الغرض من المتكلم بالنسبة اليه، لانه غير مقصود بالافهام.

و الجواب عنه، اولا: بان للمتكلم ثلاث ارادات: ارادة استعمالية و هي افناء اللفظ في المعنى الذي كان اللفظ قالبا له و وجودا تنزيليا بالنسبة اليه.

و ارادة تفهيمية: و هي قصد افهامه المعنى باللفظ.

و ارادة جدية: و هي كون المتكلم مريدا جدا لهذا المعنى الذي كان اللفظ قالبا له و اريد افهامه باللفظ.

و قد قام بناء العقلاء على ان اللفظ الذي هو قالب لمعناه و وجود تنزيلي له هو المراد بالارادة الاستعمالية و هو المراد ايضا بالارادة التفهيمية و بالارادة الجدية، و هذا البناء منهم مرجعه اللفظ و المعنى و غير مربوط بالمقصود بالافهام و غيره، اما في الارادة الاستعمالية و الارادة الجدية فواضح، و اما في الارادة التفهيمية فلان المراد منها افهام المعنى باللفظ من دون تقييد لذلك بخصوص من قصد بالكلام و القي اليه، و لذا لا نرى العقلاء يفرقون في بنائهم على كون المتكلم اراد افهام المعنى باللفظ بين من القي اليه الكلام و بين غيره.

و الحاصل: ان قبح نقض الغرض عند العقل انما هو بالنسبة الى هذه الارادات الثلاث كلها، فانه لو استعمل اللفظ في غير ما هو قالب له كان ناقضا لغرضه، و كذا

ص: 219

.....

______________________________

لو لم يرد افهام المعنى باللفظ كان ناقضا لغرضه، و لو كان غير مريد جدا كان ناقضا لغرضه ايضا، فمورد نقض الغرض عند العقل غير المقامات الثلاثة التي قام بناء العقلاء على ارادتها للمتكلم.

و يدل على انه لا يختص حجية الظهور بمن القي اليه الكلام انه كثيرا ما يكون المقصود بالافهام غير من القي اليه الكلام و هو إياك اعني و اسمعي يا جارة.

إلّا ان يقال ان مراد من خصص حجية الظهور بالمقصود بالافهام ليس هو خصوص من القي اليه الكلام، بل من اريد افهامه سواء كان هو أو غيره، ففي مثل: اياك اعني و اسمعي يا جارة لا بد من نصب قرينة يعرفها غير من القي اليه، و هو من يسمع الكلام لا من يخاطب به و يلقى اليه.

و بعبارة اخرى: ان مبنى المتكلمين اذا كان غرضهم على افهام خصوص الملقى اليه الكلام دون غيره ان يتكلموا بكلام ليس له ظهور بين في المعنى بحيث يفهمه كل من سمعه، و لذا يؤخذون باعترافاتهم الدالة على معانيها، و ان القوا كلامهم الى شخص خاص بحيث منعوا ان يسمع كلامهم غيره و لكنه سمعه غيره من باب الصدفة، و ليس لهم ان يعتذروا بان السامع غير مقصود بالافهام، و هذا يدل على ان الارادة التفهيمية مرجعها افهام المعنى باللفظ من دون تقييد لها بالملقى اليه الكلام، و الى هذا اشار بقوله: «الظاهر هو عدم اختصاص ذلك بمن قصد افهامه الى آخر كلامه».

و ثانيا: ان الكلام في حجية الظواهر في علم الاصول الذي كان الغرض منه هو الاستنباط للاحكام انما هو في الكلام الصادر من الشارع المتضمن لاحكام لا تخص الملقى اليه الكلام بل تعمه و غيره، فليس للشارع ان يخص الملقى اليه الكلام بقرينة لا يفهمها الا هو، مع كون الغرض شمول الحكم المتضمن له الكلام له و لغيره، و اذا كان في الكلام مثل تلك القرينة لغرض يدعو اليها كالتقية مثلا، فعلى المبلغ لكلامه ان يذكرها لغيره لفرض دخوله معه في ذاك الحكم، و إلّا كان خيانة منه، و فرض غفلته عن ذلك خروج عن محل الكلام، بل هو في باب احتمال القرينة.

ص: 220

أدلة المحدثين على عدم حجيّة ظواهر الكتاب

و إن ذهب بعض الاصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب (1)، إما بدعوى اختصاص فهم القرآن و معرفته بأهله و من خوطب به، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة و قتادة عن الفتوى به (2).

______________________________

(1) هذا هو المقام الرابع، و هو دعوى بعض اصحابنا الاخباريين باختصاص حجية ظواهر الكتاب الكريم بخصوص النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الائمة الطاهرين، و لا حجيّة لظواهر الكتاب بالنسبة الى غيره، فلا يصح من غيرهم التمسك بظواهره.

(2) لا يخفى ان المنقول عنهم في مقام الاستدلال على عدم حجية ظواهر الكتاب لغير النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و الائمة عليهم السّلام اكثر مما ذكره في الكتاب، الّا ان المهم منها هذه الوجوه الخمسة:

اولها: دعوى اختصاص فهم القرآن. لا يخفى ان هذا يمكن ان يرجع الى منع اصل الظهورات الكتابية، و انه ليس للكتاب ظواهر بدعوى: ان بناء العقلاء انما هو في حجية الظهور لمن خوطب به، اما غير المخاطب به فليس للعقلاء بناء على حجيّته.

و من الواضح ان المخاطب بالقرآن هم عليهم الصلاة و السلام، و هذه الدعوى تشبه ما ذهب اليه المحقق القمي في اختصاص الظهور بالمقصود بالافهام.

و يرد عليها، اولا: انه لا وجه لاختصاص هذا بالكتاب، بل لا بد ان يعمّ الاحاديث، بل و كل الظهورات.

و ثانيا: ما اورد على المحقق القمي بمنع اختصاص بناء العقلاء في حجية الظهور بمن خوطب به فراجع.

و يمكن ان يكون المراد منه ان ظواهر الكتاب بالخصوص مختصة بهم عليهم الصلاة و السلام، لانه لم يرد منها ما هو ظاهرها، و يكون المراد من قولهم لا يفهم القرآن الّا من خوطب به هو ان المراد بالقرآن معان غير ما هو ظاهرها، و لا يفهم

ص: 221

.....

______________________________

تلك المعاني الّا هم عليهم الصلاة و السلام، و ليس غرضه اختصاص بناء العقلاء في الظواهر مطلقا بالمخاطب بها.

و هذه الدعوى حيث انها دعوى بلا بيّنه، اذ لا وجه لخروج ظواهر الكتاب عن بناء العقلاء بعد ان تمّ بناؤهم على العمل بالظاهر مطلقا سواء من خوطب به و من لم يخاطب، فما الوجه في خروج ظواهر الكتاب عن بناء العقلاء؟

لذلك استدل لهم المصنف بالخبرين كدليل لهذه الدعوى، و أحد الخبرين وارد في مقام ردع ابي حنيفة، و الثاني في مقام ردع قتادة، قال عليه السّلام في ردع الاول:

(ويلك ما جعل اللّه ذلك الا عند اهل الكتاب)(1) و لا ريب ان اهل الكتاب هم عليه السّلام، فيدل هذا الخبر انه لا يصح لغير اهل الكتاب التمسك بالكتاب، و قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم في مقام ردع قتادة: (ويحك يا قتادة انما يعرف القرآن من خوطب به)(2) و يدل هذا الخبر على اختصاص الكتاب بهم لانهم هم المخاطبون به.

و حيث عرفت انها لا ترجع الى دعوى اختصاص بناء في الظواهر بخصوص المخاطبين، فلا بد و ان يكون اختصاص خصوص الكتاب بمن خوطب به يرجع: اما الى دعوى كون الفاظ الكتاب قد وضعها اللّه تعالى الى معان خاصة غير ما هو الموضوع لها عند العرب، او ترجع الى انها قد استعملت مجازا في معان خاصة، و لا يفهم قرائن تلك المجازات الّا هم المخاطبون بالكتاب.

و الحاصل: انه قد استعملت الفاظ الكتاب في معان غير ما يتراءى منها عند العرف العربي، و قد صرّح بهذا السيد الصدر شارح الوافية حيث قال: «ان القرآن نزل على اصطلاح خاص الى آخر كلامه» و الى هذا الوجه اشار بقوله: «اما بدعوى اختصاص فهم القرآن الى آخر الجملة».

ص: 222


1- 19. ( 1) الوسائل ج 18، ص 29/ 27، باب 6 من أبواب صفات القاضي.
2- 20. ( 2) الوسائل ج 18، ص 136/ 25، باب 13 من ابواب صفات القاضي.

أو بدعوى أنه لاجل احتوائه على مضامين شامخة و مطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليه أيدي أفكار أولي الانظار غير الراسخين العالمين بتأويله، كيف؟ و لا يكاد يصل إلى فهم كلمات الاوائل إلا الاوحدي من الافاضل، فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان و ما يكون و حكم كل شي ء (1).

أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر، لا أقل من احتمال شموله لتشابه المتشابه و إجماله (2).

______________________________

(1) هذا هو الوجه الثاني و هو يرجع الى مثل الاول: من ان الظهور المتراءى في الكتاب ليس هو المراد منه، و حاصله: انه لا اشكال في كون القرآن يحتوي على مضامين عالية يدق على الافهام الوصول اليها، و كيف لا يكون كذلك و هو كلام اللّه الذي فيه تبيان كل شي ء، و من الواضح ان كثيرا من الاشياء بل و كثيرا من العلوم لا يرى الناس للقرآن دلالة عليها، و لا ريب في تضمنه لها و دلالته عليها، و اهل الكتاب يفهمون منه كل شي ء كما لا يخفى ذلك على كل من راجع كلامهم في مقام احتجاجهم بالكتاب العزيز، و انه بعد بيانهم له يكون له دلالة بيّنة عليه، و لا يفهم احد تلك الدلالة قبل بيانهم عليه السّلام، و كيف يكون كلام اللّه مما يفهمه الناس، و الحال ان كلام بعض العلماء المتبحرين لا يفهمه الا الاوحدي من العلماء الافاضل المتعمقين، و الى هذا الوجه اشار بقوله: «بدعوى انه لاجل احتوائه».

(2) هذا هو الوجه الثالث و حاصله: انه لا ريب في نهي الكتاب العزيز في الاخذ بالمتشابه، لقوله تعالى: فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ(1).

و يتضمن الكتاب انحاء ثلاثة من الدلالة:

النص: الذي لا يحتمل فيه دلالة غير ما يفهم منه و يدل عليه، كقوله تعالى:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ 22] الآية.

ص: 223


1- 21. ( 1) آل عمران: الآية 7.

.....

______________________________

و الظاهر: و هو ما كان له ظهور في معنى و لكن يحتمل فيه دلالة اخرى، كقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ 23] الآية، فان لها ظهورا في حلية ما امسكه الكلب المعلم، و يحتمل دلالته على طهارة موضع عضة الكلب ايضا.

و المجمل: و هو الذي ليس له دلالة ظاهرة على شي ء ك (حم)* و (كهيعص) و امثالهما.

و لا يخفى ان نصوص الكتاب قليلة جدا، و أكثره من الظاهر و لا سيما آيات الاحكام.

و لا ريب في عدم جواز الاخذ بالمجمل لانه لا ظهور له، اولا.

و ثانيا: لانه من المتشابه قطعا.

و اما الظاهر فالمستدل يدعي، تارة: ان المتشابه يشمل ما احتمل دلالته على معنى و ان كان له ظهور في معنى آخر، فلا يصح التمسك به للنهي عن اتباعه و الاخذ به، فتكون الآية رادعة عن بناء العقلاء في الاخذ بالظاهر في خصوص ظواهر الكتاب، و الى هذا اشار بقوله: «بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر»، و قوله للظاهر هو متعلق بالمتشابه: أي بدعوى شمول المتشابه للظاهر الممنوع عن اتباعه، فتكون ردعا لبناء العقلاء في خصوص ظواهر الكتاب.

و اخرى: ان لفظ المتشابه نفسه هو من الالفاظ المجملة المتشابهة، لاحتمال اختصاصه بالمجمل فقط و احتمال شموله ايضا للظاهر، فتكون الآية محتملة لان تكون رادعة عن بناء العقلاء، و قد عرفت ان بناء العقلاء لا بد فيه من القطع بالامضاء و بعدم الردع، و احتمال الردع كاف في المنع عن الاخذ ببناء العقلاء، و الى هذا اشار بقوله: «لا اقل من احتمال شموله» للظاهر «لتشابه» لفظ «المتشابه

ص: 224

أو بدعوى أنه و إن لم يكن منه ذاتا، إلا أنه صار منه عرضا، للعلم الاجمالي بطروء التخصيص و التقييد و التجوز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر (1).

______________________________

و اجماله» و هو كاف في المنع عن تمامية بناء العقلاء في الاخذ بخصوص ظواهر الكتاب.

(1) هذا هو الوجه الرابع، و حاصله: ان بناء العقلاء على الاخذ بالظهور انما هو في غير الظواهر التي تعلم اجمالا بطروء التقييد أو التخصيص أو التجوز عليها.

و اما في الظواهر الواقعة في معرض احد هذه الثلاثة فلا بناء منهم على الاخذ بها و التمسك بظاهرها، و مما لا اشكال فيه ان ظهورات الكتاب العزيز واقعة في معرض هذه الثلاثة كلها.

و بعبارة اخرى: ان المجمل على نحوين: الاول: ما لا يكون له ظهور في شي ء.

و الثاني: ما كان له ظهور و لكن العلم الاجمالي بوقوعه في معرض هذه الثلاثة يجعله من المجمل بالعرض: أي بان يعامل معه معاملة المجمل في عدم صحة التمسك بما هو ظاهر فيه. فالاول مجمل بالذات، و الثاني مجمل بالعرض، و ظهورات الكتاب من الثاني و هو المجمل بالعرض، و الى هذا اشار بقوله: «و ان لم يكن منه ذاتا» أي و ان لم يكن ظاهر الكتاب من المجمل بالذات «إلّا انه صار منه» أي من المجمل نتيجة و «عرضا للعلم الاجمالي بطروء التخصيص و التقييد» اللاحقين لعموماته و اطلاقاته «و» طروء «التجوز في غير واحد من ظواهره» و ليس للعقلاء بناء على التمسك بمثل هذه الظواهر «كما هو الظاهر» من راجع بناء العقلاء و راجع ما ورد من التخصيص و التقييد و التجوز في الكتاب العزيز.

ص: 225

في تضعيف أدلّة المحدثين

أو بدعوى شمول الاخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى (1).

و لا يخفى أن النزاع يختلف صغرويا و كبرويا بحسب الوجوه، فبحسب غير الوجه الاخير و الثالث يكون صغرويا، و أما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي، و يكون المنع عن الظاهر، إما لانه من المتشابه قطعا أو احتمالا، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي (2)، و كل هذه

______________________________

(1) هذا هو الوجه الخامس، و حاصله: انه قد تواترت الاخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، و التفسير هو بيان معنى اللفظ و انه هو المراد باللفظ، و هذا مما يشمل حمل الظاهر على ظاهره لانه تفسير للفظ بان ظاهره هو المراد منه، فهذه الاخبار رادعة عن بناء العقلاء في الاخذ بظواهر الكتاب، و قد عرفت انه لا بد في ما بنى عليه العقلاء من القطع بعدم الردع عنه، و احتمال الردع كاف في عدم الاخذ به فضلا عما دل على الردع عنه.

و بعد ان كان حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي فهذه الاخبار صريحة في الردع، فلا يصح الاخذ بظواهر الكتاب لشمول التفسير بالرأي له، و الى هذا اشار بقوله: «بدعوى شمول الاخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لحمل الكلام الظاهر في معنى على ارادة هذا المعنى» أي ان النهي عن التفسير بالرأي يشمل حمل الكلام على ظاهره، فتكون هذه الاخبار رادعة عن بناء العقلاء.

(2) حاصله: ان هذه الوجوه الخمسة مختلفة في مؤداها، فان بعضها يرجع الى المنع عن الكبرى و بعضها يرجع الى المنع عن الصغرى، لان الوجه الاول و الثاني و الرابع يرجع الامر فيها الى المنع عن الصغرى، و انه ليس للكتاب ظهور حتى يتمسك به، لان حاصل الاول هو ان القرآن قد اريد به إما معان خاصة وضعا غير ما يظهر منه، او انه اريد به معان خاصة تجوزا غير المعاني الظاهرة منه، و المعاني المرادة منه بحسب

ص: 226

.....

______________________________

الوضع او التجوز لا يفهمها الّا من خوطب بالكتاب و هم النبي و اهل بيته، و هذا ظاهر في المنع عن الصغرى و انه ليس للقرآن ظاهر حتى يؤخذ به.

و مثله الوجه الثاني، فان حاصله: انه قد اريد بالقرآن معان عميقة غامضة غير ما هو ظاهر فيه لا يفهمها الّا هم ايضا، و هذا ايضا يرجع الى منع الصغرى و انه لا ظهور للكتاب.

و مثلهما الوجه الرابع، فان حاصله: ان ظواهر الكتاب من المجمل بالعرض، و بناء العقلاء يختص بغير المجمل بالعرض فلا ظهور فيها فيما قام بناء العقلاء على الاخذ به، و الى هذا اشار بقوله: «فبحسب غير الوجه الوجه الاخير و الثالث يكون صغرويا» و غير الوجه الاخير و الثالث هو الوجه الاول و الثاني و الرابع.

و اما الوجه الثالث و الاخير، فان المتحصل منهما: ان للكتاب ظواهر و لكن قد وقع الردع عن الاخذ بها، و هذان يرجعان الى منع الكبرى، و هو انا نسلم أن للقرآن ظواهر، و نسلم ايضا ان بناء العقلاء قد قام على الاخذ بالظاهر، الّا انه انما يكون هذا البناء حجة فيما اذا لم يردع عنه، فمرجع هذا الى انا لا نسلم ان كلّ ما بنى عليه العقلاء يصح الاخذ به، بل هو فيما اذا لم يردع عنه، او لا يكون محتملا لان يكون قد ردع عنه، و الى هذا اشار بقوله: «و اما بحسبهما» أي بحسب الوجه الاخير و الوجه الثالث «فالظاهر انه» أي النزاع فيهما «كبروي» و انه ليس كل ظاهر حجة، بل الحجة هو الظاهر الذي قطع بعدم الردع عنه، فما ورد الردع عنه أو ورد ما يحتمل كونه رادعا عنه فلا يكون حجة.

و ما ورد من النهي عن المتشابه اما شامل قطعا للظاهر الكتابي، او محتمل الشمول «و» حينئذ «يكون المنع عن الظاهر» الكتابي «اما لانه من المتشابه قطعا او احتمالا» و هذا هو الوجه الثالث. و مثله الوجه الخامس فانه كبروي ايضا «لكون حمل الظاهر على ظاهره» مما ردع عنه لانه من التفسير بالرأي، و ظاهره

ص: 227

الدعاوى فاسدة: أما الاولى، فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن و معرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته و محكماته، بداهة أن فيه ما لا يختص به، كما لا يخفى.

و ردع أبي حنيفة و قتادة عن الفتوى به إنما هو لاجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقا و لو مع الرجوع إلى رواياتهم و الفحص عما ينافيه، و الفتوى به مع اليأس عن الظفر به، كيف؟ و قد وقع في غير واحد من الروايات الارجاع إلى الكتاب و الاستدلال بغير واحد عن آياته (1).

______________________________

تسليم الظاهر الكتابي و تسليم البناء على الاخذ بالظاهر، و لكنه غير الظاهر الذي ردع عنه، و ظواهر الكتاب حيث انها من التفسير بالرأي فقد ردع عنها.

(1) اجاب (قدس سره) عن الوجه الاول بثلاثة اجوبة:

الاول: ان المراد من اختصاص فهم الكتاب بهم عليه السّلام هو فهمه بجميع ما فيه:

من نص، و ظاهر، و مجمل، و لا اشكال في اختصاص ذلك بهم عليهم السّلام، و يدل على هذا ان الخصم يعرف بان النص لا يختص فهمه بهم، فالمراد من قوله عليه السّلام- في مقام ردع قتادة-: انما يعرف القرآن من خوطب به هو معرفته بكلّه، و الى هذا اشار بقوله: «بداهة ان فيه» أي في الكتاب «ما لا يختص به» أي لا يختص بمن خوطب به.

الثاني: ان نقول ان ردع ابي حنيفة و قتادة عن الاخذ بالكتاب مما يشمل الاخذ بظاهره، و لكن ردعهم انما هو عن فتواهم بالقرآن، و من الواضح ان الفتوى بعمومات الكتاب و اطلاقاته لا تصح الا بعد المراجعة و الفحص عما هو مخصص او مقيد لها مما ورد عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم من المخصص او المقيد و ما ورد عنهم عليهم السّلام مخصصا او مقيدا.

ص: 228

و أما الثانية، فلان احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للاحكام و حجيتها، كما هو محل الكلام (1).

______________________________

و لا اشكال ان أبا حنيفة و قتادة كانا يفتيان بالعمومات و الاطلاقات بنحو الاستقلال من دون مراجعة ما ورد عنهم عليه السّلام من المخصص و المقيد، فلا يكون هذا الردع مما له ربط بما نقول به من حجية الظواهر الكتابية بعد الفحص و البأس عمّا ورد لها عنهم عليهم السّلام من المخصص او المقيد او البيان الدال على انه اريد بها غير ظاهرها مجازا، و الى هذا اشار بقوله: «و ردع ابي حنفية و قتادة عن الفتوى به انما هو لاجل الاستقلال» منهما «في الفتوى بالرجوع اليه» أي الى الكتاب «من دون مراجعة اهله» مما ورد عنهم من مخصص او مقيد او ببيان «للمجاز» و «لا» دلالة لهذا الردع «عن الاستدلال بظاهره» أي بظاهر الكتاب «مطلقا و لو مع الرجوع الى رواياتهم عليهم السّلام و» بعد «الفحص عما ينافيه» أي عما ينافي عموم الظاهر او اطلاقه «و» انما تصح «الفتوى به» عندنا «مع الياس عن الظفر به» أي عن الظفر بما ينافيه من مخصص او مقيد او بيان لتجوز.

الثالث: انه مما يدل على عدم اختصاص ظواهر الكتاب بهم عليه السّلام بعد الفحص و اليأس هو أمرهم عليه السّلام بالرجوع الى ظواهر الكتاب في جملة من الروايات، كقوله عليه السّلام: (ان هذا و شبهه يعرف من كتاب اللّه)(1) في مقام دلالة الباء في آية الوضوء على التبعيض، و لا ريب في ان دلالة الباء على التبعيض من الظواهر.

و لا اشكال ان قوله عليه السّلام: (ان هذا و امثاله يعرف من كتاب اللّه) مما يدل على ان تلك المعرفة لا تختص بهم عليهم السّلام، و الى هذا اشار بقوله: «كيف و قد وقع في غير واحد من الروايات الارجاع الى الكتاب ... الى آخر الجملة».

(1) هذا هو الجواب عن الوجه الثاني، و هو كون القرآن عميق المعنى بعيد المغزى لا يفهمه الّا اهله.

ص: 229


1- 24. ( 1) من لا يحضره الفقيه: ج 1، ص 435.

و أما الثالثة، فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه، فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل، و ليس بمتشابه و مجمل (1).

______________________________

و حاصله: إنا لا ننكر ان القرآن محتو على ذلك، و لكن تلك المعاني العميقة و المغازي الجليلة المتضمنة لتبيان كل شي ء انما هي في متشابهات الكتاب لا في ظواهره، او تقول بانها في ظواهره و لكن في بطون تلك الظواهر لا في معانيها الظاهرة منها، و لا ينافي كون الكتاب حجة فيما هو ظاهر فيه ان له بطونا لا يعرفها إلّا اهله، فانه لا مانع من ان يدل اللفظ على ما هو ظاهر فيه، و تكون له دلالات اخرى و لو بنحو اللزوم غير البين على معان كثيرة و مغاز عميقة جليلة تتضمن تبيان كل شي ء.

و كون اللفظ في الكتاب العزيز له دلالات و مدلولات متعددة منها ما له ظهور فيها بحيث يفهمها كل احد و منها غامضة لا يفهمها إلّا اهله- لا يوجب عدم حجيته في ما هو ظاهر فيه من الاحكام بعد كونها من الظواهر المفهومة لكل واحد، و الى هذا اشار بقوله: «فلأن احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للاحكام و» لا يمنع عن «حجيتها» لان تلك المضامين العالية اما ان تكون مرادة من المتشابه او من الظواهر بحسب تعدد الدلالة.

(1) هذا هو الجواب عن الوجه الثالث الذي كان محصله عدم حجية ظواهر الكتاب لانها من المتشابه، و قد ورد الردع في الكتاب الكريم عن اتباع المتشابه.

و توضيح الجواب عنه: ان الاستدلال بظاهر الكتاب ممن لا يقول بحجية ظواهره لا يصح إلّا جدلا، لوضوح انه بعد كونه ممن لا يقول بحجيته كيف يستدل بما لا يراه حجة؟ نعم يصح على نحو الجدل، و هو الزام الخصم بما يراه حجة و ان كان المستدل لا يرى حجته.

و بعد تصحيح هذا الاستدلال على نحو الجدل نقول انه باطل حتى على نحو الجدل ..

ص: 230

.....

______________________________

اولا: بان نقول ان المراد من المتشابه هو المجمل دون الظاهر فهو خارج موضوعا عما نقول بحجيته و هي الظواهر الكتابية دون مجملاتها، و من الواضح ان الظاهر ليس هو من المجمل، فليس هو من المتشابه الذي ورد النهي عن اتباعه، و الى هذا اشار بقوله: «فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه فان الظاهر كون» لفظ «المتشابه» ليس من المتشابه بل هو من الظاهر، و المراد به «هو خصوص المجمل و ليس» لفظ المتشابه «بمتشابه و مجمل».

و ثانيا: ان من يقول بحجية ظواهر الكتاب لا يقول بحجية ظاهر الكتاب المانع عن التمسك بظواهره، لان مثل هذا الظاهر يلزم من حجيته عدم حجيته، و ما يلزم من وجوده عدمه لا يكون حجة، لان الظاهر المانع عن التمسك بالظاهر مما يشمل نفسه اما بحسب الدلالة او بحسب الملاك.

و توضيح ذلك: ان شمول المتشابه للظاهر، تارة: يكون المراد منه النهي عن كل ظاهر حتى نفسه حيث يكون من الظاهر، و لا يعقل ان يكون مثل هذا الظاهر بحجة، و لما كان شمول المتشابه انما هو لظهوره في الشمول فهو بنفسه ظاهر من الظواهر، و من المحال الواضح حجية مثل هذا الظاهر في المنع عن العمل بالظواهر.

و اخرى: يقال ان المتشابه لا يشمل نفسه، لانه في مقام المنع بحسب ما يحكى فلا بد و ان تكون الحكاية عن غير نفسه، و على هذا نقول ايضا انه ليس بحجة ايضا لعدم بناء العقلاء على الاخذ بظاهر يمنع عن غيره بملاك يشمله، و لما كان المتشابه نفسه من الظواهر فالملاك يشمله.

و على كل فلازمه عدم حجية نفسه، لان المفروض انه بنفسه من الظاهر، و قد منع عن الاخذ بالظاهر، فهو يمنع عن الاخذ بنفسه اما دلالة او ملاكا.

و ثالثا: ان قولهم احتمال الردع كاف لتوقف حجية الظواهر على القطع بعدم الردع ليس بصحيح، فان المراد من القطع بعدم الردع هو القطع بعدم قيام حجة على الردع، و المجمل من المقطوع بعدم حجيته، لوضوح ان لا حجية الا لما صح

ص: 231

و أما الرابعة، فلان العلم إجمالا بطروء إرادة خلاف الظاهر، إنما يوجب الاجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالاجمال (1) مع أن دعوى اختصاص

______________________________

الاحتجاج به، و لا يصح الاحتجاج بالمجملات، بل لا بد في المجمل من الاقتصار فيه على القدر المتيقن، فمع كون لفظ المتشابه مجملا من حيث شموله للظواهر أو اختصاصه بخصوص المجمل لا بد من الاقتصار فيه على خصوص المجمل فلا يصلح للردع عن الاخذ بالظواهر.

(1) هذا هو الجواب عن الوجه الرابع الذي كان ملخصه: ان الظواهر الكتابية قد علم اجمالا بطروء التخصيص لعموماتها و التقييد لاطلاقاتها او التجوز، و لا بناء للعقلاء على الاخذ بظواهر علم اجمالا بطروء تخصيص او تقييد عليها او اريد بها معان أخر على نحو المجاز.

و تفصيل الجواب عنه: ان العلم الاجمالي المؤثر هو العلم الاجمالي غير المنحل و هو هنا منحل اما حقيقة او حكما او قهرا.

و توضيحه: ان العلم الاجمالي، تارة: ينحل الى علمين تفصيليين، و اخرى:

الى علم تفصيلي و شك بدوي.

و الاول: كما اذا علم اجمالا بنجاسة اناء زيد المشتبه بين اناءين احدهما لزيد و الآخر لعمرو، ثم علمنا بالتفصيل بان هذا بخصوصه اناء زيد و الآخر اناء عمرو.

و الثاني: كما اذا علمنا بان نجاسة وقعت و اصابت اناء زيد قطعا و نحتمل انها اصابت اناء عمرو، ثم علمنا باناء زيد و اناء عمرو تفصيلا، فان العلم الاجمالي هنا منحل الى معلوم بالتفصيل و هو اناء زيد النجس قطعا، و الى شك بدوي و هو نجاسة اناء عمرو، و تنفى بالاصل.

و اخرى يكون العلم الاجمالي منحلا حكما، و هو كما في الموردين المذكورين و لكن بان تقوم البينة بان هذا الاناء بالخصوص هو اناء زيد، فان العلم الاجمالي

ص: 232

.....

______________________________

و ان لم ينحل الى المعلوم بالتفصيل حقيقة لان المفروض قيام البينة عليه و يحتمل فيها الخطأ، و لكنه قد انحل الى ما هو بحكم المعلوم بالتفصيل، و حال العلم الاجمالي في قيام البينة في عدم التأثير بالنسبة الى اناء عمرو حال العلم الاجمالي المنحل الى معلوم بالتفصيل حقيقة، و يجري الاصل في نفي النجاسة بالنسبة الى اناء عمرو.

و لا يخفى ان الانحلال الحقيقي و الحكمي المعلوم بالاجمالي في كليها معلوم الانطباق على المعلوم بالتفصيل اما حقيقة او حكما، لان العلم التفصيلي كان مشيرا الى العلم الاجمالي و مبينا له إما حقيقة او حكما.

و ثالثا: يكون الانحلال قهريا و ذلك بان لا يكون المعلوم بالتفصيل مبينا و لا مشيرا الى المعلوم بالاجمال، و لكن احتمال انطباقه عليه موجب للانحلال قهرا، كما لو علمنا اجمالا بحرمة عشرة شياه في قطيع غنم بعضه سود و بعضه بيض، ثم علمنا تفصيلا بحرمة عشرة شياه بيض مثلا.

فتارة يكون العلم التفصيلي بحرمة العشرة البيض لسبب حادث غير سبب العلم الاجمالي، كما لو كان العلم الاجمالي بحرمة العشرة لانها مغصوبة قد غصبها زيد، و العلم التفصيلي بحرمة العشرة كان لغصب بعده آخر قد فعله عمرو، و في مثل هذا العلم التفصيلي الحادث لا يكون انحلال بالنسبة الى المعلوم بالاجمال، فانا و ان احتملنا ان غصب عمرو كان قد ورد على نفس غصب زيد، إلّا ان غصب زيد لما كان سابقا و منجزا بالنسبة الى القطيع فلا ينحل بالعلم التفصيلي بما غصبه عمرو.

و اخرى: لا يكون السبب المعلوم بالتفصيل حادثا، بل كانا مما يحتمل ان يكون هو السبب الاول، كما لو علمنا اجمالا بحرمة عشرة شياه في القطيع للغصب، ثم علمنا تفصيلا بحرمة عشرة شياه بيض في هذا القطيع للغصب، و نحتمل ان يكون الغصب الثاني المعلوم بالتفصيل هو الغصب الاول المعلوم بالاجمال، و في مثل هذا ينحل العلم الاجمالي لاحتمال الانطباق قهرا.

ص: 233

.....

______________________________

و وجهه: انا نعلم تفصيلا بان العلم الاجمالي لا تاثير له بالنسبة الى هذه العشرة المعلومة بالتفصيل بما هو علم اجمالي، لان هذه العشرة اما ان تكون هي متعلق العلم الاجمالي و قد انقلب الى التفصيل فلا تأثير بما هو علم اجمالي، و اما ان تكون هذه العشرة غير متعلق العلم الاجمالي، و لكن بعد ان كانت معلومة الحرمة بالتفصيل فالمؤثر في حرمتها فعلا هو العلم التفصيلي دون العلم الاجمالي، و لا يكون للعلم الاجمالي تأثير بالنسبة الى الباقي لانه غير منجز على كل تقدير لاحتمال كونه هو المعلوم بالتفصيل.

و من البين انه لا بد في العلم الاجمالي المنجز ان يكون منجزا على كل تقدير، فبعد حصول هذا العلم التفصيلي و احتمال ان يكون هو العلم الاجمالي لا يكون لنا علم اجمالي قد توجه لنا من طرفه حكم بوجوب الاجتناب القطعي غير وجوب الاجتناب المعلوم بالتفصيل بالنسبة الى هذه العشرة.

و بعبارة اخرى: لا بد و ان يكون العلم الاجمالي- بما هو علم اجمالي- منجزا قطعا على كل تقدير بالنسبة الى جميع الاطراف، و قد عرفت انه بالنسبة الى هذا الطرف المعلوم بالتفصيل لا تنجيز له بما هو علم اجمالي، فاحتمال انطباق العلم الاجمالي على العلم التفصيلي مما يوجب انحلاله قهرا، و الى هذا اشار بقوله:

«فلان العلم اجمالا بطروء ارادة خلاف الظاهر» في الظواهر الكتابية للعلم الاجمالي بطروء تخصيص و تقييد أو تجوز فيها «انما يوجب الاجمال» الموجب لعدم التمسك بها «فيما اذا لم ينحل» هذا العلم الاجمالي انحلالا قهريا و ذلك «بالظفر في الروايات بموارد» توجب تخصيصا و تقييدا او تجوزا في الظواهر الكتابية بحيث نحتمل انطباق المعلوم بالاجمال على هذه الموارد التي قد علمنا تفصيلا «ارادة خلاف الظاهر» فيها و قد كانت هذه الموارد التي ظفرنا بها «بمقدار المعلوم بالاجمال» و في مثل هذا الانطباق المحتمل ينحل الاجمالي انحلالا قهريا.

ص: 234

أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به، غير بعيدة، فتأمل جيدا (1).

و أما الخامسة، فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير، فإنه كشف القناع و لا قناع للظاهر، و لو سلم، فليس من التفسير بالرأي،

______________________________

(1) لا يخفى ان الانحلال القهري انما هو حيث لا يكون للعلم الاجمالي عنوان منطبق على المعلوم بالتفصيل.

اما بان لا يكون له عنوان، او كان له عنوان و لكنه كان محتمل الانطباق لا معلوم الانطباق.

اما اذا كان للعلم الاجمالي عنوان معلوم الانطباق على المعلوم بالتفصيل فالانحلال حقيقي لا قهري.

و قد كان الجواب السابق مبنيا على كون المعلوم بالاجمال لا عنوان له، و هو مجرد العلم الاجمالي بطروء تخصيص او تقييد او تجوز للظواهر الكتابية، ثم تفحصنا فوجدنا موارد فيها تخصيص و تقييد و بيان للتجوز، فيحتمل ان يكون ما ظفرنا به هو متعلق الاجمالي، و يحتمل ان يكون غيره موارد آخرهن غير ما وجدناه و ظفرنا به، فلذا كان الانحلال قهريا.

اما اذا قلنا بان المعلوم بالاجمال هو طروء التخصيص و التقييد و التجوز الذي لو فحصنا عنه لظفرنا به، و على هذا فبعد الظفر بالمخصصات و المقيدات و المجازات في الظواهر الكتابية يكون الانحلال انحلالا حقيقيا لا قهريا، لغرض ان معلومنا الاجمالي هو ما اذا فحصنا عنه لوجدناه، و المفروض انا فحصنا و وجدنا، فانطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل انطباق حقيقي لا قهري، و الى هذا اشار بقوله:

«مع ان دعوى اختصاص اطرافه» أي اطراف المعلوم بالاجمال «بما اذا تفحص عما يخالفه لظفر به غير بعيدة» و معنى هذا كون المعلوم بالاجمال هو المقيد بما اذا فحصنا عنه لوجدناه، و بعد ان وجدناه تفصيلا فلا بد من انطباق المعلوم بالاجمال عليه.

ص: 235

إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبار به، و إنما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره، لرجحانه بنظره، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدة ذاك الاعتبار عليه، من دون السؤال عن الاوصياء (1)، و في بعض الاخبار إنما هلك الناس في المتشابه، لانهم

______________________________

(1) هذا الجواب عن الوجه الخامس، الذي حاصله: ان الظهورات الكتابية قد منع عن العمل بها و الاخذ بما هي ظاهرة فيه، لان الاخذ بها من التفسير بالرأي. و قد أجاب عنه بأجوبة ثلاثة:

الاول: ان حمل الظاهر على ظاهره ليس من التفسير، فهذه الاخبار الناهية لا تشمل الظواهر.

و توضيحه: ان التفسير هو الايضاح و كشف القناع الحاجب بين اللفظ و ما اريد من المعنى به، و لازمه ان يكون هناك غطاء و قناع بين اللفظ و المعنى يزول بتفسيره و ايضاحه، و لا بد من اختصاص التفسير بغير الظاهر في معناه، لان ما له ظهور في معناه ليس بينه و بين معناه حجاب و قناع يكشفه التفسير. و يؤيد هذا ان التفسير انما يكون بالظواهر لقلة النصوص التي لا يتطرقها الاحتمال، و التفسير لا بد و ان يكون بالاجلى، فلو كان الظاهر مما يحتاج الى التفسير لما امكن التفسير الا بالنص، و هو بعيد جدا لقلة النصوص، و الى هذا اشار بقوله: «فانه كشف القناع و لا قناع للظاهر».

الجواب الثاني: انه لو سلمنا ان التفسير مما يشمل حمل الظاهر على ظاهره، لكن المنهي عنه في الاخبار ليس مطلق التفسير، بل هو التفسير بالرأي، و المراد منه هو التفسير الذي يحتاج الى إعمال رأي في تأويل الكلام المفسر، و حمل الظاهر على ظاهره لا يحتاج الى إعمال رأي في حمل اللفظ على معناه، فلا بد و ان يختص التفسير بالرأي في تفسير المجمل أو في تفسير الظاهر بحمله على غير ظاهره، فان ذلك مما يحتاج الى اعمال الرأي بالاحتمالات الظنية و الاعتبارات التي يتوهمها المفسر للكلام

ص: 236

لم يقفوا على معناه، و لم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم و استغنوا بذلك عن مسألة الاوصياء فيعرفونهم (1).

______________________________

برأيه و اعمال نظره من دون مراجعة في ذلك الى اهله، لبداهة ان التفسير بمراجعتهم ليس من تفسير المفسر برأيه، بل هو تفسير بمراجعة اهل الكتاب النازل في حجورهم و بيوتهم عليهم السّلام، و الى هذا اشار بقوله: «و انما كان منه» أي و انما كان من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه هو غير حمل الظاهر على ظاهره بل هو «حمل اللفظ» اما «على خلاف ظاهره لرجحانه بنظره» أي لرجحان ما هو غير الظاهر على الظاهر بنظر المفسر برأيه «او حمل» اللفظ «المجمل على محتمله» الذي لا ظهور له فيه «بمجرد مساعدة ذاك الاعتبار» الظني «عليه» في رأي المفسر له «من دون السؤال عن» ما اريد بذلك المجمل من «الاوصياء» الذين هم اهل الذكر و اهل الكتاب.

(1) هذا بيان لكون المراد من التفسير بالرأي الذي ورد النهي عنه هو تفسير المتشابه الذي هو المجمل، لا حمل الظاهر على ظاهره، و حاصله: ان النهي عن التفسير بالرأي انما هو لاجل ان التفسير بالرأي مما يهلك فيه الناس، و مما يتسبب منه المفاسد العظيمة لاعتمادهم على الظنون و الاعتبارات و نسبته اليه تبارك و تعالى، و انه هو مراده من كلامه جل و علا و ان الظن لا يغني عن الحق شيئا، و هذه الاخبار تدل على حصر الهلاك في تفسير المتشابه بالرأي من دون مراجعة من عندهم تأويله كما ان عندهم تنزيله، و لازم كون الهلاك في التفسير بالرأي و حصر الهلاك في تفسير المتشابه هو كون المراد من التفسير بالرأي هو التفسير المتشابه دون حمل الظاهر على ظاهره.

و بعبارة اوضح: ان هذه الاخبار بمنطوقها تدل على حصر الهلاك في تفسير المتشابه، و بمفهومها تدل على انه لا هلاك في غير المتشابه، و الظاهر ليس من المتشابه فلا هلاك فيه، لان المتشابه اما هو المجمل، أو ما يشمل حمل الظاهر على غير ظاهره.

ص: 237

هذا مع أنه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك، و لو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره، ضرورة أنه قضية التوفيق بينها و بين ما دل على جواز التمسك بالقرآن، مثل خبر الثقلين، و ما دل على التمسك به، و العمل بما فيه، و عرض الاخبار المتعارضة عليه، ورد شروط المخالفة له، و غير ذلك، مما لا محيص عن إرادة الارجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه (1)، ضرورة أن الآيات

______________________________

اما الاخذ بالظاهر على ظاهره فليس من المتشابه فلا هلاك فيه، فهذه الرواية مبينة للمراد من النهي عن التفسير مطلقا أو التفسير بالرأي.

(1) هذا هو الجواب الثالث، و حاصله: انه لو سلمنا ان حمل الظاهر على ظاهره من التفسير و من التفسير بالرأي ايضا، إلّا انه لا اشكال في كونه عاما يشمل حمل الظاهر على ظاهره و حمل الظاهر على غير معناه و حمل المجمل على احد محتملاته من دون ظهور له فيه، و هناك اخبار اخص منه تدل على صحة التمسك بالظاهر، و هي مثل خبر الثقلين- الدال على التمسك بالقرآن- و غير خبر الثقلين، مما يدل على صحة التمسك بالقرآن، و لا اشكال في ان المراد من التمسك بالقرآن هو التمسك بظواهره، لان اللازم الذي رتبه على التمسك به و هو عدم ضلالة من تمسك به انما هو مما يختص بالاخذ بظاهره، لا الاخذ بمتشابهه او بحمل ظاهره على خلاف ما هو ظاهر فيه، لان التمسك بهما مما يوجب الضلالة لا عدم الضلالة.

و لا يقال: انه لا يشمل الظاهر ايضا بل يختص بالنصوص.

فانه يقال، اولا: انه ليس هناك نصوص بحيث لا يتطرقها الاحتمال، و لو كان بمنتهى البعد. و ثانيا: ان نصوصه لو كانت فهي قليلة نادرة جدا لا تكفي لان تكون ضامنة لعدم الضلال.

ص: 238

.....

______________________________

و مثل الاخبار الآمرة بعرض الاخبار المتعارضة على كتاب اللّه، و مثل الاخبار الآمرة برد الاخبار المخالفة للكتاب، فان المراد بالعرض هو العرض على ظواهر الكتاب، و كذلك المخالف فانه المخالف لظواهره.

و مثل هذه الاخبار الدالة على صحة الاخذ بالظواهر كقوله عليه السّلام: (ان هذا و امثاله يعرف من كتاب اللّه) مشيرا الى دلالة الباء في آية الوضوء على التبعيض في المسح، و لا اشكال انه من الاخذ بالظاهر.

و الحاصل: ان هذه الاخبار التي كلها قد دلت على صحة الاخذ بالظاهر فهي اخص من الاخبار الناهية عن التفسير بالرأي، و التوفيق العرفي بين العام و الخاص هو تخصيص العام بالخاص و خروج الخاص عن حكم العام، فالاخذ بالظاهر يخرج عن الاخبار الناهية لانه اخص. و انما قلنا انها اخص لان دلالة الباء على التبعيض من الظاهر، فهي اخص من الاخبار الناهية عن التفسير الشاملة للظاهر.

و اما اخبار العرض على الكتاب و الرد لما خالف الكتاب، فهي: اما ان تكون اخص ايضا لعدم النص في آيات الاحكام التي هي المرجع في العرض و الرد.

و اما ان نسلم ان هناك نصا، فالنسبة بينها و بين الاخبار الناهية عن التفسير و ان كانت على هذا هي العموم من وجه، لاختصاص الاخبار الناهية بالمجمل، و اختصاص هذه الاخبار بالنص، و اجتماعهما في الظاهر، إلّا ان ندرة النص تأبى سقوط هذه الاخبار في مورد الاجتماع و إلّا لكانت كمعدوم الفائدة، و عليه فلا بد من حمل اخبار النهي عن التفسير على المجمل و حمل الظاهر على غير ظاهره، و الى هذا اشار بقوله: «انه قضية التوفيق بينها» أي بين الاخبار الناهية عن التفسير بالرأي «و بين ما دل على جواز التمسك بالقرآن» و الأخبار الأخر التي اشرنا اليها مما عرفت ان المراد بها ظواهر الكتاب و التوفيق بينهما يقتضي تخصيص الاخبار الناهية بهذه الاخبار.

ص: 239

اسقاط العلم الاجمالي بالتحريف لحجيّة الظواهر

التي يمكن أن تكون مرجعا في باب تعارض الروايات أو الشروط، أو يمكن أن يتمسك بها و يعمل بما فيها، ليست إلا ظاهرة في معانيها، و ليس فيها ما كان نصا، كما لا يخفى (1).

و دعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو: إما بإسقاط، أو بتصحيف و إن كانت غير بعيدة (2)، كما يشهد بعض الاخبار و يساعده

______________________________

(1) قد عرفت انه ليس المراد بهذه الاخبار كلها الآمرة بالرجوع الى الكتاب هو نصوص الكتاب لا ظواهره، اما لانه لعدم النص، او لعدم النص في خصوص ما امرنا بالرجوع اليه، كمورد التعارض و المخالفة للكتاب و مثل دلالة الباء على التبعيض، فانها كلها من الظواهر لا من النصوص.

(2) لا يخفى انه يصلح ان تكون هذه الدعوى وجها سادسا لسقوط الظواهر الكتابية عن الحجية و عدم صحة التمسك بها.

و حاصله: انا نعلم اجمالا بوقوع التحريف في الكتاب، اما باسقاط بعضه او بتصحيف في بعض الفاظه.

و يشهد لهذه الدعوى عدم المناسبة الواضحة بين بعض جملة مع الجمل الاخرى كقوله تعالى وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ(1) فان المناسبة بين الشرط و الجزاء في هذه الآية المباركة غير واضحة و مما يأباها الكتاب العزيز البالغ في بلاغته ما فوق مقدور البشر.

و لا يخفى ان احتمال الزيادة فيه و ان كان مما قام الاجماع على عدمها، إلّا ان العلم الاجمالي بالاسقاط أو بالتصحيف مما يوجب سقوط ظواهر الكتاب عن الحجية، اذ مع العلم بعروض الاسقاط أو التصحيف فيه الذي من اطراف هذه العلم ظواهره فان لازم ذلك سقوط ظواهره عن الحجية، لعدم بناء العقلاء على الاخذ

ص: 240


1- 25. ( 1) النساء: الآية 3.

الاعتبار (1)، إلا أنه لا يمنع عن حجية ظواهره، لعدم العلم بوقوع الخلل فيها بذلك أصلا.

______________________________

بظواهر كانت من اطراف كلام علم باسقاط أو تصحيف فيه، لان كل ظاهر منه نحتمل ان يكون مما عرضه الاسقاط أو التصحيف.

و لا يخفى ان الاسقاط و التصحيف و ان اشتركا في سقوط الظواهر عن الحجيّة، الّا ان بينهما فرقا لان احتمال الاسقاط لا يخرج كلام القرآن عن كونه كلام اللّه تعالى، و لكن حيث يمكن ان يكون الساقط من القرآن فيكون مما يوجب ظهورا غير الظهور الموجود فعلا، لذا فلا يكون الظهور الموجود حجة.

و اما احتمال التصحيف فهو مما يوجب احتمال ان يكون بعض ما بين الدفتين ليس من كلام اللّه تبارك و تعالى، لوضوح ان التصحيف العارض على كلامه سواء كان في المواد او الهيئات مما يوجب ان يكون الكلام الذي عرض عليه التصحيف في هيئته او مادته ليس كلامه تعالى، فيكون من اشتباه القرآن بغير القرآن.

(1) قال الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: فاما الزيادة فيه فمجمع على بطلانها، و اما النقصان فقد روى جماعة من اصحابنا و قوم من حشويّة العامة ان في القرآن تغييرا و نقصانا، و الصحيح من مذهب اصحابنا خلافه الى آخر كلامه.

و قال الشيخ الطوسي في تبيانه اما الكلام في زيادته و نقصانه فمما لا يليق به، لان الزيادة فيه مجمع على بطلانها و النقصان منه فالظاهر ايضا من مذهب المسلمين خلافه الى ان قال غير انه رويت روايات كثيرة من جهة العامة و الخاصة بنقصان كثير من آي القرآن، و نقل شي ء منه من موضع الى موضع آخر. انتهى كلامه (قدس سره).

و اما مساعدة الاعتبار فما مر ذكره في قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ من عدم وضوح المناسبة بين الشرط فيها و الجزاء.

ص: 241

و لو سلم، فلا علم بوقوعه في آيات الاحكام، و العلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجية آياتها، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات، و العلم الاجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة (1)،

______________________________

(1) حاصل ما اجاب به المصنف عن هذا العلم الاجمالي جوابان:

الاول: ما اشار اليه بقوله: «لعدم العلم بوقوع الخلل فيها بذلك اصلا».

و توضيحه: ان العلم الاجمالي بوقوع اسقاط او تصحيف في الكتاب العزيز لا يقتضي سقوط حجية الظواهر في ظاهرها، لان المانع عن حجية اصالة الظهور هو العلم الاجمالي بوقوع ما يصرف الظاهر عن ظاهره، و العلم الاجمالي بمحض ان هناك إسقاطا او تصحيفا لا يوجب العلم الاجمالي بوقوع ما يصرف الظاهر عن ظاهره، لاحتمال ان يكون الاسقاط و التصحيف، مما لا يوجب صرف الظاهر عن ظاهره، لاحتمال ان يكون الاسقاط و التصحيف واقعا في المتشابه دون الظواهر، فالعلم الاجمالي بوقوع اسقاط او تصحيف في الكتاب لا يوجب العلم الاجمالي بوقوع خلل في الظواهر، و المانع عن حجية الظهور هو العلم الاجمالي بوقوع خلل في الظواهر، فيوجب ذلك صرف الظاهر عن ظاهره فيها، و لذا قال (قدس سره):

«لعدم العلم بوقوع خلل فيها» أي في الظواهر «بذلك اصلا» أي بمجرد العلم الاجمالي بالاسقاط و التصحيف في الكتاب لا يقتضي العلم الاجمالي بوقوع خلل في الظواهر الحكميّة، و المانع عن حجيتها هو العلم الاجمالي بوقوع الخلل فيها دون العلم الاجمالي بالاسقاط أو التصحيف في الكتاب، لما مرّ من انه يشترط في تاثير العلم الاجمالي ان يكون منجزا على كل تقدير، و انما يكون منجزا على كل تقدير حيث يكون له اثر في جميع الاطراف، و حيث انه لا اثر للاسقاط و التصحيف في المتشابه او غيره مما لا يتضمن حكما من الاحكام، فلا تاثير لهذا العلم الاجمالي، فاصالة الظهور محكّمة في الاخذ بظواهر آيات الاحكام.

ص: 242

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: ان العلم الاجمالي بالاسقاط أو التصحيف غايته يوجب الشك و الاحتمال بعدم ارادة الظاهر فنحتاج الى اصالة الظهور، و الّا فمع العلم بارادة الظاهر بظاهره لا نحتاج الى اصالة الظهور.

نعم لو علمنا اجمالا بوقوع الخلل في خصوص الظهورات لكان هذا العلم الاجمالي مانعا عن الاخذ بالظواهر لحصول العلم الاجمالي بعدم حجية بعضها.

و الحاصل: ان المانع عن اصالة الظهور هو العلم الاجمالي بوقوع الخلل في خصوص الظواهر، دون العلم الاجمالي بما يعمها و يعم المتشابه.

الثاني: ما اشار اليه بقوله: «و لو سلّم الى آخره»، و توضيحه: ان ظواهر الكتاب العزيز تشتمل على قصص و تاريخ و مواعظ و آيات احكام، و بناء العقلاء على التمسك بالظاهر و امضاء الشارع له انما هو في خصوص آيات الاحكام، اما بقية اصناف ما جاء في الكتاب فلا حجية لظواهره، لان الحجيّة المجعولة عند العقلاء الممضاة من الشارع انما هي لاجل اتباعه و العمل على طبقه في امتثال امر الشارع و نهيه، و هذا مما يختص بآيات الاحكام دون الاصناف الأخر، اذ لا طلب مولوي فيها له امتثال حتى يجب العمل على طبقه، فحجية الظواهر مما تختص بآيات الاحكام، و بقية الظواهر في غيرها مما لا حجيّة له.

و من الواضح: ان العلم الاجمالي المنجز هو الذي تكون جميع اطرافه مما يدخل تحت الابتلاء في مقام العمل، فان العلم بنجاسة احد الإناءين اللذين كان احدهما في محل الابتلاء و الآخر خارجا عن محل الابتلاء لا تنجز و لا اثر له، فلا يمنع عن جريان الاصل الجاري في الاناء الذي هو محل الابتلاء.

و من الواضح ايضا: ان الظواهر التي لا حجية لها لا ابتلاء فيها في مقام العمل، فهي خارجة عن محل الابتلاء، فلا اثر للعلم بوقوع الاسقاط او التحريف المردّد بين ظواهر آيات الاحكام و غيرها من ظواهره، فلا يمنع هذا العلم الاجمالي عن جريان اصالة الظهور في ظواهر آيات الاحكام، و الى هذا اشار بقوله: «فلو سلّم» أي لو

ص: 243

و إلا لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك، كما لا يخفى (1)، فافهم (2).

______________________________

سلم العلم الاجمالي بالخلل في خصوص الظواهر «فلا» يمنع عن التمسك بظواهر آيات الاحكام لانه لا «علم بوقوعه» في خصوص «آيات الاحكام و العلم بوقوعه فيها او في غيرها من الآيات» المشتملة على ظواهر لا احكام فيها «غير ضائر بحجية آياتها» أي بحجية آيات الاحكام «لعدم حجية ظاهر سائر الآيات» غير المتضمنة للاحكام «و العلم الاجمالي بوقوع الخلل في الظواهر انما يمنع عن حجيتها» فيما «اذا كانت» الظواهر «كلها حجة» و قد عرفت ان الظواهر كلها ليست بحجة، بل الحجة منها خصوص الظواهر المتضمنة للاحكام، فيكون المقام من العلم الاجمالي الذي احد فرديه خارج عن محل الابتلاء، و لا اثر لهذا العلم الاجمالي و لا تنجز له، فلا يمنع عن جريان اصالة الظهور في ظواهر آيات الاحكام.

(1) هذا نقض على من يدعي تاثير العلم بالاسقاط و التصحيف في الكتاب في عدم حجية ظواهر الكتاب المتضمنة للاحكام، و حاصله: انه لو كان هذا العلم- الدائر بين ما هو حجة و غير حجة- مؤثرا في اسقاط حجية ما هو حجة لسقطت الظواهر باجمعها سواء في الكتاب او في الروايات، اذ كل ظاهر منها مبتلى بمثل هذا العلم الاجمالي، لانا نعلم اجمالا بوقوع الاسقاط و التصحيف اما في هذا الظاهر الذي هو من الكتاب و السنة، او في غيره من الظواهر التي لا حجية فيها للعلم اليقيني بوقوع اسقاط و تصحيف في كثير من الظواهر، و لا يعقل الالتزام بسقوط الظواهر باجمعها، و سببه ما عرفت من دوران الامر بين ما هو داخل في الابتلاء و ما هو خارج عنه، و لا تاثير للعلم الاجمالي في مثل ذلك.

(2) لعله اشارة الى ما ذكره اخيرا من النقض: من ان العلم الاجمالي الدائر بين ما هو حجة و غير حجة من الظواهر لا يكون مؤثرا، و إلّا لسقطت الظواهر باجمعها.

ص: 244

.....

______________________________

و حاصل الاشارة: ان المدار في تاثير العلم الاجمالي في اطرافه هو ان يكون خروج الطرف موجبا لعدم بقائه بما هو علم اجمالي، اما اذا كان الخروج لا يخل ببقاء العلم الاجمالي فلا يكون ذلك الخروج موجبا لانحلال العلم و عدم تاثيره.

و النقض المذكور من قبيل الثاني، لان خروج الظواهر غير ظواهر الكتاب لا يوجب خللا بالعلم الاجمالي بالسقوط او التصحيف في خصوص ظواهر الكتاب.

او انه اشارة الى ما يمكن ان يقال: ان ظواهر الكتاب كلها حجة غايته ان الاثر في حجيتها مختلف، فبعضها حجة للعمل على طبقه كآيات الاحكام، و بعضها حجة في مقام جواز حكايته و انه كلام اللّه و انه مما يجوز قراءته في النوافل و انه مما يثاب على قراءته بما هو كلام اللّه، فالعلم الاجمالي دائر بين طرفين كل منهما حجة غايته ان اثر الحجية فيها مختلف، و لا ربط لهذا العلم الاجمالي بالعلم الاجمالي بين ظواهر الكتاب او السنة و غيرها من الظواهر التي لا اثر لها اصلا.

و لكنا نقول: ان العلم الاجمالي في اطراف مختلفة الآثار انما يؤخذ به في الاثر الجامع لها، مثلا لو علمنا اما بنجاسة احد الإناءين او بغصبيته، فالعلم الاجمالي له اثر في وجوب اجتنابه في الوضوء أو الصلاة لانه مشترط بالطهارة و الاباحة، و لا يلتزم بنجاسة الملاقي لاحدهما لو قلنا بنجاسة ملاقي الشبهة المحصورة، و المقام من هذا القبيل فان الكلام في المقام في كون هذا العلم الاجمالي موجبا لسقوط الظهور في آيات الاحكام من حيث التمسك بها و العمل على طبقها، لا في مقام جواز حكايتها بما هي كلام اللّه او قراءتها في النوافل و امثال ذلك، فلا مانع بانحلال هذا العلم الاجمالي بالنسبة الى التمسك بها في آيات الاحكام، و تأثيره في الاثر الجامع لها و لغيرها من آيات الكتاب الشامل هذا الأثر لظواهرها و متشابهاتها، و اللّه العالم.

ص: 245

إخلال القرينة المتصلة بالظهور

نعم لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتصل به، لاخل بحجيته، لعدم انعقاد ظهور له حينئذ، و إن انعقد له الظهور لو لا اتصاله (1).

______________________________

(1) قد عرفت فيما تقدم في باب العام و الخاص انه فرق بين الاجمال في القرائن المنفصلة و الاجمال في القرائن المتصلة، و ان الاجمال في القرائن المنفصلة لا يسري إجمالها الى ظهور العام، و الاجمال في القرائن المتصلة مما يسري اجمالها الى ظهور العام، لعدم انعقاد ظهور له فعلي مع اتصاله بالقرائن المجملة، و يكون من الكلام المحتف بمحتمل القرينية التي لا بناء للعقلاء على التمسك بظهوره.

و هناك فرق بين القرائن المتصلة و المنفصلة المبينة من حيث عدم تمامية الظهور في المتصلة دون المنفصلة، و لكنهما يشتركان في عدم حجية الظهور الفعلي و لو لعدم تماميته في المتصلة و لقيام حجة اقوى منه في المنفصلة.

و على كل حال فان العلم بوقوع الخلل في الظواهر، تارة يكون لاسقاط القرائن المتصلة، و اخرى يكون لاسقاط القرائن المنفصلة، و ثالثة يكون مجملا من هاتين الناحيتين، بان نعلم بالاسقاط و لا يدرى انه لقرينة متصلة او منفصلة.

و لا يخفى انه لو كان العلم بالنحو الاول بان علمنا باسقاط لقرائن متصلة في الظواهر، فان مثل هذا العلم بالخلل موجب لعدم حجية آيات الظواهر المتعلقة بالاحكام و ان كان الطرف الآخر خارجا عن محل الابتلاء، لان اصالة الظهور انما تجري فيما احرز ظهوره لا فيما شك في ظهوره و عدم ظهوره، و مع كون الاسقاط للقرائن المتصلة تكون آيات الاحكام مما شك في انها لها ظهور ام لا؟

و يمكن ان يقال: انه حتى في هذه الصورة يؤخذ بالظهور في آيات الاحكام، لانه بعد الخروج عن محل الابتلاء و عدم تاثير العلم الاجمالي فاحتمال سقوط القرينة المتصلة في آيات الاحكام حاله كحال الاحتمال البدوي في سقوط القرينة المتصلة، فان الظهور الذاتي محفوظ و الظهور الفعلي مشكوك في كليهما، و حيث قام بناء

ص: 246

.....

______________________________

العقلاء على الاخذ بالظاهر في الاحتمال البدوي فطرف العلم الاجمالي الذي لا تاثير له مثله ايضا.

و اما اذا كان العلم بالنحو الثاني فخروج بعض الظواهر عن محل الابتلاء نافع في جريان اصالة الظهور في آيات الاحكام لانعقاد الظهور فيها، و بعد انعقاده لا يسقط إلّا بقيام حجة اقوى منه و هي مشكوكة، فلا مانع من جريان اصالة الظهور.

و اما اذا كان بالنحو الثالث فيمكن ان يدعى ان بناء العقلاء في مثل ذلك ايضا على جريان اصالة الظهور، و لذلك خص الخلل الموجب لسقوط الظواهر عن الحجيّة بالاول، فقال (قدس سره): «نعم لو كان الخلل المحتمل فيه» أي في الظاهر المتضمن للحكم «او في غيره» من الظواهر غير المتضمنة للحكم «ب» اسقاط «ما اتصل به» أي بالظاهر «لأخل بحجيته» و ان كان الطرف الآخر خارجا عن محل الابتلاء «لعدم انعقاد ظهور له حينئذ» بالفعل فلا مجرى لاصالة الظهور لانها انما تجري حيث يحرز الظهور و لا ظهور له بالفعل «و ان» كان قد «انعقد له الظهور لو لا اتصاله» أي ان ما احتمل سقوط القرينة المتصلة منه له ظهور، الّا ان هذا الظهور حيث سقطت القرينة المتصلة به، اما لو كانت موجودة لكان له ظهور آخر و هو بخلاف القرينة المنفصلة، فان الظهور في ما قامت القرينة المنفصلة على خلافه موجود و غاية الامر انه قامت حجة اقوى منه على خلافه.

و بعبارة اخرى: انه في القرينة المنفصلة ظهوران يقدم احدهما على الآخر، و ليس في المتصلة الا ظهور واحد.

و يمكن ان يكون اولى من هذين الجوابين ان نقول: ان الروايات الآمرة بالرجوع الى ظواهر الكتاب لعرض المتعارضين عليه و بردّ ما خالفه من الروايات و الآمرة بالقراءة كما يقرأ الناس- تدل على عدم وقوع التصحيف فيه. و اما الاسقاط فلو كان فلا بد و ان يكون غير متضمن لقرائن لا متصلة و لا منفصلة توجب انقلاب الظهور او عدم صحة الاخذ به لقيام حجة اقوى منه على خلافه.

ص: 247

اختلاف القراءات

ثم إن التحقيق أن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل (يطهرن) بالتشديد و التخفيف، يوجب الاخلال بجواز التمسك و الاستدلال، لعدم إحراز ما هو القرآن، و لم يثبت تواتر القراءات، و لا جواز الاستدلال بها، و إن نسب إلى المشهور تواترها، لكنه مما لا أصل له، و إنما الثابت جواز القراءة بها، و لا ملازمة بينهما، كما لا يخفى (1).

______________________________

(1) قد وقع الاختلاف في القراءات بما يوجب اختلاف الحكم الواحد، فانه بناء على قراءة (يطهرن) بالتخفيف للطاء يكون امد حرمة وطء الحائض ينتهي بالنقاء قبل الغسل.

و بناء على قراءة التشديد للطاء لا يحل وطؤها الا بعد الغسل فلا يجوز وطء من نقت من الحيض و لم تغتسل.

ثم لا يخفى ان القراءات مما تتجاوز السبع، و لكن الكلام في خصوص القراءات السبع من حيث التواتر و عدمه، لا من حيث جواز الاستدلال بها و جواز القراءة بها.

و الحاصل ان الكلام في القراءات من جهات ثلاث أشار اليها في المتن:

الاولى: وقع الكلام في تواتر القراءات السبع، و المراد من التواتر الذي له ثمرة في المقام هو تواترها عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و اما تواترها عن نفس القرّاء السبعة فلا فائدة فيه فيما هو المهم من جواز التمسك بها و الرجوع اليها.

و على كل فقد نسب الى المشهور القول بتواترها عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم كما هو المعروف ان القرآن نزل على سبعة احرف كما صرح به الشهيد الثاني في المقاصد العليّة بقوله:

ان كلا من القراءات السبع من عند اللّه نزل به الروح الامين على قلب سيد المرسلين صلى اللّه عليه و آله و سلّم. و قد خالف في ذلك الشيخ في التبيان و الطبرسي في مجمع البيان، و وافقهم جماعة المتأخرين فانكروا تواتر القراءات السبع عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و يشهد له ما في

ص: 248

.....

______________________________

الصحيح عن الفضيل انه قال له ان الناس يقولون ان القرآن نزل على سبعة احرف، فقال عليه السّلام: (كذب اعداء اللّه و لكنه نزل بحرف واحد من عند الواحد) و يؤيد عدم كون التواتر عن النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم بل هو عن القرّاء ما في كتب بعض علماء القراءة من عدّ قراءة النبي نفسه صلى اللّه عليه و آله و سلّم في ضمن تعداد القراءات.

إلّا ان يقال انه لا ينافي ان يكون قراءة يختص بها في مقام قراءة القرآن التواتر عنه، لامكان انه صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقرأ بواحدة منها مع كونه صلى اللّه عليه و آله و سلّم قد صدع بالقراءات الآخر و اوحى بها اليه و بينها، و لكنه كانت قراءته الخاصة واحدة منها. إلّا انه بعيد جدا.

و على كل حال فالمصنف ممن لا يرى تواتر القراءات، و لذا قال (قدس سره):

«و لم يثبت تواتر القراءات» ثم صرّح بان التواتر «مما لا اصل له».

الجهة الثانية جواز الاستدلال بها و ان لم تكن متواترة. و لا يخفى انه بعد عدم ثبوت تواترها فجواز الاستدلال بالقراءات السبع او بها و بغيرها من القراءات يحتاج الى دليل يدل على ذلك، حتى لو علمنا اجمالا بان قراءة النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم احدها فانه يكون من اشتباه الحجة باللاحجة، فالاستدلال بها جميعا مما يحتاج الى دليل من الشارع يدل عليه.

و ما يمكن الاستدلال به هو الاطلاق في ادلة الرجوع الى الكتاب في مقام عرض الاخبار المتعارضة عليه ورد الخبر المخالف له و الاخذ بالخبر الموافق له و بالاخبار الآمرة بالقراءة كما يقرأ الناس.

و الجواب عنه: اما عن أدلة الرجوع الى الكتاب في مقام التعارض و في ردّ المخالف و الاخذ بالموافق، فبأن الأئمة عليهم السّلام قد ذكروا قراءة النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و انها هي التي نزل بها الروح الامين، و قد ورد عنهم انه نحن نقرأ هكذا، و بعد ان كان الكتاب نزل على قراءة واحدة لا غير و قد بينوها للناس، فالمراد من الكتاب الذي هو المرجع

ص: 249

و لو فرض جواز الاستدلال بها، فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون الاصل في تعارض الامارات هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى، بناء على اعتبارها من باب الطريقية، و التخيير بينها بناء على السببية، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الامارات (1)، فلا بد من الرجوع حينئذ إلى الاصل أو العموم، حسب

______________________________

في مقام التعارض في الاخبار و في مقام الرد و الاخذ هو الكلام المنزل من اللّه دون الكلام الذي هو كلام القرّاء.

و اما عن الاخبار الآمرة بالقراءة كما يقرأ الناس فغاية ما يستفاد منها هو جواز القراءة بالقراءات السبع و غيرها، و لا ملازمة بين جواز القراءة بالقراءات و بين جواز الاستدلال بها، و لذا قال (قدس سره): «و لا جواز الاستدلال بها» أي بالقراءات «و ان نسب الى المشهور تواترها لكنه مما لا اصل له».

و لا يخفى انه بناء على تواترها فجواز الاستدلال بها مما لا اشكال فيه و لا يحتاج الى دليل يدل عليه، و انما يحتاج الى ذلك حيث لا يكون هناك تواتر، و قد عرفت انه لا تواتر و لم يثبت جواز الاستدلال بها ايضا، و قد أشار الى عدم ثبوته بحصر ما ثبت عنهم عليهم السّلام في جواز القراءة بالقراءات فقط، و انه لا ملازمة بينه و بين جواز الاستدلال بها بقوله: «و انما الثابت جواز القراءة بها و لا ملازمة بينهما».

(1) هذه هي الجهة الثالثة، و لا يخفى ان الكلام في هذه الجهة اما مبني على جواز الاستدلال بالقراءات او فيما اذا كانت الروايات الواردة عن الأئمة عليهم السّلام مختلفة في حكاية قراءة النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم بناء على السببيّة أو الطريقية.

و على كل فحاصل الكلام في هذه الجهة الثالثة: انه بعد جواز الاستدلال بها و صحة التمسك بما دلت عليه فاذا اختلفت القراءات بحيث يستلزم الاختلاف فيها اختلاف الحكم كما في يطهرن و يطّهرن بالتخفيف و التشديد، كما عرفت في صدر هذه المسألة- فهل يعامل معها معاملة المتعارضين في الروايات المتعارضة من كون

ص: 250

.....

______________________________

القاعدة الاولى هي السقوط في المدلول بناء على الطريقية و التخيير بناء على السببية، و القاعدة الثانية هي التخيير مطلقا او التخيير بعد انتفاء ادلة الترجيح كما سيأتي تفصيله في باب التعارض؟

او يعامل معها معاملة المتعارضين في غير الروايات من ان القاعدة الاولى فيها هي السقوط في المدلول بناء على الطريقية و التخيير بناء على السببية لان هذه القاعدة مما تعم التعارض في الآيات ايضا؟ فان كلا من الآية و الرواية لها ظهور يستلزم الحكم، فكل منهما أمارة على كون مؤداه حكما، و انما الاختلاف بينهما في الصدور فان الآية قطعية الصدور و الرواية ظنية الصدور، و اما في الظهور فلا يختلفان فانه في كل منهما ظني لا قطعي، و النتيجة تنبع اخس المقدمات، فالحكم المستفاد من مؤدى كل منهما ظني لظنية الظهور فيها. فان قلنا بالطريقية و ان المجعول هو الحجية او الحكم الطريقي الى الحكم الواقعي فالقاعدة تقتضي سقوط المتعارضين لتزاحمها في الحجية في مقام اثبات الحكم الواقعي او الحكم المماثل له. و اما بناء على السببية و جعل الحكم النفسي على طبق مؤدى الامارة لمصلحة تقتضيه فالقاعدة تقتضي التخيير، لان تركهما معا ترك المصلحة الملزمة قطعا للعلم بوجود المصلحتين معا في كليهما، و التعارض يوجب عدم امكان الجمع بينهما فلا بد من الاخذ باحدهما تحصيلا لاحدى المصلحتين، و لا يجوز تركهما لانه ترك للمصلحة الملزمة.

و بعبارة اخرى: انه في السببيّة الاخذ باحدهما مما يوجب العلم بادراك المصلحة، بخلاف الطريقية فانه في الاخذ باحدهما لا نعلم بادراك المصلحة لامكان خطأ الطريق الذي أخذنا به، مضافا الى احتمال خطأ هما معا في بعض المقامات، و سيأتي التفصيل في باب التعارض إن شاء اللّه تعالى.

و على كل فالقاعدة الاولى هي التساقط في المؤدى بناء على الطريقية و التخيير بين المؤديين بناء على السببية.

ص: 251

اختلاف المقامات (1).

______________________________

و اما على القاعدة الثانية المستفادة من الاخبار الواردة في المتعارضين و هي التخيير مطلقا او بعد ملاحظة المرجحات و الترجيح باحد المرجحات لو كان و إلّا فالتخيير- فهذه القاعدة مما لا تشمل الآيات بل تختص بخصوص الروايات المتعارضة، لأن موردها سؤالا و جوابا مما يختص بالروايات دون الآيات، كقوله يأتي عنكم الروايتان المتعارضتان فبأيهما اخذ، و قوله في بعضها قد اختلف اصحابنا فيما رووا عنكم فيقول عليه السّلام في بعضها: بأيهما اخذت من باب التسليم وسعك، و يقول في بعضها الآخر خذ باعدلهما او اشهرهما الى آخر الحديث المشتمل على المرجحات، و هذه الروايات ظاهرة في ان المسئول عنه هو تعارض الروايات، و ظاهر الجواب في قوله بايهما اخذت او خذ باعدلهما هو خصوص تعارض الروايات ايضا، و لا عموم فيها و لا اطلاق يشمل تعارض الآيات، ففي تعارض الآيات القاعدة الاولى هي المحكمة فقط، و قد اشار الى كون القاعدة الاولى هي المرجع في تعارض الآيات بقوله: «فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون الاصل الى آخر كلامه». و قد اشار الى اختصاص القاعدة الثانية بالروايات بقوله: «مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات».

(1) لا شبهة في كون المرجع- أولا- بعد التعارض في الآيات هو العمومات و الاطلاقات، فان لم يكن عموم او اطلاق فحينئذ يرجع الى الاصول العملية، فالرجوع الى الاصول متأخر عن الادلة اللفظية.

إلّا انه قد وقع الكلام في بعض المقامات في كون المرجع هو العموم او الاصل للاختلاف في الصغرى، و انه لا عموم و لا اطلاق مما يشمل المورد كما في الخاص الخارج عن عموم العام في زمان معين، فبعد انقضاء ذلك الزمن فهل المرجع هو عموم العام او استصحاب المخصص؟ مثل حرمة وطء الحائض في زمن النقاء بعد تعارض القراءتين و تساقطهما، فهل يرجع فيه الى العموم الدال على جواز وطء

ص: 252

الشك في الظهور لاحتمال وجود القرينة

فصل قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام: فإن أحرز بالقطع و أن المفهوم منه جزما- بحسب متفاهم أهل العرف- هو ذا فلا كلام (1)، و إلا

______________________________

الزوجة او ان المرجع فيه هو استصحاب حرمة الوطء للحائض الخارجة عن العام في زمان الحيض قطعا؟ فمن يقول باستصحابها في حال النقاء يرى انه لا شمول للعام في هذا الزمن، و من يقول بجواز الوطء في حال النقاء يرى شمول العام لهذا الزمن، و سيأتي تفصيله في باب الاستصحاب إن شاء اللّه تعالى.(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 5 ؛ ص253

على كل فسبب الخلاف هو النزاع في الصغرى و إلّا فمع تسليم شمول العام فلا يرجع الى الاصول العملية.

و على كل فان قلنا بان المرجع في المقام هو عموم العام فيجوز الوطء في مدة النقاء قبل الغسل، و ان قلنا بانه لا عموم للعام يشمل المقام فان قلنا بان الموضوع في الاستصحاب مبنيّ على الدقة فيكون الموضوع هو المرأة الحائض دون نفس المرأة، و كذلك لو قلنا بان الموضوع في الاستصحاب هو لسان الدليل فان لسان الادلة هو الحائض و على هذين لا رجوع الى الاستصحاب و المرجع هي البراءة، و النتيجة جواز الوطء ايضا، و ان قلنا بان الموضوع في الاستصحاب هو العرف و ان الموضوع عندهم في المقام هي المرأة فيكون المرجع استصحاب الحرمة.

(1) قد عرفت فيما سبق ان بناء العقلاء قد استقر على التمسك بالظهور، و المراد من الظهور هو قالبيّة اللفظ للمعنى بحسب المتفاهم العرفي سواء كان ذلك المعنى هو الموضوع له اللفظ لغة و استمر على ذلك، او كان قد نقل الى معنى غير معناه الاصلي و لكنه كان بحيث لا يفهم منه عند اهل العرف الا المعنى الثاني، و اذا اريد به غير المعنى الثاني لا بد من وجود صارف يصرف اللفظ عن المعنى العرفي، او كان دالا على المعنى الثاني لا للوضع بل لقرينة عامة توجب كونه قالبا للمعنى الثاني دون الاول، كدلالة الامر عقيب الحظر على عدم الوجوب، و كدلالة الامر في المعاملات

ص: 253


1- 26. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

.....

______________________________

على الارشاد الى ترتب الاثر، او كان لقرينة موجودة فعلا توجب ظهوره في معنى غير معناه الموضوع له.

و الحاصل: ان المراد من الظهور هو قالبيّة اللفظ للمعنى بالفعل في متفاهم اهل العرف سواء كان لوضع اولي او ثانوي او لقرينة عامة او لقرينة خاصة، و الى هذا اشار بقوله: «ان المفهوم منه جزما بحسب متفاهم اهل العرف هو ذا» سواء كان للوضع الاولي او للوضع الثانوي او للقرينة العامة او للقرينة الخاصة.

و على كل فاذا قطعنا بان للفظ ظهورا في معنى بحسب المتفاهم العرفي، و قطعنا ايضا بعدم صدور قرينة على خلافه كما لو علمنا بوضع لفظ لمعنى و علمنا ايضا بان المتكلم لم ينصب قرينة على صرف هذا اللفظ عما هو ظاهر فيه فلا اشكال في لزوم العمل على طبقه، و انما قيّدنا العلم بالوضع بالعلم بعدم نصب القرينة فيكون القسم الاول- و هو قوله فان احرز بالقطع- منحصرا في هذه الصورة، لئلا يرد على هذا التقسيم بان المراد من الظهور المحرز بالقطع اما ان يكون هو الظهور الذاتي فلا تقع المقابلة بين هذا القسم الاول و القسم الثاني المنقسم الى الاقسام الثلاثة، لان القسمين الاولين من القسم الثاني الظهور الذاتي فيهما ايضا محفوظ. نعم في القسم الثالث من القسم الثاني لا ظهور ذاتي.

و ان كان المراد من الظهور المحرز بالقطع هو الظهور الفعلي فالمقابلة بين القسم الاول و الثاني ليس بجميع اقسامه الثلاثة، لان القسم الاول من القسم الثاني الظهور الفعلي ايضا فيه محفوظ فيما اذا كان الشك لاحتمال عدم وصول القرينة المنفصلة.

فاتضح انه لا تتم القسمة الّا بتقييد القسم الاول بما ذكرنا، و الى هذا اشار بقوله:

«فان احرز بالقطع» الى قوله «فلا كلام» في لزوم الاخذ به و انه حجة عند العقلاء و لا مجرى لاصالة عدم القرينة بعد فرض العلم بعدم القرينة، و اذا احتملنا في هذا الفرض عدم ارادة المتكلم للظاهر فالمرجع اصالة الظهور.

ص: 254

فإن كان لاجل احتمال وجود قرينة فلا خلاف في أن الاصل عدمها (1)، لكن الظاهر أنه معه يبنى على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء، لا أنه يبنى عليه بعد البناء على عدمها، كما لا يخفى (2)،

______________________________

(1) قد عرفت انه اذا قطعنا بالظهور و قطعنا بعدم القرينة فالظهور حجة، و ان احتمال عدم ارادته منفي باصالة الظهور. و اما مع عدم القطع فتارة: يكون الشك لاجل احتمال وجود قرينة قد صدرت من المتكلم و لكنها لم تصل الينا، و لو وصلت الينا لكان للكلام ظهور آخر غير الظهور الفعلي، فهذا الظهور الفعلي انما هو حيث تنفى القرينة و هو المسمى بالظهور اللولائي: أي الظهور الذي لو كانت القرينة واصلة لم يكن هذا الظهور الفعلي بموجود بل كان الظهور الفعلي غيره، فلو قال المولى جئني بأسد و احتملنا وجود قرينة قد صدرت منه و هي مثل قوله يحمل سيفه و لكنها قد سقطت و لم تصل، فان الشك ابتداء و ان لم يكن في ظهور لفظ الأسد في الحيوان المفترس، الّا انه لو كانت القرينة واصلة لا وجبت كون لفظ الأسد ظاهرا في الرجل الشجاع لا الحيوان المفترس، فالشك في وجود القرينة يوجب الشك في ظهور لفظ الأسد في الحيوان و ان لم يكن الشك في قالبية لفظ الأسد للحيوان، فان لفظ الأسد انما يكون له ظهور في الحيوان حيث لا تكون القرينة فهو ظهور لو لا القرينة، و قد انتهى الشك مع احتمال القرينة الى الشك في ظهور لفظ الأسد في الحيوان المفترس، و لا اشكال عند العقلاء في البناء على عدم قدح هذا الاحتمال في الاخذ بالظاهر و حمل لفظ الأسد على الحيوان المفترس، و هذا مراده بقوله: «فلا خلاف في ان الاصل عدمها».

(2) قد عرفت انه لا اشكال في عدم قدح هذا الاحتمال و البناء على عدم القرينة، و لكن الاشكال في ان عدم اعتنائهم بهذا الاحتمال هل هو لبنائهم على اصالة الظهور و الاخذ بهذا الظهور اللولائي كما ذهب اليه المصنف؟ او لبنائهم على اصالة الحقيقة و بعد البناء عليها يتم الظهور عندهم و ياخذون به كما يظهر من صاحب

ص: 255

.....

______________________________

الفصول؟ او لبنائهم على اصالة عدم القرينة و ان الاصول الوجودية عند العقلاء كلها ترجع الى الاصول العدمية كما يظهر من الشيخ الاعظم؟

و توضيح الحال: ان لازم ما يراه صاحب الفصول و ما يراه الشيخ ان عند العقلاء بناءين: بناء على الاخذ بالظاهر في مقام العمل، و بناء آخر على نفي ما ينافي هذا الظاهر اذا شك في وجوده، و يكون بناؤهم العملي متاخرا عن بنائهم على نفي احتمال وجود القرينة، لوضوح كون العمل على طبق ما هو الظاهر انما يكون بعد البناء على عدم هذا الاحتمال.

و اما على رأي المصنف فلا يكون للعقلاء بناءان بل بناء واحد، و هو العمل على طبق الظهور حيث لا يصل كاشف اقوى منه، و انه لا اثر عندهم للكاشف بوجوده الواقعي.

و بعبارة اخرى: ان الاثر عندهم انما هو لما يصل اليهم، و اما غير الواصل فلا اثر له عندهم حتى يحتاج الى بناء على رفعه و نفيه، فالمنافي للظاهر بوجوده الواقعي لا قابلية له للمانعية حتى يحتاج الى بناء منهم على عدم تاثير هذا المانع.

و بعبارة اخرى: ان المانعية عندهم تلازم الوصول، فالمنافي بوجوده الواقعي غير الواصل لا مانعية فيه حتى يحتاج الى عدمها بالبناء على عدم المانع، و الى هذا اشار بقوله: «لكن الظاهر انه معه» أي انه مع احتمال وجود القرينة و عدم وصولها «يبنى على المعنى الذي لولاها» أي لو لا القرينة «كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء» أي المرجع هو اصالة الظهور الذي هو ظهور بالفعل حيث لا قرينة، و لو كانت القرينة واصلة لكان هناك ظهور آخر غيره، فالمرجع لرفع هذا الاحتمال و عدم الاعتناء به هو اصالة الظهور «لا انه يبنى عليه» أي لا انه يبنى على التمسك بهذا الظهور «بعد البناء على عدمها» أي بعد البناء على عدم القرينة فان لازمه كون المرجع هو اصالة عدم القرينة.

ص: 256

فافهم (1).

و إن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو، و إن لم يكن بخال عن الاشكال- بناء على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد- إلا أن الظاهر

______________________________

و مما ذكرنا يظهر ما في دعوى صاحب الفصول من دعوى اخذ العقلاء باصالة الحقيقة، فان مرجعها الى دعوى التمسك بالظهور الذاتي، و من الواضح ان العقلاء يتمسكون بما هو اعم من الظهور الذاتي و هو كون اللفظ مفهما للمعنى بالفعل سواء كان موضوعا له اولا، و لو لقرينة عامة او انصراف او غير ذلك.

(1) لعله إشارة الى ان المرجع في مقام العمل هو بناء العقلاء على الاخذ بالظهور، و ليس لهم بناءان كما عرفت إلّا ان كيفية الاحتجاج من العبد على مولاه تختلف.

فان المولى لو لم ينصب قرينة و لكنه كان قد اراد من هذا الظاهر خلاف ما هو ظاهر فيه، فاذا قال لعبده لم أتيت بهذا الظاهر فاني لم ارده واقعا، فان العبد يحتج عليه ببناء العقلاء على الاخذ بالظاهر حتى يصل ما هو اقوى منه دالا على خلافه.

و اما اذا نصب قرينة و لم تصل فان مطالبة المولى لعبده لها كيفية اخرى، فانه يقول لم أتيت بهذا الظاهر و قد نصبت قرينة على عدم ارادته، و حينئذ يحتج العبد عليه بان الأصل عند العقلاء عدم القرينة حتى تصل، و لكن ليس ذلك لبنائهم على عدم القرينة، لما عرفت من انه ليس للعقلاء إلّا بناء واحد و هو الاخذ بالظاهر، بل الاحتجاج على المولى بعدم القرينة من باب الاحتجاج بعدم قيام الحجة لا بالبناء على العدم.

و يمكن ان يكون اشارة الى ان المرجع بعد ما عرفت هو اصالة الظهور و انه ليس للعقلاء بناءان، فهو كما ينفي كون المرجع هو اصالة عدم القرينة كما يراه الشيخ، كذلك ينفي اصالة الحقيقة كما هو دعوى صاحب الفصول.

ص: 257

الشك في الظهور لاحتمال قرينيّة الموجود

أن يعامل معه معاملة المجمل (1)، و إن كان لاجل الشك فيما هو الموضوع له لغة أو المفهوم منه عرفا، فالاصل يقتضي عدم حجية الظن فيه، فإنه

______________________________

(1) قد عرفت ان الشك في الظهور، تارة: يكون لاحتمال ارادة المولى خلافه و لم ينصب قرينة، و اخرى: يكون لاحتمال نصب قرينة و لم تصل، و لا اشكال في هذين الفرضين ان البناء فيهما على الاخذ بالظهور عند العقلاء.

و ثالثة يكون الشك في الظهور لاحتمال قرينية الموجود بان كان الكلام محتفا بمحتمل القرينية، كالاستثناء المتعقب لجمل متعددة، فيما اذا قلنا بان رجوعه الى الاخيرة من باب القدر المتيقن، و اما بالنسبة الى الجمل السابقة عليها فيحتمل رجوعه اليها فيكون الاستثناء بالنسبة اليها من مصاديق احتمال قرينية الموجود لا من مصاديق احتمال القرينة، فهل يكون للجمل السابقة على الاخيرة ظهور في الاطلاق ام لا؟

و توضيح الحال: ان بناء العقلاء على الاخذ بالظاهر: ان كان لاجل كشف الظاهر كشفا نوعيا عن معناه، ففي مثل الشك لاحتمال قرينية الموجود لا يكون كشفا نوعيا، لان الكاشف النوعي هو الكلام الدال على المعنى بمجموع ما يلحقه من قيد أو اضافة او قرينة، و الكلام المحتف بمحتمل القرينية لجواز كون ما لحقه قرينة لا يكون له بمجموعة كشف فعلي عن المعنى المراد به.

و بعبارة اخرى: ان بناء العقلاء على الاخذ بمعنى اللفظ الذي لم يحتف بما يمكن ان يكون قرينة على معنى غير المعنى الذي يكون اللفظ دالا عليه لو لا القرينة، فالكلام المحتف بمحتمل القرينية ليس له ظهور فعلي عند العقلاء، فلا ظهور بناء على هذا يؤخذ به.

و ان كان بناء العقلاء على الاخذ بالظاهر لبنائهم على عدم وجود القرينة فلا يكون لهم بناء ايضا في مثل هذا على الاخذ بالظاهر اذ المفروض وجود ما يحتمل كونه قرينة.

ص: 258

.....

______________________________

و ان كان بناؤهم على الاخذ بالظاهر لبنائهم على اصالة الحقيقة من باب التعبد، و معناه هو بناؤهم على الاخذ بالمعنى الحقيقي للفظ و ان لم يكن له كشف نوعي بحسب العرف.

و بعبارة اخرى: ان للفظ دلالة ذاتية و دلالة فعلية، و الدلالة الذاتية هو ان للفظ معنى كان اللفظ بداته قالبا له، و الدلالة الفعلية هي كون ما له الدلالة بالذات دالا بالفعل عند العرف، بمعنى انه عند العرف صالح لتفهم معناه بالفعل، و قد عرفت ان الصالح لتفهيم المعنى بالفعل هو اللفظ المجرد عما يحتمل قرينيته.

و على كل فمعنى اصالة الحقيقة من باب التعبد هو دعوى ان العقلاء يأخذون بالدلالة الذاتية و يبنون على عدم ما ينافي هذه الدلالة، إلّا ان يكون المنافي له ظهور في المنافاة، و على هذا لا يكون السبب للاخذ بالظهور عند العقلاء هو صلوح اللفظ بالفعل لتفهيم المعنى، بل يكون السبب مجهولا و غير معلوم، و هذا معنى التعبد اذ ليس التعبد الا الأخذ بالشي ء مع جهالة سببه كالاخذ بالاحكام الشرعية، و حينئذ يكون محتمل القرينية كاحتمال وجود القرينة في عدم مصادمته لحجية الظهور، و الى هذا اشار بقوله: «فهو و ان لم يكن بخال عن الاشكال بناء على حجية اصالة الحقيقة من باب التعبد» و حيث ان هذا المبنى الاخير غير صحيح لانا نرى العقلاء يعاملون مع الظاهر المحتف بمحتمل القرينية معاملة المجمل بالذات، و هو الذي لا ظهور له بالذات، و ان المجمل عندهم سواء كان مجملا بالذات كلفظ المشترك الخالي عن القرينة المعينة او كان مجملا بالعرض كمثل الظاهر المحتف بمحتمل القرينية لا بناء منهم على الاخذ به مطلقا، فيكشف ذلك ان بناء العقلاء هو اما للكشف النوعي أو لاصالة عدم القرينة، و هما مفقودان في المقام فلا بناء منهم في المقام على الاخذ بهذا الظاهر.

و مما ذكرنا ظهر ان السبب لاخذ العقلاء ليس امرا مجهولا، بل هو اما للكشف النوعي او لاصالة عدم القرينة، فلا وجه لدعوى تعبد العقلاء بالتمسك باصالة

ص: 259

حجيّة قول اللغوي

ظن في أنه ظاهر، و لا دليل إلا على حجية الظواهر (1).

نعم نسب إلى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الاوضاع (2)، و استدل لهم باتفاق العلماء بل العقلاء على ذلك، حيث

______________________________

الحقيقة، فلذا قال: «إلّا ان الظاهر» من عمل العقلاء و هو «ان يعامل معه» أي ان يعامل مع الظاهر المحتف بمحتمل القرينية الذي هو مجمل بالعرض «معاملة المجمل» بالذات.

(1) قد عرفت ان موضوع الحجية هو اللفظ الظاهر في معناه، و كل موضوع له حكم لا بد من احرازه اما بالقطع او بحجة تقوم على احرازه كاحراز الموضوعات بالبينة.

و الفرق بين الشك في الظهور لاجل الشك فيما هو الموضوع له لغة، و بين الشك في الظهور لاحتمال وجود القرينة او لاحتمال قرينية الموجود أن المفروض في هذا انه لا ظهور للفظ، فهل الظن يوجب ان يكون له ظهور ام لا؟ و في الشك لاجل احتمال وجود القرينة أو قرينية الموجود المفروض فيهما وجود الظهور، و لكن الشك هل يكون مانعا عن التمسك به كما في الاول او يكون موجبا لاجماله عرضا كما في الثاني؟

و على كل فلما كان موضوع الحجية هو الظهور، و ان المفروض انه لا ظهور و لا بد من احراز الظهور الذي هو موضوع الحجية اما بالقطع او بالحجة- يتبين ان القاعدة تقتضي عدم ثبوت الظهور بالظن به لعدم حجية مطلق الظن و عدم الدليل على حجية خصوص الظن بالظهور، و لذا قال (قدس سره): «فالاصل يقتضي عدم حجية الظن فيه فانه» غاية ما يستفاد منه انه «ظن في انه ظاهر و لا دليل الا على حجية الظواهر» المحرزة اما بالقطع او بما هو حجة، و قد عرفت ان الظن ليس بحجة لا مطلقا و لا بالخصوص.

(2) النزاع في المقام في ان قول اللغوي هل هو حجة بالخصوص في تعيين ما هو الموضوع له اللفظ فيكون اللفظ ظاهرا في معناه لوضوح ظهور اللفظ في المعنى

ص: 260

لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد، و لو مع المخاصمة و اللجاج، و عن بعض دعوى الاجماع على ذلك.

و فيه: أن الاتفاق- لو سلم اتفاقه- فغير مفيد، مع أن المتيقن منه هو الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد و العدالة.

و الاجماع المحصل غير حاصل، و المنقول منه غير مقبول، خصوصا في مثل المسألة مما احتمل قريبا أن يكون وجه ذهاب الجل لو لا الكل، هو اعتقاد أنه مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة فيما اختص بها.

و المتيقن من ذلك إنما هو فيما إذا كان الرجوع موجبا للوثوق و الاطمئنان، و لا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالاوضاع، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أن همه ضبط موارده، لا تعيين أن أيّا منها كان

______________________________

الموضوع له بعد ثبوت كون هذا المعنى الخاص هو الموضوع له اللفظ؟ أم ليس بحجة و ان قول اللغوي لا حجية له في تعيين الاوضاع؟

و قد نسب الى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين ما هو الموضوع له، فهو عندهم من الظنون النوعية الخاصة التي قام الدليل على اعتبارها، فلو تمّ ما استدلوا به لكان دليلا على حجية هذا الظن النوعي الحاصل من قول اللغوي بالخصوص في اثبات الموضوع له اللفظ، و لذا قال (قدس سره): «نعم نسب الى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص» أي بما انه لغوي قوله يكون حجة «في تعيين الاوضاع».

ص: 261

اللفظ فيه حقيقة أو مجازا، و إلا لوضعوا لذلك علامة، و ليس ذكره أولا علامة كون اللفظ حقيقة فيه، للانتقاض بالمشترك (1).

______________________________

(1) ينحل هذا الاستدلال الى وجوه ثلاثة: اتفاق العلماء و اتفاق العقلاء و دعوى الاجماع المحكى عن علم الهدى (قدس سره) على حجية قول اللغوي في تعيين الاوضاع.

اما الوجه الاول و هو اتفاق العلماء، ففيه اولا: انا لا نسلم اتفاقهم على ذلك.

و ثانيا: ان المراد باتفاق العلماء اما ان يكون هو الاتفاق قولا من العلماء، او الاتفاق العملي الراجع الى سيرتهم العملية.

فان كان المراد الاتفاق منهم قولا فلا دليل على كونه موجبا لحجية ما يقع الاتفاق عليه اذ لم يرجع الاتفاق الى الاجماع، فاذا رجع الى الاجماع لا يكون دليلا في قبال الاجماع، و سيأتي الجواب عن دعوى الاجماع.

و ان كان المراد من الاتفاق هو سيرة العلماء عملا.

و سيرتهم اما ان ترجع الى سيرتهم بما هم عقلاء فلا يكون دليلا في قبال دعوى بناء العقلاء و سيرتهم العملية المدعاة في المقام على حجية قول اللغوي، و اما ان ترجع الى سيرتهم بما هي سيرة المتشرعة، فيكون محصلها دعوى سيرة المتشرعة بما هم متشرعة و اهل دين يرجعون في تعيين موضوع الحكم الى قول اللغوي.

و لكنه لم تثبت سيرة المتشرعة بما هم متشرعة على ذلك، و خصوصا و السيرة لا لسان لها و انما هي عمل، و لعل عمل العلماء كان منهم بما هم عقلاء لا متشرعة.

و ثالثا: ان المتيقن من اتفاق العلماء بما انهم متشرعة و اهل الدين على الاخذ بقول اللغويين حيث تجتمع شرائط الشهادة، فلا بد من عدالة اللغوي و انه اكثر من واحد.

و اما الوجه الثاني الراجع الى دعوى سيرة العقلاء عملا على الاخذ بقول اللغوي و لم يردع عنها فتكون حجة على ذلك.

ص: 262

.....

______________________________

فالجواب عنها من وجوه، الاول: انه ليس للعقلاء سيرة على حجية قول اللغوي بخصوصه، و غاية ما يدعى ان سيرتهم قائمة على الاخذ بقول اهل الخبرة بان بناء العقلاء قد استقر على الرجوع الى اهل الخبرة بما هم اهل خبرة، ذلك الشي ء غير المقيدة بكون صاحب الخبرة مسلما فضلا عن كونه عادلا، و هي ليست من باب حجية خبر اهل الخبرة في نقله، بل هي حجية اهل الخبرة في آرائهم المبنيّة على الحدس، فقول اللغوي انما يدعى سيرة العقلاء عليه لانه من مصاديق هذه الكبرى، لا لانه لغوي بالخصوص، بل لكون اللغوي من اهل الخبرة.

الوجه الثاني: انه لا نسلم ان سيرة العقلاء قائمة على الاخذ بقول اهل الخبرة مطلقا، بل القدر المتيقن هو قيام السيرة منهم على الاخذ بقول اهل الخبرة اذ حصل منه الوثوق و الاطمئنان، و المدعى في المقام حجية قول اللغوي مطلقا و ان لم يحصل منه الوثوق، و لم تثبت سيرة العقلاء على الاخذ بقول اهل الخبرة و ان لم يحصل منه الوثوق و الاطمئنان.

و من الواضح انه لا يحصل بقول واحد من اللغويين وثوق و لا اطمئنان. و اما قول جماعة منهم بحيث يحصل منه الوثوق و الاطمئنان فلا يكون دليلا على حجية قول اللغوي بما هو لغوي، بل انما يدل على حجية ما يحصل منه الوثوق و الاطمئنان و هذا غير المدعى في المقام.

الوجه الثالث: ان اللغوي ليس من اهل الخبرة في تعيين الاوضاع، و انما هو من اهل الخبرة في تعيين موارد الاستعمال.

و الشاهد على كون اللغوي من اهل الخبرة بموارد الاستعمال لا من اهل الخبرة في تعيين الاوضاع- انهم في مقام ذكر معاني اللفظ لم يجعلوا علامة للمعاني الحقيقية تميّزها عن المعاني المجازية، و لا اشكال في ان كثيرا من المعاني التي يذكرونها للفظ من المعاني المجازية.

فهذا يدل على ان همّ اللغوي ضبط موارد الاستعمال دون تعيين الاوضاع.

ص: 263

.....

______________________________

و احتمال كون المعنى الذي يذكر أولا هو المعنى الحقيقي و المعاني الأخر هي المعاني المجازية باطل، اولا: لانهم لا تصريح لهم بذلك، و ثانيا: لانتقاضه بالمشترك، فانه لو كان المعنى الاول هو المعنى الحقيقي للزم ان ينصّوا في المشترك على ان هذه المعاني كلها حقيقة.

فاتضح مما ذكرنا ان اللغوي ليس من اهل الخبرة في تعيين الاوضاع، بل في تعيين موارد الاستعمال.

و من الواضح ان الاستعمال اعم من الحقيقة، فلا يفيد قول اللغوي في تعيين ما هو الموضوع له ليكون للفظ ظهور فيه، لان اللفظ المستعمل من غير قرينة يكون ظاهرا في معناه الحقيقي دون بقيّة معانيه.

و اما الثالث: و هو دعوى الاجماع المحكى عن السيد علم الهدى على حجيّة قول اللغوي في تعيين الاوضاع، ففيه اولا: ان الاجماع المنقول لا نقول بحجيّته و المحصّل منه هو الحجة، و لا شك ان الاجماع المدعى في المقام من المنقول لا من المحصّل.

و ثانيا: انه لو قلنا بحجيّة الاجماع مطلقا حتى المنقول فلا نقول بحجيّة هذا النحو من الاجماع المنقول، لان حجية الاجماع عندنا انما هو لاجل دخول قول الامام عليه السّلام في ضمن المجمعين او لكشفه عن رأي الامام عليه السّلام، و لازم ذلك ان يكون الاجماع الذي هو حجة بما هو اجماع ان لا يكون محتمل المدرك، لان محتمل المدرك لا يستلزم دخول الامام في ضمن المجمعين و لا يكون كاشفا عن رأيه، و الاجماع المنقول في المقام من محتمل المدرك، لاحتمال ان ذهاب المجمعين اما كلهم او جلهم لانهم يعتقدون ان قول اللغوي من مصاديق بناء العقلاء على حجية اهل الخبرة و اللغوي من مصاديقه.

و قد اشار الى المناقشة الاولى في دعوى اتفاق العلماء بقوله: «ان الاتفاق لو سلم»، و الى الثانية بقوله: «فغير مفيد»، و الى الثالثة بقوله: «مع ان المتيقن الى آخر الجملة»، و اشار الى ما في دعوى الاجماع أولا بقوله:

ص: 264

و كون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن تحصى، لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالبا، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه، و إن كان المعنى معلوما في الجملة (1) لا يوجب اعتبار قوله، ما

______________________________

«و الاجماع المحصّل الى آخر الجملة»، و ثانيا بقوله: «خصوصا في مثل المسألة الى آخر الجملة» و اشار الى ما في دعوى اتفاق العقلاء اولا بقوله: «انه مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع الى اهل الخبرة»، و ثانيا بقوله: «و المتيقن من ذلك الى آخر الجملة»، و ثالثا بقوله: «بل لا يكون اللغوي الى آخر الجملة»، و الى ما ذكرنا من الشاهد على كون اللغوي ليس من أهل الخبرة في تعيين الاوضاع بقوله: «و الّا لوضعوا الى آخر الجملة».

(1) هذا وجه رابع ذكره الشيخ الاعظم في رسائله لحجيّة قول اللغوي، و هو دليل انسداد صغير في خصوص المقام، و هو مركب من مقدمات:

الاولى: ان باب العلم و العلمي منسدّ في تفاصيل المعاني غالبا بحيث يعلم على وجه الضبط و التحقيق الفرد الداخل من الفرد الخارج.

الثانية: ان الرجوع الى البراءة و ساير الاصول الأخر النافية غير جائز للعلم بمنافاتها للعلم الاجمالي بالاحكام المترتبة على معاني الالفاظ.

الثالثة: ان الاحتياط إمّا غير واجب لاستلزامه للعسر، او غير جائز لاستلزامه لاختلال النظام.

الرابع: انه- حينئذ- يدور الامر بين الاخذ بالظن الحاصل من قول اللغوي، و بين غيره الذي لا يفيد الّا و هما او شكّا، و ترجيح المرجوح و هو الوهم و الشك على الراجح و هو الظن الحاصل من قول اللغوي قبيح فيتعيّن الاخذ بقول اللغوي.

و لم يشر المصنف الى غير المقدمة الاولى من هذه المقدمات لمعلوميتها، فقال:

«و كون موارد الحاجة الى قول اللغوي اكثر من ان تحصى» لعله «انسداد باب العلم» و العلمي «بتفاصيل المعاني غالبا» على وجه الضبط «بحيث يعلم بدخول

ص: 265

دام انفتاح باب العلم بالاحكام، كما لا يخفى، و مع الانسداد كان قوله معتبرا إذا أفاد الظن، من باب حجية مطلق الظن، و إن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد (1).

______________________________

الفرد المشكوك او خروجه» و تتوقف معرفة الاحكام على معرفة الالفاظ بما لها من المعاني بحيث يعرف الداخل من الفرد الخارج، و لا يفيد معرفة معاني الالفاظ في الجملة بان يؤخذ بالقدر المتيقن منها، لان معرفة الحكم بكماله يتوقف على معرفة معاني الالفاظ على وجه الضبط، و لذا قال: «و ان كان المعنى معلوما في الجملة».

(1) هذا هو الجواب عن هذا الانسداد، و حاصله جوابان الاول: ان باب العلم و العلمي بالاحكام مطلقا اذا كان منفتحا بسبب معرفة جملة من الاحكام وافية بقدر المعلوم بالاجمال من الاحكام لعدم الشك في معاني الفاظها عند العرف، و مع هذا الانفتاح لا اثر للانسداد في تفاصيل معاني الالفاظ حيث لا يضر جريان البراءة و الاصول النافية في الفرد المشكوك فلا يتم هذا الانسداد.

و اذا كان باب العلم و العلمي في مطلق الاحكام منسدّا كان الظن الحاصل من قول اللغوي حجة، لان مطلق الظن مع الانسداد في الاحكام يكون حجة لا لانه قول اللغوي، و يدل على هذا انه لو انسدّ باب العلم و العلمي في مطلق الاحكام و كان باب العلم و العلمي في جلّ اللغة منفتحا فالموارد القليلة غير المعلومة المعاني تماما، بل حتى و لو في مورد واحد يكون قول اللغوي حجة مع فرض انفتاح باب العلم و العلمي في اللغة.

و على كل فمع انفتاح باب العلم و العلمي في مطلق الاحكام لا اثر للانسداد في خصوص اللغة، و مع انسداد باب العلم و العلمي في الاحكام يكون قول اللغوي حجة و ان انفتح باب العلم و العلمي في اللغة فيما عدا مورد واحد، و الى هذا اشار بقوله: «لا يوجب اعتبار قوله» أي اعتبار قول اللغوي «ما دام انفتاح باب العلم بالاحكام الى آخر الجملة».

ص: 266

نعم لو كان هناك دليل على اعتباره، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجبا له على نحو الحكمة لا العلة (1).

لا يقال: على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة (2).

فإنه يقال: مع هذا لا تكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها، فإنه ربما يوجب القطع بالمعنى، و ربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في

______________________________

الجواب الثاني: ان الكلام في حجيّة قول اللغوي انما هو من باب حجيّة الظنون النوعية، فالمدعي لحجيته يدعي حجيته و ان لم يفد الظن الشخصي، و دليل الانسداد المذكور يقتضي حجيّة قول اللغوي حيث يفيد الظن الشخصي و هو غير المدعى في المقام، و الى هذا اشار بقوله: «اذا افاد الظن».

(1) حاصله: انه بعد ما عرفت ان من الانسداد في خصوص معاني الالفاظ لا يستلزم حجيّة قول اللغوي على وجه الوجوب لانفتاح باب العلم و العلمي بالاحكام، لكنه لو فرضنا انه دل دليل بالخصوص من الشارع على حجيّة قول اللغوي يكون الانسداد المذكور حكمة له لا علة، اذ مع فرض الانفتاح في مطلق الاحكام يكون الانسداد في خصوص لغة الالفاظ لا الزام فيه، و العلة لا بد و ان تكون على وجه الالزام، فحيث لا الزام فيه فهو يصلح لان يكون حكمة، فان المراد من الحكمة هو الاقتضاء الذي لا الزام فيه.

(2) لا يخفى ان قد ذكر جملة من العلوم و منها اللغة مما يحتاج اليها الفقيه في معرفة الحكم و استنباطه، و بناء على عدم حجية قول اللغوي لا تكون اللغة مما يحتاج اليها الفقيه و تسقط الفائدة بالنسبة الى الفقيه، اذ لا فائدة في الرجوع الى اللغة اذ كان قول اللغوي ليس بحجة.

ص: 267

معنى- بعد الظفر به و بغيره في اللغة- و إن لم يقطع بأنه حقيقة فيه أو مجاز، كما اتفق كثيرا، و هو يكفي في الفتوى (1).

الاجماع المنقول

فصل الاجماع المنقول بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص، من جهة أنه من أفراده، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص، فلا بد في اعتباره من شمول أدلة اعتباره له، بعمومها أو إطلاقها. و تحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور (2):

______________________________

(1) حاصله: ان الفائدة لا تسقط بالنسبة الى الرجوع الى اللغة و ان كان قول اللغوي ليس بحجة، فان عدم حجيّة قول اللغوي انما هي بما ان قول اللغوي من الظنون النوعية، اما لو حصل القطع بالوضع من قول اللغوي، او حصل القطع بظهور اللفظ في معنى من معانيه و ان لم يحصل العلم بما هو الموضوع له، فانه ربما يكون اللفظ ظاهرا في معنى و ان لم يكن ذلك المعنى هو المعنى الحقيقي للفظ، كما في المجاز المشهور فانه ربما يدعى انه أرجح من المعنى الحقيقي.

و على كل فالمراجعة الى اللغة لا تنحصر فائدتها فيما اذا كان قول اللغوي حجة في الاوضاع، فان الفتوى في الحكم المرتب على موضوع يكفي فيه ظهور اللفظ فيه و ان لم يكن اللفظ حقيقة فيه.

(2) توضيح الحال يحتاج الى تمهيد، و هو انهم ذكروا ان الادلة في غير الاحكام المعلومة بالضرورة ككلي الصلاة و الصوم و الحج و الزكاة تنحصر في اربعة الكتاب و السنة و الدليل العقلي و الاجماع، و لا ريب ان الاجماع عندنا ليس- بما هو اجماع من اهل الفتوى- دليلا في قبال الادلة الثلاثة، و انما هو من حيث كونه كاشفا عن موافقة المعصوم على الحكم الذي قام الاجماع عليه، اما لكون المعصوم بعض المفتين او لكشف الاجماع عن رأي المعصوم، فليس الاجماع الّا كونه طريقا لتحقق السنة

ص: 268

.....

______________________________

التي هي اما فعل المعصوم او قوله او تقريره، و بهذا الاعتبار ذكروه دليلا في قبال السنة من باب مقابلة الطريق لذي الطريق.

و بعد ما عرفت ان حجيّة الاجماع و كونه دليلا على الحكم انما هو لكونه طريقا لرأي المعصوم، فهو ينقسم الى محصّل و منقول.

و المحصّل لا اشكال في حجيته، فان تحصيل الطريق القطعي لرأي المعصوم بديهي الحجية عند من يحصله بنفسه.

و اما المنقول فمرجعه الى خبر ينقل الطريق لرأي المعصوم عند ناقله، فالقائل باعتباره و حجيته انما يقول به لكونه من افراد حجية خبر الواحد.

و الفرق بينه و بين الخبر بحسب الاصطلاح هو ان الخبر يحكي عن نفس قول المعصوم او فعله او تقريره بلا واسطة، و الخبر الناقل للاجماع يحكي عن الطريق المستلزم لقول المعصوم او فعله او تقريره، و لا فرق في حجية الخبر بين كونه حاكيا عن رأي المعصوم بلا واسطة او مع الواسطة، و ليس لدينا دليل بالخصوص على حجيّة الاجماع المنقول، بل دليل حجيّته منحصر في حجيّة الخبر، فلا بد لمن يقول بحجيّة الاجماع المنقول من اثباته شمول ادلة اعتبار الخبر الواحد له اما بعموم ادلة اعتبار الخبر او باطلاقها، و منه يتضح ان القائل بعدم حجية الاجماع المنقول ينكر شمول ادلة اعتبار الخبر الواحد له لا بعمومها و لا باطلاقها، و لذا قال: «الاجماع المنقول بالخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص من جهة انه من افراده» أي الوجه في حجيته عندهم هو انه من افراد الخبر القائلين بحجيته و لم يقم دليل على اعتباره بعنوان كونه اجماعا منقولا، و لذا قال: «من دون ان يكون عليه دليل بالخصوص» و لذا «فلا بد في اعتباره» أي اعتبار الاجماع المنقول «من شمول ادلة اعتباره» أي ادلة اعتبار الخبر «له» اما «بعمومها او اطلاقها».

ص: 269

الاول: إن وجه اعتبار الاجماع، هو القطع برأي الامام عليه السّلام، و مستند القطع به لحاكية- على ما يظهر من كلماتهم- هو علمه بدخوله عليه السّلام في المجمعين شخصا، و لم يعرف عينا، أو قطعه باستلزام ما يحكيه (1)

______________________________

(1) قد عرفت ان وجه كون الاجماع دليلا انما هو لكونه طريقا لرأي المعصوم عليه السّلام، و من الواضح ان الطريق سبب لثبوت ذي الطريق، و ذو الطريق هو المسبّب، فالاجماع هو السبب و رأي المعصوم هو المسبب.

و حيث ان للعلماء مشارب مختلفة في استلزام الاجماع لرأي المعصوم- فهذا الامر معقود لبيان اقسام الاجماع.

الاول: الاجماع الدخولي و هو ان يسمع الحكم من جماعة يعلم بان بعض من سمع منه هو الامام عليه السّلام، فيكون الامام عليه السّلام داخلا بشخصه في المجمعين اجمالا، و لا بد و ان يكون غير معلوم بعينه لانه لو كان معلوما بعينه للسامع لخرج عن ان يكون الاجماع هو الطريق لاثبات رأيه عليه السّلام، بل يكون السماع منه بعينه هو المثبت لرأيه دون الاجماع، و انما يكون الاجماع مثبتا لرأيه عليه السّلام حيث لا يكون السامع عارفا للامام بعينه، و يكون سماعه من جماعة يعلم بان الامام بعضهم على سبيل الاجمال هو المثبت لرأيه عليه السّلام.

و لا يخفى ان الاجماع الدخولي نقل لرأي الامام عليه السّلام بالحس لا بالحدس، لفرض سماعه من الامام بما هو بعض من الجماعة التي سمع منها الناقل للاجماع، و قد اشار (قدس سره) الى وجه الاعتبار بقوله: «ان وجه اعتبار الاجماع هو القطع برأي الامام عليه السّلام» ثم اشار الى هذا القسم و هو الاجماع الدخولي و انه اجنبي بقوله: «و مستند القطع به» أي مستند القطع برأي الامام «لحاكية» أي لحاكي الاجماع «على ما يظهر من كلماتهم» في كيفية نقل الاجماع «هو علمه» أي علم الحاكي للاجماع «بدخوله عليه السّلام في المجمعين شخصا» و معنى هذا هو كون الامام عليه السّلام بعض المجمعين الذي حصل الحاكي على آرائهم فهو حسي لتحصيل الحاكي

ص: 270

لرأيه عليه السّلام عقلا من باب اللطف (1)، أو عادة (2) أو اتفاقا من جهة

______________________________

لرأي الامام بتتبعه لآراء المجمعين الذي علم بكون الامام بعضا منهم، و قد اشار الى كون الاجماع الدخولي بما هو اجماع دليلا على رأي الامام لازمه عدم معرفة الحاكي لهذا الاجماع للامام عليه السّلام بعينه بقوله: «و لم يعرف عينا» و إلّا لخرج عن كونه بما هو اجماع دليل على رأيه عليه السّلام.

(1) الاجماع من باب اللطف هو وجه حجيّة الاجماع عند شيخ الطائفة (قدس سره)، و يأتي بيانه مفصلا عند تعرض المصنف له في التنبيه الاول.

و مجمله: ان وجود الحكم في ضمن الاقوال لطف واجب، و لازم هذا ان اتفاق المفتين في عصر واحد على الحكم يستلزم عقلا من باب اللطف الواجب على الامام عليه السّلام في رأي الشيخ كون رأي الامام عليه السّلام موافقا لما اتفق عليه علماء العصر، فالاجماع اللطفي هو العلم برأي الامام من باب الاستلزام العقلي لا من باب الحس، فالاجماع اللطفي هو تحصيل للسبب فقط بالحس، و اما المسبب فالعلم به للاستلزام العقلي و ليس بحسي، و هذا هو القسم الثاني من مشارب الاجماع.

(2) هذا هو القسم الثالث من وجوه الاجماع، و حاصله: هو اتفاق جماعة يستلزم رأيهم رأي الامام عليه السّلام بحسب العادة لا بحسب الاستلزام العقلي كما في الاجماع اللطفي.

و تقريبه: انه اذا كان لاحد جماعة و حفدة و تلاميذ لا يعدون رأيه فاتفاقهم على شي ء يكشف بحسب العادة عن رأي مرجعهم و أستاذهم، فاذا اتفق- مثلا- خاصة الصادق عليه السّلام من الشيعة على حكم يكشف اتفاقهم بحسب العادة عن موافقة رأيه عليه السّلام لرأيهم، و لا يخفى انه لا بد و ان لا يكون ذلك الحكم مما قد رووه عنه عليه السّلام، و الّا لكان رواية لا اجماعا.

و الفرق بين هذا القسم و القسم الثاني: هو كون الاستلزام فيه مما تقتضي به العادة دون العقل، بخلافه في القسم الثاني فانه مما يقضي به العقل، فان اتفاق

ص: 271

الحدس برأيه، و إن لم تكن ملازمة بينهما عقلا و لا عادة (1)، كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الاجماع، حيث إنهم مع عدم الاعتقاد

______________________________

الجماعة المتبعة لرأي شخص تقتضي العادة بكشف رأيها عن رأيه، و احتمال عدم موافقة رأيه عليه السّلام لرأيهم موجود و لكنه مما تأباه العادة، بخلاف القسم الثاني فان عدم الموافقة منفي عقلا فلا وجه لاحتماله.

و يوافق هذا القسم الثاني في كون رأي الامام ليس بحسي على هذا المشرب ايضا، و ان السبب فيه فقط حسي، و اما المسبّب فهو مما يقضي به الاستلزام العادي دون الحس.

(1) هذا هو القسم الرابع من وجوه الاجماع عند بعض الناقلين له، و هو اتفاق جماعة قد حصل لناقل الاجماع منها الحدس بموافقة رأي الامام عليه السّلام لهؤلاء، لان من المعلوم المفروغ عنه ان الناقل للاجماع لم يتبع آراء المجمعين حتى علم بدخول الامام شخصا فيهم، كما اذا كان من اهل زمان الغيبة الكبرى، فليس اجماعه الذي نقله من الاجماع الدخولي، و ليس لاتفاقهم كشف عقلي و لا عادي بحسب رأي هذا الناقل للاجماع، كما اذا كان الناقل للاجماع لا يرى الاجماع اللطفي، فلا ملازمة عقلية و لا يكون هؤلاء المتفقين من اهل زمان عصر الامام عليه السّلام و خاصته حتى تكون بين رأيهم و رأيه عليه السّلام ملازمة عادية، فلا بد و ان يكون السبب لنقل الاجماع عند هذا الناقل له هو حدسه الخاص بموافقة رأي الامام عليه السّلام لهذه الآراء التي علم بها هذا الناقل و حصّلها. و حيث لم يكن هذا الاجماع عند ناقله من الاجماع الدخولي و لا من باب اللطف الذي تكون ملازمته عقلية و لا من باب العادة حتى تكون الملازمة عادية، فانحصر ان يكون هذا الكشف قد حصل للناقل للاجماع من باب الحدس اتفاقا.

و لا يخفى ان الحسي من هذه الوجوه الاربعة هو الدخولي فقط، و اما الوجوه الثلاثة الأخر من اللطفي و العادي و الاتفاقي كلها من الحدس و لكنهم اصطلحوا على

ص: 272

.....

______________________________

تسمية الاخير و هو الاتفاقي بالحدسي، و لعله لعدم الملازمة فيه لا عقلا و لا عادة فهو متمحّض في الحدسيّة، بخلاف ما كان فيه الملازمة كاللطفي و العادي فانهما اشبه بالحس و ان لم يكونا حسيين حقيقة.

و لا ينبغي ان يخفى ان هناك وجهين آخرين للاجماع- غير ما اشار اليها من الوجوه الاربعة- و هما:

الاجماع التقريري و هو كاللطفي من حيث ان الملازمة فيه قابلة للانفكاك، و لا مجال فيه لاحتمال عدم موافقة رأي الامام عليه السّلام لآراء المجمعين الّا ان الملازمة في اللطفي عقلية، و في التقريري شرعيّة بملاك وجوب الارشاد و التنبيه شرعا على الامام فيما اذا اتفق اهل العصر على حكم مخالف للحكم الواقعي، فاتفاقهم على الحكم يكشف عن انه هو الحكم الواقعي، لانه لو كان مخالفا لوجب على الامام من باب التنبيه الارشاد الى الحكم الواقعي.

الثاني هو كشف آراء المجمعين عن دليل معتبر قام عندهم على الحكم و قد خفي علينا.

و الفرق بين هذا الوجه الاخير و الوجوه المتقدمة للاجماع: هو ان المكتشف بهذا الاجماع هو الحكم الظاهري و المكتشف بالوجوه المتقدمة هو الحكم الواقعي، لوضوح ان الدليل المعتبر لا يدل على اكثر من الحكم الظاهري، بخلاف الوجوه السابقة فان المكتشف بها هو رأي الامام عليه السّلام و هو الحكم الواقعي.

و ينبغي ان لا يخفى ان المجمعين اذا كانوا من اهل الغيبة الكبرى فالاجماع الدخولي مستبعد جدا بل مقطوع بعدمه غالبا، و مثله الاجماع العادي الاتفاقي لانهما انما يتأتيان في غير الغيبة الكبرى، و الاجماع اللطفي و التقريري غير صحيحين فيتعيّن هذا الوجه السادس.

و يرد عليه: انه لو سلّمنا صحة الخبر من حيث السند و لو لاستنادهم اليه.

ص: 273

بالملازمة العقلية و لا الملازمة العادية غالبا و عدم العلم بدخول جنابه عليه السّلام في المجمعين عادة، يحكون الاجماع كثيرا (1)، كما أنه يظهر

______________________________

و لكن أولا: لا نسلم حجيّته من حيث الظهور لان كونه له ظهور عند المجمعين لا يستلزم ان يكون له ظهور عند غيرهم.

و ثانيا: انه حيث كان الخبر معتبرا عند المجمعين فلما ذا خلت منه كتب الاخبار و كتب الاستدلال؟

و هناك وجه آخر للاجماع يشير اليه المصنف في طي عبارته الآتية و هو الاجماع التشرّفي: و هو ان يكون المدعي للاجماع من الاوحديين الذين لهم مقام التشرّف بخدمة الامام عليه السّلام في الغيبة الكبرى و يحظون بالمثول بين يديه- عجل اللّه فرجه- و لا يسعهم نقل رأيه بالصّراحة فيتوسلون الى ذلك بنقله بنحو الاجماع.

فتحصّل من مجموع ما ذكرنا: ان وجوه نقل الاجماع سبعة، أشار الى خمسة منها في المتن: و هي الدّخولي، و اللطفي، و العادي، و الاتفاقي، و التشرّفي، و باضافة التقريري، و الاجماع الكاشف عن الدليل المعتبر تكون وجوها سبعة للاجماع المدعى في كلمات الاصحاب (قدس سرهم).

(1) لما فرغ من ذكر وجوه الاجماع الاربعة بنحو الثبوت- شرع فيما يدل عليها بنحو الاثبات، و يظهر منه (قدس سره) ان طريقة المتأخرين في نقل الاجماع هي من باب الحدس الاتفاقي، لان المتأخرين الناقلين له من اهل الغيبة الكبرى و لم يكونوا من خاصته الموجودين في عصره، و ليسوا ايضا ممن ينسب لهم التشرّف بخدمته فلا يكون اجماعهم من الدخولي و لا من العادي و لا من التشرّفي، و ايضا فالمتأخرون لا يرون صحة الاجماع اللطفي فيتعيّن ان يكون اجماعهم من باب الحدس الاتفاقي، و الى هذا اشار بقوله: «حيث انهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية» فلا يكون اجماعهم من باب اللطف «و لا الملازمة العادية غالبا» لانهم من اهل الغيبة الكبرى و لم ينسب لهم التشرف بخدمته عليه السّلام «و» مع «عدم» دعواهم «العلم بدخول

ص: 274

ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب، أنه استند في دعوى الاجماع إلى العلم بدخوله عليه السّلام (1) و ممن اعتذر عنه بانقراض عصره، أنه استند إلى قاعدة اللطف.

هذا مضافا إلى تصريحاتهم بذلك، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم، و ربما يتفق لبعض الاوحدي وجه آخر من تشرّفه برؤيته عليه السّلام

______________________________

جنابه عليه السّلام في المجمعين عادة» فليس اجماعهم دخوليا و مع ذلك «يحكون الاجماع كثيرا» فلا بد و ان يكون اجماعهم من باب الحدس الاتفاقي.

و قد عرفت ان الاقرب هو الوجه السادس، لان حدس رأي الامام عليه السّلام منهم في الغيبة الكبرى مع عدم تشرفهم بلقائه عليه السّلام ربما يكون بلا وجه، و احتمال ان لهم دليلا معتبرا على الحكم اقرب منه، و قد مرّ الايراد عليه ايضا.

(1) حاصله: ان بعض نقلة الاجماع ينقله مع علمه بوجود المخالف للاجماع و يعتذر ان مخالفة المخالف لا تضر بدعوى الاجماع لانه معلوم النسب، و يدل هذا الاعتذار ان الوجه في نقل الاجماع عنده هو الاجماع الدخولي، لان ملاك الاجماع الدخولي هو دخول الامام عليه السّلام في المجمعين بشخصه مع عدم معرفته بعينه، فمخالفة غير معلوم النسب مما يقدح بالاجماع الدخولي، لاحتمال كون هذا المخالف غير المعلوم نسبه بعينه هو الامام عليه السّلام، فاعتذاره هذا بان المخالف معلوم النسب يدل على ان لجهالته خصوصية و تنحصر خصوصية الجهالة في الاجماع الدخولي لا غير، فان الاجماع اللطفي مما يضر به المخالف المعلوم النسب، و الاجماع العادي لا خصوصية فيه لمخالفة مجهول النسب و لا معلومه، و مثله الاجماع من باب الحدس اتفاقا في عدم الخصوصية فيه لا لمخالفة معلوم النسب و لا مجهوله، فيتعيّن كون مدعي هذا الاجماع «انه استند في دعوى الاجماع الى العلم بدخوله عليه السّلام» في المجمعين.

ص: 275

و أخذه الفتوى من جنابه، و إنما لم ينقل عنه، بل يحكي الاجماع (1) لبعض دواعي الاخفاء (2).

______________________________

(1) لا يخفى ان الاعتذار عن مخالفة المخالف بانقراض عصره و ان العصر الذي فيه الاتفاق و لا مخالف فيه مما يدل صريحا ان طريقيته في الاجماع من باب اللطف، لوجوب إلقاء الخلاف على الامام عليه السّلام من باب اللطف، فيما اذا اتفق علماء العصر على حكم يخالف الحكم الواقعي، أمّا اذا كان المخالف ممن انقرض عصره ففي ذلك العصر لا اتفاق على المخالفة للحكم الواقعي حتى يجب على الامام عليه السّلام من باب اللطف إلقاء الخلاف، و المفروض في هذا العصر الاتفاق فهو يكشف عن رأيه عليه السّلام و الّا لوجد المخالف في هذا العصر، و هذا النحو من الاعتذار صريح في ان وجه الاجماع عند ناقله هو اللطف.

قوله: (قدس سره) و ربما يتفق لبعض الخ» هذا هو الاجماع التشرفي.

(2) أي انه انما لم ينقله صريحا بل نقله بنحو دعوى الاجماع لان هناك دواعي للإخفاء:

منها: انه قد وردت عن الحجة عليه السّلام اخبار كثيرة آمرة بتكذيب مدعي الرؤية في الغيبة الكبرى، و المراد من الامر بالتكذيب هو ترتيب آثار الكذب على خبر مدعي الرؤية، فيلزم من تصريحه بالملاقاة تعريض نفسه للتكذيب و عدم الاخذ بالحكم الذي نقله عنه عليه السّلام فينتفي الغرض الذي دعاه لنقل الحكم.

و منها: ان نقله عن الامام عليه السّلام تصريحا يدل انه من اهل مقام التشرّف بخدمته عليه السّلام و هو لا يريد ان يعرف عنه ذلك.

و منها: انه لو عرف عنه و شاع انه ممن يجتمع به- عجل اللّه فرجه- لاضطره الناس لان يسأل منه عليه السّلام في غالب امورهم فتنقلب الغيبة الكبرى الى مثل الغيبة الصغرى، و قد حكمت المصلحة الملزمة في ان تكون غيبته كبرى لا يعرف فيها شخص معلوم يراه و يجتمع به.

ص: 276

اختلاف الألفاظ الحاكية للإجماع

الامر الثاني: إنه لا يخفى اختلاف نقل الاجماع، فتارة ينقل رأيه عليه السّلام في ضمن نقله حدسا كما هو الغالب، أو حسّا و هو نادر جدا، و أخرى لا ينقل إلّا ما هو السبب عند ناقله، عقلا أو عادة أو اتفاقا، و اختلاف ألفاظ النقل أيضا صراحة و ظهورا و إجمالا في ذلك، أي في أنه نقل السبب أو نقل السبب و المسبب (1).

______________________________

(1) يتضمن هذا الامر الثاني بيان امور ثلاثة:

الاول: ان ناقل الاجماع تارة ينقل السبب و المسبب، كما اذا قال اجمعت الامة حتى المعصوم عليه السّلام.

و اخرى ينقل السبب وحده كما اذا قال اجمعت فتاوى اصحابنا، و الى هذا اشار بقوله: «فتارة ينقل رأيه عليه السّلام في ضمن نقله» الى ان قال «و اخرى لا ينقل إلّا ما هو السبب».

الثاني: ان الاجماع الدخولي حسي كالتشرفي، و الاجماع اللطفي و العادي و الاتفاقي حدسي، و الى هذا اشار بقوله: «حدسا كما هو الغالب» فان الغالب كما في زمان الغيبة هو الاجماع المبني على الحدس و هو اللطفي و الاتفاقي مثلا، و الى الدخولي و التشرفي المبنيين على الحس اشار بقوله: «او حسا و هو نادر جدا» بل الاجماع الدخولي في الغيبة مستحيل عادة.

الثالث: ان الفاظ نقل الاجماع مختلفة في الصّراحة و الظهور و الاجمال بالنسبة الى نقل السبب و المسبب.

فالصريحة كالعبارة المتقدمة و هي اجمعت الامة حتى المعصوم، فانها صريحة في نقل السبب و المسبب.

و الظاهرة في نقلهما كما اذا قال الناقل اجمعت الامة و لم يصرح بدخول المعصوم، فان لهذه العبارة ظهورا في دخول الامام عليه السّلام ايضا.

ص: 277

حجيّة الإجماع المنقول الكاشف عن رأي المعصوم

الامر الثالث: إنه لا إشكال في حجية الاجماع المنقول بأدلة حجية الخبر، إذا كان نقله متضمنا لنقل السبب و المسبب عن حسّ، لو لم نقل بأن نقله كذلك في زمان الغيبة موهون جدا (1)، و كذا إذا لم يكن متضمنا

______________________________

و الجملة: هي ان يقول الناقل مثلا اجمع الفقهاء فانه من المحتمل دخول الامام عليه السّلام في الفقهاء، كما انه ربما يكون الكلام صريحا في نقل السبب فقط كما لو قال اجمع علماؤنا المقلدون في الغيبة، و ربما يكون ظاهرا في ذلك كما لو قال اجمع اصحابنا، و الى هذا اشار بقوله: «و اختلاف الفاظ النقل الى آخر الجملة».

(1) هذا الامر لبيان ما هو الحجة من الاجماع المنقول و ما ليس بحجة منه، و قد عرفت في صدر المبحث ان مدرك حجية الاجماع المنقول تنحصر في شمول ادلة حجية الخبر له بعمومها او اطلاقها، و سيأتي ان القدر المتيقن من دلالتها هو حجيه الخبر الحسي دون الحدسي، و قد عرفت ايضا ان ما عدا الاجماع الدخولي كاللطفي و العادي و الاتفاقي هو نقل لرأي الامام عليه السّلام عن حدس لا عن حس، و النقل الحسي فيها انما هو بالنسبة الى نقل السبب و هو اتفاق علماء العصر او اتفاق جماعة يستلزم رأيه عليه السّلام عادة او اتفاقا، و الاجماع الدخولي هو المختص بنقل السبب و المسبب عن حسّ.

فاذا عرفت هذا ... نقول لا اشكال في شمول ادلة حجية الخبر للاجماع الدخولي لانه نقل للمسبب عن حس، اذ لا فرق في حجيّة الخبر الناقل لرأي الامام عليه السّلام بين ان يقول المخبر به سمعت الامام بعينه يقول كذا أو يقرر كذا او يفعل كذا، او يقول سمعت جماعة احدهم الامام عليه السّلام قطعا هم يقولون كذا او يفعلون كذا او يقررون كذا.

الّا ان الناقل للاجماع الدخولي في زمن الغيبة نادر بل مستحيل عادة، فناقله في الغيبة ان لم يكن من اهل التشرّف و كان متفردا به مما يطمئن باشتباهه و لا بد من تأويل كلامه.

ص: 278

له، بل كان ممحضا لنقل السبب عن حس، إلا أنه كان سببا بنظر المنقول إليه أيضا عقلا أو عادة أو اتفاقا، فيعامل حينئذ مع المنقول معاملة المحصل في الالتزام بمسببه بأحكامه و آثاره (1).

______________________________

و قد اشار الى شمول ادلة الخبر للاجماع الدخولي بقوله: «اذا كان نقله متضمنا لنقل السبب و المسبب عن حس» و اشار الى عدم الاطمئنان به في الغيبة بقوله: «لو لم نقل بان نقله كذلك» بان يكون على نحو الدخول و نقلا للسبب و المسبب عن حس «في زمان الغيبة موهون جدا».

(1) قوله (قدس سره): «و كذا اذا لم يكن متضمنا الخ» هذا معطوف على عدم الاشكال في شمول ادلة حجية الخبر.

و توضيحه: ان ادلة حجية الخبر كما تدل على حجيّة الخبر الناقل لرأي الامام عليه السّلام عن حس في اثباته للحكم الدال عليه كذلك تكون دليلا على حجية الخبر الناقل للسبب المستلزم لرأي الامام عليه السّلام، لانه نقل للسبب عن حس و اثباتها للمسبب بواسطة الاستلزام، فان الامارة التي قام الدليل على اعتبارها حجة في اثبات لازمها كما هي حجة في اثبات الملزوم في دلالتها عليه، فاذا كان السبب المنقول عن حس سببا عند من نقل اليه فلا اشكال في اثباته لرأي الامام عليه السّلام بواسطة الاستلزام، فاذا كان- مثلا- المنقول اليه ممن يرى الاجماع اللطفي و نقل الثقة له اتفاق اهل العصر فلا اشكال في كون هذا الاجماع المنقول حجة عند المنقول اليه في اثباته لراي الامام عليه السّلام، فهذا الاجماع المنقول و ان كان اخبارا عن السبب عن حس لا عن المسبب إلّا انه لما كان السبب المنقول عن حس سببا عند المنقول اليه مستلزما لرأيه عليه السّلام فلا بد من ترتيب لازمه و هو الالتزام بموافقة رأي الامام لما اتفق عليه علماء العصر مثلا، و الى هذا اشار بقوله: «و كذا» أي لا اشكال ايضا في حجية الاجماع المنقول فيما «اذا لم يكن متضمنا له» أي لم يكن متضمنا لنقل المسبب عن حس كالاجماع اللطفي «بل كان ممحضا لنقل السبب» فقط «عن حس الا» ان

ص: 279

و أما إذا كان نقله للمسبب لا عن حس، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه دون المنقول إليه ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الادلة على حجيته، إذ المتيقن من بناء العقلاء غير ذلك (1)،

______________________________

المفروض «انه كان» اتفاق اهل العصر مثلا «سببا بنظر المنقول اليه ايضا» كما هو سبب عند الناقل اما «عقلا او عادة او اتفاقا ف» لا بد للمنقول اليه ان «يعامل حينئذ مع» هذا الاجماع «المنقول معاملة المحصّل في الالتزام بمسببه باحكامه و آثاره».

(1) قد عرفت الحال فيما اذا كان السبب عند الناقل سببا ايضا عند المنقول اليه و شمول ادلة حجية الخبر له باعتبار كونه نقلا لما له اثر شرعي، و حيث كان السبب عند المنقول اليه له اثر شرعي و هو رأي المعصوم فلا بد من ترتيبه عليه، فرأي الامام و ان لم يكن حسيا إلّا انه كان سببه حسيا، فلا فرق بين نقله عن حس كما في الدّخولي او نقل سببه عن حس كما في اللطفي و العادي و الاتفاقي حيث يكون المنقول اليه ممن يرى صحة الاجماع اللطفي او العادي او الاتفاقي.

و اما اذا كان المنقول اليه ممن لا يرى ذلك، بان يكون المنقول اليه- مثلا- ممن لا يرى انفاق اهل العصر على حكم مما يستلزم رأي الامام عليه السّلام، و كان الناقل ممن يرى ذلك فتكون الملازمة ثابتة في نظر الناقل دون المنقول اليه، فيتوقف شمول ادلة حجية الخبر للاجماع في هذا الفرض على عمومها او اطلاقها لما يتناول الخبر الحدسي، لبداهة ان الناقل لم ينقل رأي الامام عليه السّلام عن حسّ و لم يكن السبب الذي نقله عن حسّ هو من الأسباب عند المنقول اليه، فيرجع نقله لهذا الاجماع الى اخبار منه عن السبب حسا و اخباره عن المسبب حدسا بحسب حدسه المختص به، فلا تكون ادلة اعتبار الخبر شاملة له إلّا اذا كانت شاملة للاخبار الحدسي، بان كان اخباره المستند لحدسه حجة كاخباره المستند لحسه.

ص: 280

.....

______________________________

و لكن ادلة حجية الخبر لا عموم فيها و لا اطلاق يشمل الاخبار عن حدس و ان المتيقن منها هو حجية الخبر عن حسّ فقط، لان ادلة حجية الخبر تنحصر في بناء العقلاء و في الاخبار المتواترة و في الآيات المباركة، و ليس لهذه الثلاثة عموم او اطلاق يشمل الاخبار عن حدس.

اما بناء العقلاء فنقول: ان الكلام فيه في فرضين: الاول: ان يكون معلوما انه نقل عن حدس، و لا بناء من العقلاء على الاخذ بخبر الثقة اذا كان عن حدس، لان بناء العقلاء على الاخذ بخبر الثقة انما هو لكونه كاشفا نوعيا بالفعل، و سبب كشفه النوعي هو ان الثقة اذا لم يكن مخطئا في حسه فكونه ممن يوثق به له الكشف النوعي بالفعل عما أحسّه و اخبر به، و لما كان الخطا في الحس خروجا عما يقتضيه الطبع ممن ليس في حاسة سمعه آفة بنوا على عدمه، و البناء على عدم الخطا في الحس حيث انه خروج عما يقتضيه الطبع يشترك فيه الثقة و غير الثقة، و انما يختلف الثقة و غير الثقة في ان ما يحس به الثقة كاشف نوعي عندهم، بخلاف ما يحس به غير الثقة فانه لا كاشفية له عندهم، فحجية خبر الثقة انما هي لبنائهم على انه صادق في حسه.

اما اذا كان خبر الثقة مبنيّا على الحدس فبناؤهم على تصديقه في حسه لا يلازم ثبوت ما اخبر به بل يتوقف على تصديقه في حدسه، و لا بناء من العقلاء على تصديق الثقة في حدسه، اذ كونه ثقة لا يلازم ثبوت حدسه و صواب رأيه.

نعم كونه ثقة يلازم ثبوت ما احسّ به، فان تصديقه فيما سمعه يلازم ثبوت ما سمعه و لا يلازم ثبوت ما يراه الثقة بحسب حدسه انه ملازم لما سمعه.

و بعبارة اخرى: ان خبر الثقة بنى العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال كذبه فهو كاشف نوعي عن وقوع ما اخبر به، فحيث يخبر عن حس فثبوت خبره يتحقق بمجرد البناء على عدم الكذب، و اما حيث يخبر عن حدس فلا يثبت ما اخبر به بمجرد البناء على عدم كذبه، بل لا بد من بناء آخر منهم على صواب رأيه و حدسه، لان المفروض ان ثبوت ما اخبر به من السبب المفروض كونه سببا عنده لا عند المنقول اليه

ص: 281

كما أن المنصرف من الآيات و الروايات ذلك (1)، على تقدير

______________________________

يتحقق باخباره السبب للبناء على عدم كذبه، و لا يتحقق مسببه بمجرد ذلك بل لا بد من البناء على اصابته في رأيه و حدسه.

و الحاصل: ان لازم وثاقته و عدم كذبه هو وقوع ما احس بوقوعه لا وقوع ما حدس وقوعه، فانه لا يلازم وثاقته و عدم كذبه بل يلازم قوة حدسه و اصابة رأيه، و لا ملازمة بين الوثاقة و اصابة الرأي، فبناء العقلاء على خبر الثقة لا شمول له لما اخبر به الثقة عن حدس، و الى هذا اشار بقوله: «ففيه اشكال» أي فيما كانت الملازمة عند الناقل دون المنقول اليه ففي شمول حجية اعتبار الخبر له اشكال «اظهره عدم نهوض تلك الادلة» الدالة على حجية الخبر «على حجيّته» أي على حجيّة الخبر المبني على الحدس «اذ المتيقن من بناء العقلاء غير ذلك» أي غير الخبر المبني على الحدس بل الخبر المبني على الحس، لان الخبر الحسي هو الكاشف النوعي دون الخبر الحدسي فانه لا كاشفية نوعية فيه تلازم كونه ثقة و لا يكذب.

الفرض الثاني: ان لا يكون معلوما انه عن حدس، بل كان مما يحتمل كونه نقلا عن حس، كما يحتمل كونه عن حدس و سيأتي الاشارة اليه فيما يأتي.

(1) اما الآيات فسيأتي ان عمدتها مفهوم آية النبأ و هي إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا(1) الدال على عدم التبين عن نبأ العادل، و المنصرف من النبأ هو خبر العادل الحسي دون الحدسي.

و للشيخ الاعظم في رسائله وجه آخر لعدم دلالة آية النبأ على حجية خبر العادل الحدسي و انها تختص بما اخبر به عن حس.

ص: 282


1- 27. ( 1) الحجرات: الآية 6.

دلالتهما (1)، خصوصا فيما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد

______________________________

و حاصله: ان التبيّن عن خبر الفاسق و عدم التبيّن عن خبر العادل في الآية انما هي لوجود الجهة الرادعة في العادل دون الفاسق، و الجهة الرادعة التي يمتاز بها العادل عن الفاسق هي تعمّد الكذب و عدمه، فان العادل وجود ملكة العدالة فيه تردعه عن تعمّد الكذب، بخلاف الفاسق فانه حيث لا ملكة له لا رادع له عن تعمّد الكذب، فالآية قد وردت لتمييز العادل عن الفاسق فيما يرجع الى اختيارهما.

و اما احتمال الخطأ الناشئ عن اللااختيار فالعادل و الفاسق فيه سواء، و هذا المقدار من دلالة الآية لا يستلزم حجية خبر العادل، فانه كونه لا يكذب لا يستلزم تحقق ما اخبر به لجواز خطأه المستند الى عدم اختياره، و انما تكون الآية بضميمة بناء العقلاء على عدم الخطأ دالة على حجيّة الخبر، و من الواضح ان بناء العقلاء انما هو على عدم الخطأ عن حس لانه خلاف مقتضى الطبع لا على عدم الخطا عن حدس، فالآية بضميمة الاصل العقلائي تدل على حجية خبر الثقة، فاخبار العادل عن حدس خارج عما وردت الآية من جهته، لانها وردت من ناحية تعمّد الكذب و عدمه، و خارج عن بناء العقلاء لان الخطأ الحدسي ليس على خلاف مقتضى الطبع، و لذا لا بناء من العقلاء على اصالة عدم الخطا عن حدس، فلا دلالة للآية على غير حجية الخبر عن حسّ و لا نظر لها و لا للاصل المنضم اليها الى حجية الخبر عن حدس.

و اما الروايات فالقدر المتيقن منها هو وجوب تصديق العادل في خبره لا في رأيه.

(1) اشارة الى ما يأتي من المناقشات في دلالة الآية على المفهوم و في الاخبار من عدم تواترها، فانها اذا لم يثبت تواترها لا تخرج عن كونها اخبار آحاد فلا تكون مثبتة لحجية اخبار الآحاد.

و الحاصل: ان المنصرف من الآيات و الروايات على تقدير دلالتها على حجية الخبر الواحد هو حجية الخبر الحسي دون الحدسي، و هو المراد بقوله (قدس سره):

ص: 283

الملازمة، هذا فيما انكشف الحال (1).

و أما فيما اشتبه، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار، فإن عمدة أدلة حجية الاخبار هو بناء العقلاء، و هم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنه عن حس، يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس، حيث إنه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشي ء على التوقف و التفتيش، عن أنه عن حدس أو حس، بل العمل على طبقه و الجري على وقفه بدون ذلك، نعم لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك، فيما لا يكون هناك أمارة على الحدس، أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة (2).

______________________________

«ذلك» و حاصله: ان القدر «المتيقن من بناء العقلاء غير ذلك» أي حجية غير الخبر الحدسي و هو الحسي و «المنصرف من الآيات و الروايات ذلك على تقدير دلالتهما» أي حجية غير الخبر الحدسي و هو الخبر الحسي ايضا.

(1) حاصله: ان بناء العقلاء على الاخذ بخبر الثقة يرجع الى بناءين: البناء على عدم الكذب و الغاء احتماله، و البناء على عدم الخطأ و إلغاء احتماله، و مع العلم بالخطإ لا وجه للبناء على عدمه، فان البناء على عدم الخطا انما هو في مقام احتمال الخطأ لا في مقام العلم بالخطإ، و مثله المستفاد من الروايات و الآيات انما هو جعل الحجيّة لخبر الثقة الذي لم يعلم كذبه و لا خطأه بالغاء احتمالهما، اما اذا علم بالخطإ فلا وجه لشمول ادلة حجية الخبر له، بل مع العلم بالخطإ فكذب الخبر متحقق و ان لم يكن المخبر متعمدا للكذب لاعتقاده الملازمة.

(2) قد عرفت الحال فيما اذا علم حال الخبر و انه عن حدس لا عن حس من عدم شمول ادلة اعتبار الخبر له.

و اما فيما اذا اشتبه و لم يعلم ان خبر الثقة كان عن حس او عن حدس فلا شمول للآيات و الروايات له، لانه اذا كان المنصرف منها هو خصوص الخبر الحسي فلا تكون لها دلالة على المشكوك الحسية، و إلّا لم يكن المنصرف منها هو خصوص

ص: 284

.....

______________________________

الحسي بل يكون المنصرف هو الاعم من الحسي و المشكوك الحسيّة، و هو خلف بالنسبة الى دعوى ان المنصرف منها هو خصوص الحسي.

و المصنف حيث يرى ان عمدة ادلة حجية الخبر هو بناء العقلاء بخلاف الآيات و الروايات فان دلالتهما على حجيته لا تخلو عنده عن مناقشة، و لذا قال فيما مر على تقدير دلالتهما.

و حاصل ما يظهر من المصنف انه اذا اشتبه حال الخبر و لم يعلم انه عن حسّ او عن حدس، فاما ان لا تكون هناك امارة قائمة على انه حدسي بل كان محض احتمال من دون منشأ له، و المشاهد من بناء العقلاء هو العمل على طبق خبر الثقة في مثل هذا و عدم الاعتناء منهم بهذا الاحتمال فيما اذا لم يكن هناك منشأ له، لوضوح انه فيما اذا لم يعلم كونه حسيّا فان احتمال كونه حدسيا موجود، و مع وجود هذا الاحتمال قد استقر بناء العقلاء على الاخذ بخبر الثقة و عدم التفتيش و السؤال منهم عن حدسيّته و حسيّته فيكشف ذلك عن بنائهم على الاخذ به و ان احتملوا كونه حدسيّا حيث لا تكون هناك امارة على حدسيّته، و اما لو كانت هناك امارة على حدسيّته فلا بناء منهم على الاخذ به، و الى ما ذكرنا اشار بقوله: «و هم كما يعلمون بخبر الثقة اذا علم انه عن حس يعملون به» ايضا «فيما يحتمل كونه عن حدس» فيما اذا لم تكن هناك امارة على كونه حدسيّا، و يدل على هذا القيد قوله: نعم لا يبعد، و الدليل على بنائهم على حجية خبر الثقة المحتمل كونه عن حدس حيث لا تكون امارة على حدسيته بل يكون محض احتمال ما اشار اليه بقوله: «حيث انه ليس بناؤهم» الى قوله «بدون ذلك» أي بدون التوقف و التفتيش، و حيث علمت ان احتمال الحدسيّة موجود فيما اذا لم يعلم كونه عن حدس و مع ذلك استقر بناؤهم على العمل به، فيكشف هذا عن حجية خبر الثقة عند العقلاء و ان احتمل كونه حدسيا بشرط عدم الامارة على الحدسيّة، اما اذا كانت امارة على الحدسيّة فلا بناء منهم على العمل به، و لذا قال «نعم لا يبعد ان يكون بناؤهم على ذلك»

ص: 285

هذا لكن الاجماعات المنقولة في ألسنة الاصحاب غالبا مبنية على حدس الناقل أو اعتقاد الملازمة عقلا (1)، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف

______________________________

أي على الاخذ بخبر الثقة المحتمل كونه حدسيا «فيما لا يكون هناك امارة على الحدس» و اما اذا كان هناك علم بالحدس فلا بناء من العقلاء على العمل بخبر الثقة اذا كان عن لازم يعتقد الملازمة بين وجوده و وجود ملزومه، و قد علم ان اخباره عنه كان حسيّا بالنسبة الى الملزوم دون اللازم، و اما اخباره عن اللازم فانما كان لانه يعتقد الملازمة بين وجوديهما و كان المنقول اليه لا يرى هذه الملازمة، فانه لا بناء من العقلاء على العمل بمثل هذا، و كذا الحال فيما اذا لم يعلم انه كذلك و لكن كانت هناك امارة على ان هذا الناقل يستند في اخباره عن اللازم لاعتقاده الملازمة بينه و بين الملزوم الذي احس به، فانه ايضا لا بناء من العقلاء على الاخذ بخبر الثقة فيما اذا قامت الامارة على ان اخباره من باب اعتقاد الملازمة التي لا يراها المنقول اليه، و الى هذا اشار بقوله: «و اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة».

(1) حاصله: ان الاجماعات المنقولة في كلمات الاصحاب مما لا يشملها ادلة اعتبار حجية الخبر، لانها مما قامت امارة على كونها مبنية على الحدس و اعتقاد الملازمة، و قد عرفت انصراف الآيات و الاخبار الى الخبر الحسي فلا تشمل مشكوك الحسيّة و الحدسيّة فضلا عما قامت الامارة على الحدسيّة في الخبر.

و اما بناء العقلاء فهو و ان كان مما يشمل مشكوك الحسيّة و الحدسيّة إلّا انه ايضا لا يشمل ما قامت الامارة على كونه حدسيّا.

ينبغي ان لا يخفى: ان وجوه الاجماع التي ذكرها المصنف خمسة اثنان منها حسيّان يتضمنان نقل رأي المعصوم عن حسّ، و هما الاجماع الدخولي و التشرّفي و أدلة اعتبار حجية الخبر تشملهما لانهما نقل عن حس.

و المصنف و ان لم يشر الى الاجماع التشرفي من حيث شمول ادلة اعتبار الخبر له إلّا ان ما ذكره في الاجماع الدخولي جار فيه ايضا و هو واضح، بل هو اولى من

ص: 286

.....

______________________________

الدخولي لان نقل الاجماع في التشرفي بالنسبة الى السبب يكون من قبيل الكناية من حيث ان المراد بها حقيقة هو المكنى عنه، فان الغرض من حكاية الاجماع فيه هو نقل قول المعصوم، و نقل الاجماع ككناية عنه، فان الغرض منه التوصل الى نقل رأي المعصوم عليه السّلام.

و الثلاثة الأخر من اللطفي و العادي و الاتفاقي من النقل بالحدس و لا تشملها ادلة اعتبار الخبر.

و الوجهان الآخران اللذان لم يتعرض لهما المصنف و هما التقريري و هو حدسي لانه كاللطفي الّا ان الملازمة المدعاة فيه ليست عقلية بل هي بملاك الوجوب الشرعي من وجوب التنبيه و الارشاد الى الحكم الواقعي فلا تشمله ادلة اعتبار حجية الخبر.

و اما الاجماع الكاشف عن وجود دليل معتبر فمرجعه الى كون الاجماع بالنسبة اليه كخبر عن خبر، و ادلة الاعتبار و ان شملت الخبر عن الخبر الدال على الحكم الشرعي، إلّا انه حيث يكون الخبر الاول ناقلا لالفاظ الخبر الثاني حتى يتم ملاك الحكم من حيث السند و الدلالة فان سند الخبر الثاني يوجب اعتباره الخبر الاول، و الظهور مستفاد من نفس الفاظ الخبر الثاني فيتم ملاك الحكم من حيث السند و الظهور.

اما اذا لم يكن منقولا بالفاظه كما في الاجماع الكاشف عن الدليل المعتبر غير المنقول بالفاظه فلا تتم الحجية فيه من حيث الظهور و ان تمت الحجية فيه من حيث السند، لان حجية الظهور تختص بمن قام عنده الظهور، فكون الدليل المعتبر الكاشف عنه الاجماع له ظهور عند المجمعين لا يستلزم حجية ذلك الظهور عند من لم يقم عنده ذلك الظهور، فانه ربما يكون الدليل المعتبر له ظهور عند جماعة و لا يكون له ذلك الظهور عند آخرين، بل ربما يكون له ظهور في قرون متتابعة و لا يكون له ظهور في قرن متأخر كما في أدلة البئر، فانه مضت عليها قرون فهم

ص: 287

أن نقل السبب كان مستندا إلى الحس، فلا بد في الاجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة ألفاظها (1)، و لو بملاحظة حال

______________________________

الأصحاب منها وجوب النزح حتى زمان العلامة الحلي (قدس سره) فاستفاد منها استحباب النزح، و وافقه عليه المتأخرون.

(1) هذا نتيجة ما مرّ من ان ادلة الاعتبار انما تدل على اعتبار الخبر الناقل عن حسّ، و حيث ان ما عدا الاجماع الدخولي ليس نقلا لقول المعصوم عن حسّ فلا تشمل أدلة الاعتبار غير الاجماع الدخولي، لانه نقل للمسبب الذي هو قول المعصوم بالتضمن عن حس، و قد مرّ ايضا من المصنف شمول ادلة الاعتبار للاجماع الحدسي ايضا اذا كان المنقول اليه ممن يرى الملازمة بين السبب المنقول عن حس و المسبب و هو رأي المعصوم، فهو و ان لم يكن نقلا لرأي المعصوم بالحس إلّا انه حيث ان المنقول اليه يرى الملازمة و قد نقل الملزوم عن حس فيكون نقلا للازم و هو المسبب بالالتزام، مثلا لو نقل الاجماع من يراه على نحو اللطف فانه ينقل عن حس اتفاق اهل العصر، و حيث ان اتفاق اهل العصر يلازم عنده رأي المعصوم فيكون قد نقل ما يستلزم رأي المعصوم عليه السّلام، و بهذا المعنى يكون رأي المعصوم قد دلّ عليه ما نقله عن حس بالالتزام، و ليس المراد من قوله بالالتزام هي الدلالة اللفظية الالتزامية بل المراد نقل ما يستلزم رأي المعصوم و ان لم تكن الملازمة من اللزوم البيّن بالمعنى الاخص التي هي الشرط في الدلالة الالتزامية، فالمراد من كونه حكاية لرأي الامام بالالتزام ليست الدلالة الالتزامية، بل المراد حكاية ما كان بينه و بين رأي المعصوم ملازمة لا تنفك بحسب رأيه، و لا فرق في شمول ادلة الاعتبار بين الحكاية التضمنية لرأي المعصوم عليه السّلام و الحكاية لما يستلزم رأي المعصوم عليه السّلام حيث تكون الملازمة ثابتة عند المنقول اليه، و يلوّح الى هذا في عبارته هذه- المتقدمة- بقوله: «فان كان بمقدار تمام السبب و إلّا فلا يجدي» ثم يصرّح بهذا في عبارته التالية بقوله: «من جهة حكايته رأي الامام عليه السّلام بالتضمّن او الالتزام» فليس بين العبارتين تناف بدعوى ان

ص: 288

الناقل (1) و خصوص موضع النقل، فيؤخذ بذلك المقدار و يعامل معه كأنه المحصل، فإن كان بمقدار تمام السبب، و إلّا فلا يجدي ما لم يضم إليه مما حصله أو نقل له من سائر الاقوال أو سائر الامارات ما به تم (2)، فافهم (3).

______________________________

العبارة الاولى تدل على ان ادلة الاعتبار لا تشمل غير الاجماع الدخولي فينافيها عبارة التلخيص التالي لها من شمول أدلة الاعتبار للاجماع الحدسي اذا كان من نقل اليه ممن يرى الملازمة، و قد عرفت انه يلوّح الى شمول أدلة الاعتبار له في العبارة الاولى، كما يصرّح به في عبارة التلخيص التالية.

(1) من حيث كونه ممن يرى الاجماع اللطفي او العادي او الاتفاقي، فان كان ممن يقول باللطف مثلا فيدل نقله على اتفاق اهل العصر، و ايضا يختلف حال الناقل من حيث كونه من اهل الضبط و التثبت و كثرة البحث و سعة الاطلاع، فان نقله يدل على كثرة المجمعين، بخلاف ما اذا لم يكن كذلك فان نقله الاجماع ربما يكون مستنده ان الحكم مما ينطبق عليه اصل في رأيه و كان ذلك الاصل يقول به المجمعون، فيكون الاجماع منهم على الاصل مما يستلزم الاجماع على الحكم لانطباق الاصل في رأيه على هذا الحكم.

(2) كما لو كان الناقل للاجماع ينقل آراء العلماء عن كتبهم او ينقل عن كتب تنقل الاجماع، فان الاجماع المنقول مثلا عن كتب المحقق و العلامة (قدهما) غير الاجماع المنقول عن كتاب الغيبة، بل ربما يختلف نقل الاجماع عن كتب مؤلف واحد، فان الاجماع المنقول في مبسوط شيخ الطائفة (قدس سره) غير الاجماع المنقول في خلافه.

(3) لعله يشير الى ما يمكن ان يقال ان نقل الاجماع بالنسبة الى مقدار من الاقوال بحيث لا يكون تمام السبب عند المنقول اليه لا تشمله ادلة اعتبار الخبر، لانها انما تشمل ما له الاثر او ما له دخالة فيه، و الاقوال الناقصة ليس لها الاثر و ليس لها دخالة

ص: 289

فتلخص بما ذكرنا: أن الاجماع المنقول بخبر الواحد، من جهة حكايته رأي الامام عليه السّلام بالتضمن أو الالتزام، كالخبر الواحد في الاعتبار إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه عليه السّلام و ما نقله من الاقوال، بنحو الجملة و الاجمال، و تعمّه أدلة اعتباره (1)، و ينقسم بأقسامه، و يشاركه في أحكامه، و إلا لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية (2).

و أما من جهة نقل السبب، فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الاقوال التي نقلت إليه على الاجمال بألفاظ نقل الاجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل، فلو ضم إليه مما حصله أو نقل له من أقوال السائرين أو سائر الامارات- مقدار كان المجموع منه و ما نقل بلفظ الاجماع بمقدار السبب التام، كان المجموع كالمحصل، و يكون حاله كما

______________________________

في الاثر من حيث سعته و ضيقه، كالاخبار المتضمنة للرطل مثلا و الاثر المرتب على تمام السبب عقلي لا شرعي حتى تكون هذه الاقوال الناقصة لها دخالة فيه.

و الجواب عنه: انه يكفي في الاخذ بها هذا المقدار من الدخالة و لو بنحو انها بعض ما هو تمام الموضوع للاثر، و هي من قبيل قيام الخبر على الخبر.

(1) قوله (قدس سره): «و تعمه ادلة اعتباره» حاصله: ان الشرط في شمول ادلة الاعتبار ان يكون الخبر المنقول مما له اثر شرعي و ان كان الاثر من لوازمه.

(2) من كونه صحيحا و موثقا و حسنا و ضعيفا، فان الناقل للاجماع، تارة يكون عدلا اماميا، و اخرى يكون موثقا، و ثالثة يكون اماميا لم يثبت فيه غمز و لا مدح يدرجه في الصحيح او الضعيف، و رابعة يكون ضعيفا. فالخبر الناقل للاجماع حيث تشمله ادلة اعتبار الخبر فهو ينقسم باقسام الخبر الواحد و له احكامه، فان لازم كونه مثل الخبر الواحد في الاعتبار ذلك، و الّا لم يكن مثله اذا لم تعمّه احكامه و لا ينقسم باقسامه.

ص: 290

إذا كان كله منقولا، و لا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه، أو ما له دخل فيه و به قوامه، كما يشهد به حجيته بلا ريب (1) في

______________________________

(1) لما ذكر شمول أدلة الاعتبار للمسبب المنقول بالتضمن كالاجماع الدخولي و للمنقول بالاستلزام عند من يرى الملازمة اراد ان يشير الى فائدة نقل الاجماع عند من لا يرى الملازمة بين السبب المنقول بالاجماع و بين المسبب و هو رأي المعصوم، و حاصله: ما عرفت من ان الشرط في شمول أدلة الاعتبار ان يكون للخبر اثر شرعي، و لو بنحو بان يكون المنقول به بعض السبب الذي يترتب عليه الاثر الشرعي، و لا يلزم ان يكون تمام السبب، فلو كان المنقول اليه مثلا ممن لا يرى الاجماع اللطفي و لكنه كان يقول بان الاجماع العادي كالاجماع في عصر الأئمة عليهم السّلام مما يستلزم رأي المعصوم عليه السّلام، فاذا نقل الاجماع الشيخ- مثلا- فنقله للاجماع يدل على اتفاق اهل عصره، فاذا ضم المنقول اليه ما حصل من الاتفاق في العصر السابق على عصر الشيخ الى ان ينتهي الى عصر الامام عليه السّلام، فانه يتم عنده السبب التام المستلزم لرأيه عليه السّلام، و بعض هذا السبب هو اتفاق عصر الشيخ الذي ثبت عنده بواسطة شمول أدلة الخبر له لانه بعض السبب، و الى هذا اشار بقوله:

«فهو في الاعتبار الى آخر الجملة». و بقوله: «مثل ما اذا نقلت على التفصيل فلو ضم اليه الى آخر الجملة». و بقوله: «كان المجموع كالمحصل» و قد اشار الى ان المدار في شمول أدلة الاعتبار ان يكون للخبر و لو بنحو بعض السبب بقوله:

«و لا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما اذا كان المخبر به تمامه او ما له دخل فيه الى آخر الجملة».

ص: 291

تعيين حال السائل، و خصوصية القضية الواقعة المسئول عنها، و غير ذلك مما له دخل في تعيين مرامه عليه السلام من كلامه (1).

بطلان الطرق المعهودة لاستكشاف رأي المعصوم

و ينبغي التنبيه على أمور:

الاول: إنه قد مرّ أن مبنى دعوى الاجماع غالبا، هو اعتقاد الملازمة عقلا، لقاعدة اللطف، و هي باطلة (2)، أو اتفاقا بحدس رأيه عليه السّلام من

______________________________

(1) غرضه الاستشهاد لما ذكره من انه لا تفاوت في شمول أدلة الاعتبار للخبر بين كون المخبر به تمام الاثر الشرعي كالاخبار الناقلة للاحكام و بين كون المخبر به له دخل في الاثر الشرعي.

و حاصله: انه لا ريب و لا اشكال في شمول أدلة الاعتبار للخبر المتضمن لحال السائل و انه مثلا هو النميري الذي هو موسى بن اكيل النميري الثقة دون محمد بن نصير النميري الضعيف، او انه ابن سنان المتفق على توثيقه و هو عبد اللّه بن سنان دون محمد بن سنان المختلف فيه، او زكريا بن آدم الثقة دون زكريا بن ابراهيم المجهول، فان الخبر المتضمن لتعيين الراوي السائل من الامام عليه السّلام مما يشمله أدلة الاعتبار و هو مما له دخل في ترتب الاثر، و مثله الخبر المتضمن لكون الرطل المسئول عنه هو الرطل العراقي او المدني، و مثله الخبر المتضمّن لكون المرسل هو من مراسيل ابن ابي عمير.

(2) يتضمن هذا الامر بطلان الاجماع اللطفي من ناحية الكبرى، و بطلان الاجماع الاتفاقي و العادي و الدخولي من ناحية الصغرى في الغيبة الكبرى، فالاجماع بنحو اللطف باطل ثبوتا و غيره من الاجماعات باطلة اثباتا. اما بطلان الاجماع بنحو اللطف الذي هو طريقة الشيخ (قدس سره) في دعوى حجية الاجماع كما صرّح بها في العدّة ردا على السيد علم الهدى المنكر لذلك، فان المتحصّل من المحكى من كلام السيد (قدس سره) هو انه لا يجب عقلا على الامام إلقاء الخلاف بين العلماء لئلا يتفقوا على قول مخالف للحكم الواقعي.

ص: 292

.....

______________________________

ففيما اذا اتفقوا على قول مخالف للحكم الواقعي لا يجب عليه الظهور لا يصال الحكم الواقعي، فاتفاقهم على رأي لا يكشف ذلك عن موافقتهم لرأيه عليه السّلام، و الّا لألقى الخلاف بينهم، و فيما اذا اختلفوا على قولين لا يكشف ان رأيه عليه السّلام احد القولين، و الّا لأحدث القول الثالث لعدم حكم العقل بوجوب ذلك على الامام عليه السّلام.

قال السيد في محكي كلامه انه يجوز ان يكون الحق فيما عند الامام عليه السّلام: أي انه يجوز ان يكون الحكم الواقعي هو الحكم الموجود عنده عليه السّلام، ثم قال (قدس سره) و الاقوال الأخر تكون كلها باطلة و لا يجب عليه الظهور، لانا اذا كنا نحن السبب في استتاره عليه السّلام فكلما يفوتنا من الانتفاع به و بتصرفه من الاحكام نكون قد أوتينا من قبل نفوسنا، و لو أزلنا سبب الاستتار لظهر و انتفعنا به و أدى الينا الحق الذي عنده عليه السّلام انتهى المحكى من كلام السيد (قدس سره).

و قال الشيخ (قدس سره) بعد نقله لكلام السيد و هذا عندي غير صحيح لانه يؤدي الى انه لا يصح الاحتجاج باجماع الطائفة اصلا، لانّا لا نعلم بدخول الامام عليه السّلام إلّا بالاعتبار الذي بيناه، فمتى جوزنا انفراده عليه السّلام بالقول و لا يجب ظهوره منع ذلك من الاحتجاج بالاجماع .. الى آخر كلامه.

و المتحصّل من كلامه- المحكى في رسائل الشيخ الاعظم- وجهان:

الاول: ان وجه حجية اتفاق اهل العصر في الكشف عن رأي الامام انه يجب على الامام عليه السّلام اظهار الحق لوجوب اللطف عليه، و اللطف هو ايجاد ما يقرب الى الطاعة و يبعد عن المعصية، و من الواضح توقف القرب الى الطاعة و البعد عن المعصية على معرفة الحكم الذي يجب الاتيان بمتعلقه، و الحكم الذي يحرم الاتيان بمتعلّقه و لو لم يجب عليه الظهور لبيان الحق من التكاليف لما حسن التكليف، فان الغرض من التكليف اطاعته و مع عدم التمكن من الاطاعة لا يحسن التكليف، لان التكليف الذي لا يتمكن من اطاعته لغو و لا يحسن اللغو من الحكيم، و من الواضح

ص: 293

.....

______________________________

وجود التكليف من المولى الحكيم فيجب ايصاله على الامام بظهوره و تبليغه له لانحصار طريق الايصال للحكم الواقعي به، لعدم علم غير الامام بالتكليف الحق، و لذا يجب عليه الظهور لتبليغ ذلك، و هذا معنى وجوبه على الامام من باب اللطف.

الوجه الثاني: ما تضمنه صدر عبارته، و هو أخذ حجية الاجماع من الامور المسلمة المفروغ عنها، و ينحصر عنده (قدس سره) في الدخولي و اللطفي، و الدخولي متعذر في الغيبة فيبقى اللطفي، فيكون اتفاق اهل العصر كاشفا عن موافقته لرأي الامام عليه السّلام، و هذا مراده من قوله: و هذا عندي غير صحيح: أي انفراد الامام بالحكم الحق و بطلان الاقوال الأخر كما يراه السيد (قدس سره) غير صحيح، ثم علله بقوله: لانه يؤدي الى انه لا يصح الاحتجاج باجماع الطائفة اصلا، لانا لا نعلم بدخول الامام الّا بالاعتبار الذي بيناه، و هو كشف اتفاق اهل العصر عن رأيه، و بهذا المعنى يكون داخلا في الرأي مع المجمعين.

و هذا الوجه الثاني واضح الاشكال لعدم تسليم لزوم حجية الاجماع على كل حال، و أيّ ملزم بذلك اذا لم تتم قاعدة اللطف؟ فليس هذا وجها في قبال الوجه الاول.

و اما الجواب عن الوجه الاول، فأولا: ان اللطف الواجب على اللّه الموجب لإرسال الرسل و نصب الأوصياء الحجج ليتمكن الخلق من الوصول الى معارفهم الحقّة و التكاليف الواقعيّة المشتملة على المصالح العائد للناس نفعها في نظام معادهم و معاشهم هو جعل ما به يكون للّه على الناس الحجة و لا يكون لهم عليه الحجة، و هو وجود امام حيّ في كل وقت و عصر بحيث لو رجعوا اليه لأوصلهم الى ما يضمن لهم سعادة الدارين و ذلك حاصل في كل عصر و لا يخلو عصر من العصور عن وجود حجة للّه على الناس لو رجعوا اليه لبلغهم الى معارفهم.

ص: 294

.....

______________________________

اما لو كان بحيث لو ظهر لهم لقتلوه فوجوب تبليغهم الى معارفهم يسقط لانه منوط بالرجوع اليه و الناس لا يرجعون اليه بل يقتلونه لو عرفوه، و حيث انه لا بد و ان يكون دائما للّه على الناس الحجة كان وجوده فقط واجبا من باب اللطف.

اما تصرّفه بايصال الناس الى ما هو الحق في معارفهم و احكامهم فلا يجب لعدم تحقق شرطه و هو الرجوع اليه، و لذا قالوا: ان وجود الامام لطف و شرطه متحقق دائما، و هو ان يكون للّه على الناس الحجة، و تصرّفه لطف آخر منوط بالرجوع الى الامام و هو غير متحقق، بل المتحقق نقيضه و هو عدم الرجوع اليه بل لو عرفوه لقتلوه، فلا يجب على الامام من باب اللطف الظهور لا يصال التكليف الحق.

فظهر ان هنا لطفين: وجود الحجة و تصرفه، و اللطف الاول موجود، و الثاني مفقود لعدم تحقق شرطه.

و اما كون الغرض من التكليف اطاعته و الّا لكان لغوا ففيه اولا: ان الغرض من التكليف كما يكون اطاعته كذلك يكون الغرض منه ان لا يكون للناس على اللّه الحجة، و هنا الغرض منه هو الثاني دون الاول.

و ثانيا: ان الغرض من التكليف مختلف، تارة يكون على وجه يجب ايصاله و لو بنحو وجوب الاحتياط في مورده، و اخرى يكون الغرض اوسع من ذلك بان يكون بنحو لو وصل لوجب على الناس من طاعته، و التكليف في مورد لا يصل من قبيل الثاني.

و ثالثا: ان التكليف يكفي في عدم لغويته تحقق اطاعته في زمان من الازمنة، و لا بد بظهوره- عجل اللّه فرجه- تتحقق فعليته و وصوله، و تتحقق اطاعته.

و ثانيا: لو سلمنا وجوب تصرّفه من باب اللطف على كل حال و عدم كونه مشروطا بالرجوع اليه، فانما يجب عليه الظهور لابلاغ التكليف الحق حيث يكون التكليف الحق الذي ينفرد به فعليّا الزاميا، اما اذا لم يكن فعليا بل كان انشائيا لم يتحقق شرط فعليّته او كان غير الزامي فلا مورد لقاعدة اللطف، لعدم وجوب

ص: 295

فتوى جماعة، و هي غالبا غير مسلمة (1)، و أما كون المبنى العلم بدخول الامام بشخصه في الجماعة، أو العلم برأيه للاطلاع بما يلازمه عادة من

______________________________

اطاعة التكليف الانشائي و عدم حرمة معصيته، و كذا اذا كان التكليف الواقعي غير الزامي فانه لا تكون هناك اطاعة واجبة و لا معصية فلا يجب عليه ايصال ما يقرّب الى الطاعة اللازمة و لا ما يبعد عن المعصية فتامل.

و ثالثا: انه لو وجب عليه اتيان ما يقرّب الى الطاعة و ما يبعد عن المعصية من باب اللطف لوجب عليه التبليغ لكل فرد فرد من الناس، و لا يكفي بيانه للتكليف الحق في ضمن الاقوال، لانه انما يعمل به بعض اهل الاقوال و هم اهل القول الموافق له عليه السّلام، و اما من كان قوله غير موافق فلا يكون قريبا الى الطاعة و لا بعيدا عن المعصية، و ما السبب لاختصاص بعض الناس بهذا اللطف دون غيرهم؟ بل هذا اللطف لوجب عليه التبليغ لكل فرد من افراد الناس، و هذا مما لا يلتزم به الشيخ (قدس سره) و لا كل من يقول بقاعدة اللطف.

فاتضح: ان الاجماع لاعتقاد الملازمة عقلا من باب قاعدة اللطف باطل لبطلان قاعدة اللطف، و لذا قال (قدس سره): «ان مبنى دعوى الاجماع غالبا» و هي الاجماعات الواردة في كتب شيخ الطائفة بل و ما تقدمه، فان الظاهر من شيخ الطائفة ان الاجماع من باب اللطف هي طريقة من تقدمه ايضا و تبعه الكثير ممن تأخر عنه، فالسبب في حجية الاجماع عندهم «هو اعتقاد الملازمة عقلا» بين اتفاق اهل العصر و رأي الامام عليه السّلام «لقاعدة اللطف و هي باطلة» كما عرفت.

(1) لما فرغ من بطلان الاجماع من باب قاعدة اللطف كبرويا و في مرحلة الثبوت أشار الى بطلان الاجماع من باب الحدس اتفاقا، و الوجه في دعوى الاجماع من باب الحدس اتفاقا و ان كان لا مانع منه كبرويا و في مرحلة الثبوت لامكان ان يكون هناك جماعة يحدس من رأيهم رأي الامام عليه السّلام، الّا انه ممنوع صغرويا في زمان الغيبة فان السبب في حدس رأي الامام من رأي بعض متبعيه انما هو حيث يكون لأتباعه

ص: 296

الفتاوى، فقليل جدا في الاجماعات المتداولة في السنة الاصحاب، كما لا يخفى، بل لا يكاد يتفق العلم بدخوله عليه السّلام على نحو الاجمال في الجماعة في زمان الغيبة (1)، و إن احتمل تشرف بعض الاوحدي بخدمته و معرفته أحيانا (2)، فلا يكاد يجدي نقل الاجماع إلا من باب نقل السبب

______________________________

المخلصين اجتماع بخدمته، و هو في الغيبة معلوم العدم لعدم اجتماع غير الأوحدي به و هو كالكبريت الاحمر، و الى هذا اشار بقوله: «بحدس رأيه عليه السّلام من فتوى جماعة و هي غالبا غير مسلمة».

(1) حاصله الاشكال ايضا في دعوى الاجماع الدخولي لا من ناحية الكبرى و مرحلة الثبوت، بل من ناحية الصغرى و مرحلة الاثبات، فان دعوى الاجماع بنحو الدخول نادر جدا في الاجماعات المتداولة في كلمات الاصحاب و كتبهم، بل غير موجود في كلمات الاعلام الذين هم في الغيبة، و مستحيل عادة ان يتبع احد في الغيبة كلمات العلماء المعروفين و غير المعروفين بحيث يقطع بدخول الامام فيمن حصل على رأيهم من المجمعين، و الى هذا اشار بقوله: «بل لا يكاد يتفق الى آخر الجملة».

و مثله الاشكال في الاجماع العادي فانه مع كون دعواه نادرة جدا في كلمات الاصحاب انه انما يلازم قولهم قوله عليه السّلام عادة فيما اذا كان اصحابه يجتمعون و يصدرون عن رأيه و هو غير متحقق في الغيبة الكبرى، و الى هذا اشار بقوله: «او العلم برأيه للاطلاع بما يلازمه عادة من الفتاوى» أي ان العلم برأي الامام عليه السّلام الحاصل من الاطلاع على ما يلازمه عادة من فتاوى المفتين «ف» هو كالاجماع الدخولي «قليل جدا في الاجماعات المتداولة في السنة الاصحاب».

(2) لا يخفى ان الاجماع التشرّفي مما لا ينكر حصوله لبعض الاوحديين البالغين غاية الكمال ما عدا العصمة الواجبة، الّا انه انما يثمر حيث ينفرد هذا الاوحدي بدعوى الاجماع، اما اذا سبقه من غير اهل رتبته مدع للاجماع فانه من المحتمل ان يكون دعواه للاجماع لقاعدة اللطف او العادة او الاتفاق الحدسي، و لا يدل دعواه

ص: 297

بالمقدار الذي أحرز من لفظه، بما اكتنف به من حال أو مقال، و يعامل معه معاملة المحصّل (1).

تعارض الاجماعات المنقولة

الثاني: إنه لا يخفى أن الاجماعات المنقولة، إذا تعارض اثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعارض إلّا بحسب المسبب، و أما بحسب السبب فلا تعارض في البين، لاحتمال صدق الكل (2)، لكن نقل الفتاوى على الاجمال بلفظ الاجماع حينئذ، لا يصلح لان يكون سببا، و لا جزء

______________________________

للاجماع غير المتفرد به على انه قد تشرّف و اخفاه لبعض دواعي الاخفاء التي مرت الاشارة اليها.

(1) هذا تفريع على تحقق الاجماع باحد الأنحاء المتقدمة من باب اللطف او العادة او الاتفاق على فرض تحققها.

و حاصله: انه قد علمت عدم جدوى هذا الاجماع من ناحية المسبب لانا لا نقول بالملازمة فيها، و اما بالنسبة الى نقل السبب فحيث انه مما يمكن ان يكون بعض ما يترتب عليه الاثر الشرعي، فيعامل معه معاملة المحصل بالمقدار الذي يحرز منه من مقدار السبب الذي يقتضيه نقله من حاله من كونه كثير التتبع و الضبط او قليله، و من مقاله بان يقول تارة: اجمع اصحابنا كلّهم، و اخرى الظاهر من اصحابنا الاتفاق و امثال ذلك، و الى هذا اشار بقوله: «فلا يكاد يجدي نقل الاجماع الا من باب نقل السبب» دون المسبب، و في السبب انما هو «بالمقدار الذي احرز من لفظه الى آخر الجملة».

(2) ان هذا الامر لبيان التعارض في الاجماعات المنقولة، فيما اذا نقل اجماعان او اكثر على حكمين او على احكام، كما لو نقل اجماع على وجوب شي ء و نقل اجماع آخر على حرمته او نقل اجماع ثالث على استحبابه، فهل التعارض يكون في السبب و المسبب او انه يكون في المسبب دون السبب؟

ص: 298

.....

______________________________

و توضيحه: ان التعارض هو التكاذب بان نعلم اجمالا بكذب احدهما و لا اشكال في وقوع التعارض في المسبب في الاجماعين المنقولين على حكمين، لوضوح عدم امكان ان يكون للواقعة الواحدة حكمان واقعيان، فلا يعقل ان يكون الشي ء الواحد واجبا واقعا و حراما واقعا او مباحا او مكروها او مستحبا، فهما في المسبب متكاذبان للعلم الاجمالي بكذب احدهما و ان ذلك الشي ء الواحد لا بد و ان يكون حكمه الواقعي واحدا.

و ينبغي ان لا يخفى ان لزوم التكاذب في المسبب في الاجماعين انما هو في وجوه الاجماعات التي اشار اليها في عبارته من الدخولي و اللطفي و العادي و الاتفاقي، اما اذا كان الوجه في دعوى الاجماع هو وجود دليل معتبر للمجمعين فيمكن ان لا يتكاذبا في المسبب ايضا، لعدم المانع من وجود دليلين معتبرين متنافيين فان المسبب في هذين الاجماعين هو الدليل المعتبر، و من الواضح امكان وجود دليلين معتبرين متعارضين، و على هذا فالتعارض يقع بين مدلول الدليلين لا بين الاجماعين لا سببا و لا مسببا.

و لكنه حيث لم يتعرّض لهذا الوجه من الاجماع، و ما تعرّض له من وجوه الاجماع المسبب فيها كلها هو رأي الامام و الحكم الواقعي، و قد عرفت عدم امكان ان يكون للشي ء الواحد حكمان واقعيان، فهي كلها متعارضة في المسبب.

و اما بحسب السبب فيمكن ان يتكاذبا فيه ايضا و يمكن ان يكونا صادقين فيه.

و بيان ذلك: انه لو كان الاجماعان- مثلا- كلاهما دخوليين او لطفيين فانهما متكاذبان في السبب ايضا، لعدم امكان صدق دعوى اجتماع جميع العلماء بحيث يكون الامام بعضهم على حكمين واقعيين متنافيين، لبداهة عدم امكان اجتماعهم كذلك، و عدم امكان دخول الامام مع كل من المجمعين في الدخولي، و نعلم اجمالا بعدم اجتماعهم كذلك و عدم دخوله عليه السّلام في كل واحد من الاجماعين.

ص: 299

سبب، لثبوت الخلاف فيها (1)، إلا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه عليه السّلام لو اطلع عليها، و لو مع اطلاعه

______________________________

و اما اللطفيين فانه ايضا كذلك لعدم امكان ان يتفق اهل العصر كلهم على حكمين متنافيين في واقعة واحدة فهما متكاذبان في السبب ايضا.

و اما اذا كانا عاديين او اتفاقيين فلا مانع من ان يكونا صادقين معا في نقل السبب، لامكان ان ينقل كل من الناقلين للاجماع عن جماعة يرى الملازمة العادية او الاتفاقية بينهما و بين رأي الامام عليه السّلام، هذا اذا عرفنا الوجه في الاجماعين المنقولين، و اما اذا لم نعرف الوجه فيهما و ان الملازمة عند الناقلين هل هي من باب اللطف او الاتفاق مثلا، فحيث انه يحتمل ان يكون من باب الاتفاق فلا علم بكذب احدهما في السبب، و هذا هو مفروض المتن و لذا حصر التعارض فيها في المسبب دون السبب، و قال (قدس سره): «فلا يكون التعارض الّا بحسب المسبب» لعدم امكان ان يكون للواقعة الواحدة حكمان واقعيان، فنعلم اجمالا بكذب احد المسببين فيهما «و اما بحسب السبب فلا تعارض في البين لاحتمال صدق الكل» لانه من الجائز ان يكون الإجماعان او الاجماعات من باب العادة او الاتفاق، بان يكون احد الناقلين اطلع على اقوال جماعة بالوجوب حصل له القطع منها برأي الامام، و الآخر اطلع على اقوال جماعة اخرى بالحرمة حصل له القطع ايضا منها برأي الامام عليه السّلام.

و من الواضح: ان التعارض منوط بالعلم بكذب احدها، و مع احتمال صدقها جميعا لا علم بالكذب فلا تعارض بينها في نقل السبب.

(1) توضيحه: ان الناقل للاجماع، تارة ينقل آراء المجمعين بالتفصيل بان ينقل اسماء القائلين، فيقول- مثلا- قال الشيخ المفيد و شيخ الطائفة و السيد علم الهدى و فلان و فلان (قدس سرهم) و اخرى ينقله بالاجمال بلفظ الاجماع فقط بان يقول- مثلا- اجمع اصحابنا.

ص: 300

.....

______________________________

و على كل منهما فتارة يكون في احد الاجماعين المتعارضين خصوصية، و اخرى لا تكون هناك خصوصية.

و الكلام فعلا في الصورة الاخيرة و هي الاجماعان المنقولان على نحو الاجمال، و لا يكون لاحدهما خصوصيّة من جهة امكان كون احدهما سببا تاما او جزء سبب، اما عدم امكان كون كل منهما سببا تاما فهو بديهي بعد فرض تعارضهما و تكاذبهما في المسبب، فانه بعد فرض تكاذبهما في المسبب لا يمكن ان يصلح كل منهما لان يكون سببا تاما عند المنقول اليه، لان لازم كونه سببا تاما حصول العلم منه برأي الامام، و مع العلم بكذب احدهما يعلم بعدم سببية احدهما التامة، فصلوح كل منهما لان يكون سببا تاما خلف.

و اما صلاحية كل منهما لان يكون جزء سبب فممنوع ايضا و لا يصلحان لان يكونا جزء سبب ايضا، لفرض كونهما منقولين بالاجمال و لا خصوصية في احدهما، فأخذ احدهما لان يضم اليه دون الآخر مع كون الآخر ينافيه فيما يترتب عليه من الحكم الواقعي و لو بكونه جزء سبب له لا وجه له، فانه مع كونه ترجيحا بلا مرجح لا يعقل ان يقتضي الملازمة للحكم الواقعي بنحو كونه جزء سبب له مع اقتضاء الاجماع الآخر عدم الملازمة لهذا الحكم، لفرض كون الاجماع الآخر يقتضي حكما آخر واقعيا غير هذا الحكم، و لذا قال (قدس سره): «لكن نقل الفتاوى على الاجمال بلفظ الاجماع حينئذ» مع عدم الخصوصية في احدهما «لا يصلح لان يكون سببا» تاما للعمل بكذب احدهما المانع من العلم بالملازمة «و لا جزء سبب لثبوت الخلاف فيها» أي حيث كان كل منهما مخالفا للآخر في الاقتضاء لحكم غير ما يقتضيه الآخر كان مانعا ان يكون جزء سبب يوجب العلم بالحكم.

و من هذا يعلم اجمالا فيما اذا كان الناقل للاجماع قد نقل الاقوال بالتفصيل في ذكره أسماء المجمعين و لم يكن لاحد الاجماعين المنقولين بالتفصيل خصوصية على الآخر، بان كان كل منهما ينقل عن جماعة من المتأخرين أو المتقدمين قد تساوى افراد الجماعتين من ناحية الورع و الضبط و غيرهما من النواحي الأخر، فانه ايضا لا يصلح ان يكون كل منهما سببا تاما و لا جزء سبب، و الحال فيه كالصورة السابقة.

ص: 301

على الخلاف، و هو و إن لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها مفصلا ببعيد، إلا أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك إلا مجملا بعيد (1)،

______________________________

(1) قد عرفت ان وجود الخصوصية في احد الاجماعين دون الآخر على صورتين ايضا، لانهما اما ان يكونا منقولين بالتفصيل، او بالاجمال بلفظ الاجماع من دون ذكر اسماء المجمعين

اما في المنقولين بالتفصيل مع وجود الخصوصية في احدهما دون الآخر كما لو كان في احد الاجماعين افراد المجمعين من القدماء الأجلاء الموجودين في عصر الائمة عليهم السّلام، و لم تكن هذه الخصوصية في افراد المجمعين في الاجماع الآخر، فان المنقول اليه اذا كان ممن يرى الملازمة العادية- مثلا- يكون الاجماع المشتمل على تلك الخصوصية سببا تاما عنده فضلا عن كونه جزء سبب، و اذا كان لا يرى الخصوصية يكون الاجماع جزء سبب فيمكن ان يضمّ اليه حتى يحصل عنده الاجماع الذي هو السبب التام، و لا يكون الاجماع الآخر عنده سببا و لا جزء سبب مع وجود الاجماع المشتمل على تلك الخصوصية، و الى هذا اشار بقوله: «إلّا اذا كان في احد» الاجماعين «المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول اليه برأيه عليه السّلام الى آخر الجملة».

و اشار ان ذلك فيما اذا كان منقولا بالتفصيل بقوله: «و هو و ان لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها مفصّلا ببعيد» أي ان صلاحية هذا الاجماع المشتمل على الخصوصية لان يكون سببا تاما عند المنقول اليه ليست ببعيدة، و ان كان هناك اجماع مفصل آخر معارض له، لاشتمال الاول على خصوصية تقتضي ذلك عند المنقول اليه دون الاجماع الآخر.

و اما في المنقولين بالاجمال فالذي يظهر من المصنف استبعاد ان يكون في احد الاجماعين خصوصية تقتضي كونه سببا عند المنقول اليه، لان الخصوصية انما هي في افراد المجمعين، و مع عدم الاطلاع عليهم تفصيلا كما هو المفروض من كون الاجماع

ص: 302

فافهم (1).

نقل التواتر بالخبر الواحد

الثالث: إنه ينقدح مما ذكرنا في نقل الاجماع حال نقل التواتر، و أنه من حيث المسبب لا بد في اعتباره من كون الاخبار به إخبارا على الاجمال بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به (2)، و من

______________________________

منقولا بالاجمال بلفظ اجمع اصحابنا او مثله من الفاظ نقل الاجماع على وجه الاجمال كيف تحصل تلك الخصوصية المقتضية لكونه سببا تاما مع وجود الاجماع المعارض؟ و لذا استبعد المصنف ذلك و قال: «إلّا انه مع عدم الاطلاع عليها» أي مع عدم الاطلاع على اهل الفتاوى «كذلك» أي تفصيلا، فان المفروض انه قد نقل الاجماع بنحو الاجمال فلا يكون للمنقول اليه اطلاع عليها «الّا مجملا» فان ادعاء حصول الخصوصية في احدهما دون الآخر «بعيد».

(1) لعله اشارة الى ان الخصوصية الموجبة لكون احدهما سببا دون الآخر، تارة تكون في افراد المجمعين و هذه الخصوصية غير موجودة في نقل الاجماع بنحو الاجمال، و اخرى تكون في ناقل الاجماع، فان الناقل لاحد الاجماعين من القدماء الاجلاء الموجودين في عصر الامام عليه السّلام فانه لا يعقل ان يكون ناقلا عن المتأخرين عن زمانه، و حيث كان من الأجلاء الذين لا يعتمدون الا على فتاوى الأجلاء ايضا، فان إجماعه و ان كان منقولا بالاجمال إلّا انه يكون ذا خصوصية دون الاجماع الآخر فيما اذا كان ناقله من المتأخرين و لم يكن في الجلالة كناقل الاجماع الاول، و حينئذ فلا بعد في ان تحصل الخصوصيّة في احدهما الموجبة لكونه سببا تاما عند المنقول اليه دون الاجماع الآخر، و ان كان كلا الاجماعين منقولين بالاجمال.

(2) هذا الامر لبيان التواتر المنقول، و توضيحه أن المعروف في معنى التواتر هو اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة: أي اخبار جماعة يفيد قولهم بذاته عادة العلم بما اخبروا به، فان لازم امتناع تواطئهم على الكذب عادة كون اخبارهم بما انه اخبار يقتضي بذاته عادة العلم بالخبر، لان احتمال عدم المطابقة للواقع، اما

ص: 303

.....

______________________________

لاحتمال الكذب، او لاحتمال الخطأ، و اذا كان هو الاخبار من جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة فامتناع التواطؤ على الكذب مما ينفي عدم المطابقة من ناحية الكذب، و نفيه لاحتمال الخطأ آكد، لان الخطأ حيث انه عن لا عمد فاحتمال كون هؤلاء الجماعة أخطئوا كلهم من باب الصدفة مستحيل غاية الاستحالة بحسب العادة، فانهم حيث كانوا من الكثرة- مثلا- بحيث يمتنع ان يتواطئوا على الكذب، فاحتمال خطئهم كلهم من باب الصدفة اولى بالامتناع عادة، فان الكثرة عادة اشد منعا لاحتمال الخطأ في المحسوسات من منعها لاحتمال التواطؤ على الكذب.

و قد تبيّن مما ذكرنا: ان التواتر هو ما يستلزم العلم بالمخبر به لانه اخبار قد تواتر من دون ملاحظة حال المخبرين، هذا هو المعروف في معنى التواتر.

و يطلق ايضا على اخبار جماعة يفيد اخبارهم العلم بالمخبر به سواء كان قولهم مما يقتضي ذلك عادة ام لا.

و المعنى الثاني اعم من المعنى الاول لانه منوط بالعادة و هي لا يختلف حالها بحسب الاشخاص، بخلاف المعنى الثاني لان اخبار من يفيد قولهم العلم اذا لم يكن مقيدا بالعادة فقد يفيد العلم عند شخص و لا يفيده عند شخص آخر، فيصدق المعنى الثاني دائما على التواتر المفيد للعلم عادة و يصدق في اخبار من لا يفيد العلم بحسب العادة، و لكن يحصل منه العلم عند بعض، فلذا كان اعم من المعنى الاول.

فاذا عرفت معنى التواتر- يتضح لك: ان التواتر وصف للخبر بحال نفسه لانه هو خبر قد تواتر، و وصف للمخبر به باعتبار كون الاخبار به كان متواترا، فهو وصف له باعتبار غيره، و هو خبره لا باعتبار نفسه، فهناك سبب و هو الخبر المتواتر و مسبب و هو المخبر به.

و يمكن ان يقال: انه وصف للمخبر به ايضا بحال نفسه و ان كان سببه تواتر نفس الخبر، فهو من قبيل الواسطة في الثبوت التي يكون الاثر موجودا في الواسطة و ذي

ص: 304

.....

______________________________

الواسطة، كالنار بالنسبة الى حرارة الماء فان النار واسطة في ثبوت الحرارة للماء و هي موجودة ايضا في النار، هذا اذا كان المراد من المخبر به مؤدى الخبر.

و اما اذا كان المراد من المخبر به مطابق المؤدى فهو ليس بمتواتر، و وصفه بالتواتر بحال غيره لا بحال نفسه.

و لا يخفى ان الحال كذلك، فان الخبر الدال على شي ء- كمجي ء زيد- حسي، و اما مطابقه و هو مجي ء زيد في الخارج فليس بحسي.

و يتضح لك ايضا مما ذكرنا انه اذا قام التواتر عند شخص فالخبر متواتر و المخبر به متواتر، فانه اذا اخبر جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب فنفس اخبار الجماعة متواتر و ما اخبروا به متواتر، هذا حال التواتر المحصّل و هو حسي.

و اما التواتر المنقول فهو نقل لنفس السبب و هو الخبر المتواتر عن حس، و للمسبب و هو المخبر به نقل عن حس ايضا. نعم هو نقل لمطابق المخبر به في الخارج عن حدس.

و قد عرفت مما مر في الاجماع ان أدلة اعتبار الخبر الواحد كما تشمل المخبر به عن حس كذلك تشمل المخبر به عن حدس اذا كان المنقول اليه ممن يرى الملازمة بين السبب و وقوع المسبب في الخارج، لانه اخبار حسي عما يستلزم اثرا شرعيا و ان لم يكن حسيّا عن نفس الاثر الشرعي.

و الحاصل: ان الناقل لتواتر خبر ينقل الخبر و المخبر به عن حس و مطابق المخبر به في الخارج عن حدس. و لما كان الاثر لمطابق المخبر به في الخارج، فاذا كان الناقل ينقل التواتر العادي فهو حجة لانه نقل للمخبر به عن حس و مطابقة المخبر به لما في الخارج امر عقلي لان المفروض ان استلزامه للصدق لانه يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة.

و اما اذا كان الناقل يقول بالتواتر بالمعنى الثاني فالتواتر عنده متحقق، و اما عند غيره فيثبت حيث يفرض ان المنقول اليه ممن يرى الملازمة بين السبب المنقول عن حس

ص: 305

حيث السبب يثبت به كل مقدار كان اخباره بالتواتر دالّا عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل، فربما لا يكون إلا دون حد التواتر، فلا بد في معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الاخبار، يبلغ المجموع ذاك الحد (1).

______________________________

و بين مسببه فأدلة الخبر تقتضي ترتيب الاثر على ما له اثر شرعي اذا كان ما له الاثر حسيّا، و الى هذا اشار بقوله: «و انه من حيث المسبب لا بد في اعتباره من كون الاخبار به اخبارا على الاجمال بمقدار يوجب قطع المنقول اليه لو علم به» كما لو اخبر العادل بان الخبر الكذائي قد نقله جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة.

(1) توضيحه: انه قد عرفت ان التواتر يطلق على معنيين:

الاول: اخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة، و هذا يستلزم العلم بالمخبر به بحسب اقتضاء من ذاته و كونه اخبارا تواتريا.

الثاني: اخبار جماعة يحصل من قولهم العلم بالمخبر به عند من قام عنده التواتر، و ان لم يكن أخبارهم بحسب العادة مما يقتضي بذاته العلم بالمخبر به.

ثم ان الناقل للتواتر لا يخلو: اما ان ينقله بالتفصيل بان ينقل اسماء نقلة الخبر او ينقله بالاجمال بان يقول ان الخبر الكذائي قد نقل متواترا من دون ذكر اسماء النقلة له.

فان نقله بالتفصيل: فتارة يكون المنقول عنهم يحصل منهم العلم بحسب العادة لو سمعهم المنقول اليه بالمشاهدة، و هذا نقل للسبب التام الموجب للعلم بالمخبر به، و تشمله أدلة حجية الخبر لانه نقل حسي بالنسبة الى السبب، و يثبت المسبب أي المطابق بالملازمة.

و اخرى: تكون الجماعة المنقولة اسماؤهم بالتفصيل مما لا يستلزم عادة العلم بالمخبر به و لكن قد حصل للناقل منه العلم و لذا جعله من المتواتر، و حينئذ يختلف الحال في المنقول اليه.

ص: 306

.....

______________________________

فان كان الجماعة المنقول عنهم ممن يحصل من قولهم العلم للمنقول اليه فيما لو شاهدهم و سمع منهم فهذا ايضا يكون نقلا لسبب تام عند المنقول اليه و يستلزم المخبر به بالملازمة و تشمله أدلة حجية الخبر بما هو سبب تام.

و ان كان الجماعة المنقول عنهم ممن لا يحصل للمنقول اليه العلم من خبرهم لو كان قد شاهدهم و سمع منهم، فلا يكون هذا نقلا للسبب التام و انما يكون نقلا لجزء السبب، لانه لو ضمّ اليه لكان سببا تاما و تشمله أدلة الاعتبار بما هو جزء سبب كما عرفت ذلك في نقل الاجماع، هذا فيما اذا كان الناقل للتواتر قد نقله بالتفصيل.

و اما اذا كان ممن ينقله بالاجمال، فان عرف من حاله انه ممن يرى التواتر بالمعنى الاول و لا يرى اخبار الجماعة الذي لا يحصل العلم من قولهم بحسب العادة من التواتر، و ان حصل من قولهم العلم لغيره او عرف من حاله انه ممن لا يحصل له العلم الا مما يوجب العلم بحسب العادة، و لا يكون الخبر من المتواتر عنده إلّا اذا كان قد نقله جماعة يوجب اخبارهم العلم بالمخبر به لانه اخبار يقتضي ذلك عادة، فهذا يكون نقلا للسبب التام ايضا و تشمله أدلة الاعتبار بما هو سبب تام.

و اما ان عرف من حاله انه ممن يرى التواتر بالمعنى الثاني او لم يعرف حاله فيكون نقله نقلا لجزء السبب لانه هو القدر المتيقن من هذا النقل، و لا بد للمنقول اليه من الضمّ له ليحصل السبب التام، و الى هذا اشار بقوله: «من حيث السبب» فيما اذا كان الناقل قد نقل التواتر بنحو الاجمال فانه «يثبت به كل مقدار كان اخباره بالتواتر دالا عليه كما اذا اخبر به على التفصيل فربما» يكون سببا تاما و ربما «لا يكون الّا دون حد التواتر» فيكون نقلا لجزء السبب «فلا بد في معاملته معه» أي فلا بد من معاملة المنقول اليه مع المنقول «معاملته» أي معاملة جزء السبب فلا بد «من لحوق مقدار آخر من الاخبار» و ضمها اليه حتى «يبلغ المجموع ذاك الحد» أي حتى يبلغ المجموع السبب التام.

ص: 307

نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة- و لو عند المخبر- لوجب ترتيبه عليه، و لو لم يدل على ما بحد التواتر من المقدار (1).

______________________________

(1) توضيحه: ان الاثر المترتب على التواتر، تارة يكون اثرا للمخبر به كالمخبر المتواتر الذي يتضمن الاخبار عن حكم من الاحكام، و هو كالخبر المتواتر الدال على وجوب شي ء او حرمته او غيرهما من الاحكام الباقية، و الكلام المتقدم كله كان بملاحظة هذا الاثر الذي هو اثر للمخبر به.

و اخرى يكون الاثر لنفس التواتر و لو عند المخبر بالتواتر، كما لو اخبر الناقل للتواتر- مثلا- بان وقف الواقف الفلاني قد نقل بالتواتر سواء كان الناقل للتواتر قد حصّل التواتر بنفسه او كان قد نقل له الثقة ما يكون تواترا عنده بحيث كان الناقل لهذا التواتر قد نقل له الناقل الثقة ما يكون تواترا عنده لو حصّله بنفسه، و كان هذا الناقل للتواتر ممن له تعلق بميراث الواقف، فيكون هنا لهذا التواتر المنقول اثران: اثر يترتب على المخبر به و هو ثبوت الوقف الذي اخبر عنه، و اثر لنفس التواتر الثابت عند المخبر من لزوم عدم ميراثه بالنسبة الى الوقف الذي ثبت عنده بالتواتر وقف الواقف له، فانه بعد ان اخبر الناقل للتواتر فقد تحقق الوقف عنده بالتواتر و قد حصل له العلم بالوقف، و لازمه خروج الموقوف عن الميراث، فلا بد أن لا يرث الناقل منه، و هذا اثر يترتب على التواتر عند المخبر و لا بد من ترتبه عليه و ان كان ما نقله لم يبلغ حد التواتر عند المنقول اليه، و لذا قال (قدس سره): «نعم لو كان هناك اثر للخبر المتواتر في الجملة و لو عند المخبر» لا للمخبر به «لوجب ترتيبه عليه» لانه اثر لنفس التواتر و المفروض ثبوت التواتر عند المخبر لفرض نقله لتواتره فيجب ترتيب الاثر بالنسبة الى المخبر «و لو لم يدل» ما نقله من التواتر «على ما بحد التواتر من المقدار» الذي يحصل به التواتر عند المنقول اليه.

ص: 308

الشهرة في الفتوى

فصل مما قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى (1)، و لا يساعده

______________________________

(1) لا يخفى ان الشهرة تارة: تكون في الرواية، بان تكون الرواية قد كثر ورودها في الاصول القديمة الأصلية التي جمعت في الجوامع الاربعة، و هذه الشهرة من مرجحات الرواية عند المعارضة و الكلام فيها في باب التعارض.

و اخرى: تكون في العمل بالرواية بان يستند المشهور في الفتاوى الى رواية بخصوصها، و تسمى هذه الشهرة بالشهرة العملية، و هذه الشهرة هي الشهرة الجابرة فيما اذا كانت الرواية التي استند اليها المشهور مرسلة او ضعيفة، فان استناد المشهور اليها يرفع الغمز فيها من ناحية الارسال و يجعلها بحكم الرواية المتصلة بسندها الى المعصوم، و يجبر ضعفها ان كانت ضعيفة و يجعلها بحكم الرواية الصحيحة، لان المتحصّل من أدلة اعتبار الخبر الواحد هو حجية الخبر الموثوق بصدوره و استناد المشهور اليها يجعلها من مصاديق الخبر الموثوق، و ليست هذه الشهرة هي محل الكلام في المقام.

و ثالثة: الشهرة في الفتوى من دون استناد الى دليل مصرّح به.

و الكلام فيها تارة: من ناحية كونها موجبة للغمز في الرواية الصحيحة فيما اذا قامت الشهرة في الفتوى على خلافها، فان اعراض المشهور عن الاستناد الى الرواية الصحيحة الماثلة نصب اعينهم و افتاؤهم بخلاف ما دلت عليه- هل يوجب و هنا و عدم الوثوق بها مطلقا او في خصوص ما اذا كانت الرواية الصحيحة على وفق الاحتياط او القاعدة و مع ذلك تقوم الشهرة في الفتوى على خلافها، او لا توجب و هنها فيها مطلقا؟

و تشارك هذه الشهرة من هذه الجهة الشهرة العملية بدعوى ان استناد المشهور الى الرواية المرسلة او الضعيفة و إفتاؤهم على طبقها مع وجود الرواية الصحيحة الدالة على خلاف ذلك يوجب و هنها بالاعراض عنها.

ص: 309

دليل (1)، و توهم دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه بالفحوى، لكون الظن الذي تفيده أقوى مما يفيده الخبر (2)، فيه ما لا يخفى، ضرورة عدم

______________________________

و على كل فالكلام في الشهرة الفتوائية في المقام ليس من هذه الناحية ايضا و الكلام فيها في باب التعادل و التراجيح.

و اخرى: يقع الكلام في الشهرة الفتوائية من ناحية كونها احد الظنون الخاصة، و هذا الفصل معقود للتكلم فيها من هذه الناحية.

و قبل الشروع في الادلة التي ذكرت لحجيتها لا باس بالاشارة الى تفسيرها.

و قد عرفها الشيخ الاعظم في الرسائل: بفتوى جلّ الفقهاء المعروفين سواء كان في مقابلها فتوى غيرهم بالخلاف أم لم يعرف الخلاف و الوفاق من غيرهم.

و لا يخفى ان تعريفها بذلك مما يشمل الاجماع ببعض الوجوه التي مرّ ذكرها، فان فتوى جلّ الفقهاء المعروفين حيث لا يعرف الخلاف من غيرهم هو المسمى بالاجماع السكوتي، و هو الاجماع الذي لم يعبر عنه بلفظ الاجماع، و يأتي فيه ما مرّ من الكلام في الاجماع المعبر عنه بلفظ الاجماع كما لا يخفى.

و الاولى تعريفها بانها: هي تطابق فتاوى جماعة كثيرة من الفقهاء غير الموجبة للعلم بالواقع و لا للعلم بوجود دليل معتبر سندا و دلالة و جهة.

(1) قد تقدم ان الاصل عدم حجية الظن ما لم يقم على حجيّته دليل يوجب القطع بحجيّته فاذا لم تكن الادلة التي ذكرت لحجيتها مما تفيد القطع بالحجيّة فهي باقية على مقتضى الاصل و هو عدم حجيتها، و لذا اكتفى في نفي حجيتها بقوله: «و لا يساعده دليل» أي ان القول بحجية الظن الحاصل من الشهرة في الفتوى لا يساعده دليل، و حيث لا يساعده دليل فهو باق على اصالة عدم الحجيّة.

(2) قد ذكروا لحجية الظن الحاصل من الشهرة اكثر من ما اشار اليه المصنف، و لعل عمدة الادلة ثلاثة، و هي التي اشار اليها في عبارته:

ص: 310

دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته الظن، غايته تنقيح ذلك بالظن، و هو لا يوجب إلا الظن بأنها أولى بالاعتبار، و لا اعتبار به، مع أن دعوى القطع بأنه ليس بمناط غير مجازفة (1).

______________________________

الاول من الادلة: ان المناط لحجية الخبر الواحد الثابتة حجيته بالقطع هو كونه مما يفيد الظن، و الظن الحاصل من الشهرة أقوى من الظن الحاصل من الخبر الواحد، فما دل على حجية الخبر يدل على حجية الشهرة بالفحوى، فان الفحوى هي مفهوم الموافقة الذي هو عبارة عن دلالة المنطوق على حكم يكون مناط ذلك الحكم في غيره اقوى مما في المنطوق، كدلالة لا تقل لهما اف على حرمة الضرب، فاذا ثبت ان المناط لحجية الخبر هو الظن الحاصل منه و ان الظن الحاصل من الشهرة اقوى منه كانت أدلة حجية الخبر دالة على حجية الشهرة بالفحوى.

لا يقال: ان مفهوم الموافقة مشروط بان تكون الاقوائية ارتكازية، و اقوائية الشهرة في افادتها للظن ليست ارتكازية، فلا تكون الدلالة من الدلالة بالفحوى.

فانه يقال: ان الارتكاز في مفهوم الموافقة هو امر كلي، و هو لزوم تحقق الحكم فيما هو اقوى منه في المناط، فاذا كان المناط في حجية الخبر هو الظن فالارتكاز في تحقق الحكم فيما هو اقوى منه ظنا موجود، و لا داعي لان يكون نفس الظن بخصوص الشهرة ارتكازيا، و قد اشار الى هذا الدليل بقوله: «و توهم دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه» أي على حجية الظن الحاصل من الشهرة «بالفحوى لكون الظن الذي تفيده» أي الشهرة «اقوى مما يفيد الخبر».

(1) و حاصل ما اجاب به المصنف عن هذا الدليل وجهان:

الاول: انه الدلالة بالفحوى لا بد فيها من القطع بمناط الحكم المنطوقي لان تكون الاولوية قطعيّة، و لا قطع بكون المناط في حجية الخبر هو افادته للظن، و غايته هو الظن بكون المناط في حجيّته هو الظن فتكون الاولوية ظنّية لا قطعيّة، و مرجع

ص: 311

.....

______________________________

الاولوية الظنيّة الى الظن بكون الشهرة اولى بالحجية من الخبر، و هو بنفسه ظن من الظنون يحتاج الى دليل قطعي يقوم على حجيته.

و الحاصل: انه لا دليل على حجية الاولوية الظنية، و انما الدليل قائم على حجية الاولوية القطعية و الاولوية هنا ظنية لا قطعيّة، و الى هذا اشار بقوله: «ضرورة عدم دلالتها» بنحو القطع «على كون مناط اعتباره» أي مناط اعتبار حجية الخبر هو «افادته الظن غايته تنقيح ذلك بالظن» أي غايته انا نظن بان مناط الاعتبار في الخبر هو افادته للظن و هذا تنقيح للمناط بنحو الظن لا بنحو القطع، و لا بد في الدلالة بالفحوى من تنقيح المناط فيها بالقطع دون الظن، و لذا قال: «و هو» أي تنقيح المناط بالظن «لا يوجب إلّا الظن بانها» أي الشهرة «اولى بالاعتبار» من الخبر «و لا اعتبار به» أي و لا اعتبار بالمناط المنقح بالظن لانه اولوية ظنية لا قطعية.

الوجه الثاني في الجواب عن هذا الدليل: انا نقطع بانه ليس المناط في حجية الخبر هو افادته للظن بان يكون افادته له هو العلة التامة في حجيته، لان لازم العلية التامة في تنقيح المناط هو ثبوت الحكم بنحو الكلية بحيث يكون المورد احد مصاديقه كما في قولنا لا تشرب الخمر لانه مسكر، فان المستفاد منه كون المناط في حرمة الخمر هو الاسكار، و الخمر احد مصاديق الاسكار، فالحكم المستفاد منه هو حرمة كل مسكر، فلذا يصح ان نقول الخمر حرام لان كل مسكر حرام، و لو كان الظن هو المناط لحجية الخبر لصح ان نقول الخبر حجة لان كل ظن حجة، و هذا لا يلتزم به القائل بحجية الشهرة من باب الفحوى.

هذا مضافا الى انه لو كان المناط في حجية الخبر هو افادته للظن لاختصت حجية الخبر بالخبر المفيد للظن، و سيأتي في أدلة اعتبار الخبر دلالتها على حجية الخبر الواحد و ان لم يفد الظن، بل و ان كان الظن قائما على خلاف الخبر الواحد، و هذا مما يدل بالقطع على انه ليس المناط في حجيته افادته للظن.

ص: 312

و أضعف منه، توهم دلالة المشهورة و المقبولة عليه، لوضوح أن المراد بالموصول في قوله في الاولى خذ بما اشتهر بين أصحابك و في الثانية ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه بين

______________________________

نعم، يمكن ان يكون كونه مما يفيد الظن نوعا حكمة في جعل حجيته، و الحكمة لا تتعدّى موردها، و التعدّي عن المورد للعلة دون الحكمة، و لذا قال: «مع ان دعوى القطع بانه ليس بمناط» أي دعوى القطع بانه ليس المناط في حجيته هو افادته للظن «غير مجازفة».

و لا يخفى ان الجواب الاول و الثاني مبني على تسليم كون الظن المستفاد من الشهرة اقوى من الخبر، فان الجواب الاول هو عدم القطع بان المناط في حجية الخبر افادته للظن، و الثاني القطع بان افادته للظن ليس هو المناط في حجيته.

و لكنه يمكن ان يدعي عدم تسليم ذلك، و ان الظن المستفاد من خبر العادل اقوى من الظن المستفاد من الشهرة كما هو ظاهر صاحب المعالم، فانه قال في المعالم: ان خبر العادل اقوى الظنون، فان الشهرة الفتوائية حيث عرفت في تعريفها هي التي لا تفيد علما بالحكم الواقعي و لا علما بوجود دليل معتبر سندا وجهة و دلالة، و من المحتمل ان السبب فيها هو حسن ظن بعضهم ببعض كما فيما لو كان المفتي الاول جليل القدر كشيخ الطائفة، فان من جلالته قد بلغ حدا يحصل للمتأخرين عنه الاطمئنان منهم بما يفتي به، و هذا يرجع الى ما يشبه التقليد دون الاجتهاد، و مع وجود هذا الاحتمال في موارد الشهرة او غيره كاحتمال كون السبب فيها في بعض الموارد هو موافقة فتوى المفتي الاول للاحتياط لا يكون الظن الحاصل في الشهرة اقوى من الظن الحاصل من الخبر، فدعوى ان الظن الحاصل منها اضعف من الظن الخبري غير بعيدة جدا.

ص: 313

أصحابك، فيؤخذ به هو الرواية، لا ما يعم الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى (1).

______________________________

(1) هذا هو الدليل الثاني الذي تعرض له المصنف من الادلة التي احتج بها على حجية الشهرة في الفتوى، و هو الاستدلال على حجيتها بالمشهورة و المقبولة، و المراد من المشهورة هي المرفوعة و هي ما روي عن العلامة مرفوعا الى زرارة (قال سألت أبا جعفر عليه السّلام، فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ، فقال عليه السّلام: يا زرارة خذ بما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر)(1) الحديث.

و طريق الاستدلال بها جهتان: الاولى: هي الفقرة الواردة فيها، و هي قوله عليه السّلام: خذ بما اشتهر بين اصحابك، فان الموصول من ادوات العموم و المسئول عنه و ان كان الروايتين إلّا ان المورد لا يخصص الوارد حيث يكون الدال على الحكم من الفاظ العموم، فيكون المستفاد من عموم الموصول فيها و هو قوله ما اشتهر بين اصحابك هو الاخذ بكل ما يشتهر بين الاصحاب فيشمل الشهرة في الفتوى.

و الجواب عنه: ان الرواية منصرفة الى الرواية المشهورة و الحديث المشهور، فلا بد من الاقتصار في دلالتها على الاخذ بالرواية المشهورة فلا تشمل الشهرة في الفتوى بعد ان اختصت دلالتها بالشهرة الروائية، و لعل السبب في الانصراف ان المورد ربما يكون المستفاد منه هو التقييد فيكون مما يخصص الوارد و ان كان من الفاظ العموم، و ربما يكون محض كونه موردا فلا يخصص الوارد العام و ان كان اطلاق، فربما يكون مانعا عن الاطلاق فيما عداه.

ص: 314


1- 28. ( 1) عوالي اللآلي ج 4، ص 133.

.....

______________________________

مثلا لو كان السؤال عن الخمر و يكون الجواب ما اسكر فهو حرام فانه لا يستفاد من السؤال القيديّة، و حينئذ يستفاد من الجواب حكما عاما يشمل المورد و غيره و هو حرمة كل مسكر.

و ربما يسأل- مثلا- عن بيع المثل بالمثل، فيكون الجواب ما اشتمل على زيادة و نقيصة فهو حرام، فان المستفاد من مورد السؤال قيد يلحق الصلة، فلا تدل الرواية على حرمة الزيادة و النقيصة في غير البيع للمثل بالمثل، فان السؤال عن بيع المثل بالمثل يجعل الجواب مما يختص به لاستفادة القيديّة، و لذا كان المنصرف منه ان ما اشتمل على زيادة و نقيصة من بيع المثل بالمثل فهو حرام، فلا يكون المستفاد منه حكما عاما يشمل بيع المثل بالمثل و غيره من البيوع و المعاملات.

و مثله مورد السؤال في المشهورة، فان المنصرف من قوله خذ بما اشتهر بين اصحابك بمناسبة السؤال هو الاخذ بما اشتهر بين الاصحاب من الرواية و الحديث، فالسبب في الانصراف هو استفادة القيد للصلة من مورد السؤال، و مع استفادة القيدية لا تدل على حكم عام يشمل كل شهرة حتى الشهرة الفتوائية، بل المستفاد منها هو خصوص الاخذ بما اشتهر من الرواية، و مع التنزل عن الانصراف فلا اقل من كون المورد في مثل هذا السؤال مما يصلح للقرينة على التقييد، فيكون الجواب مما احتف بمحتمل القرينية فيكون مجملا من ناحية افادة العموم.

و لعل المتحصل مما ذكرنا هو ان المورد الذي لا يخصص الوارد هو الذي كان للعموم ظهور في كون المورد من اصناف مصاديقه، اما اذا كان المورد صنفا له افراد و لم يكن للعموم ظهور في ان الصنف من مصاديقه فالمورد يكون موجبا لاجمال العام لاحتفافه بما يصلح للقرينية لاحتمال ان يكون العموم بالنسبة الى افراد هذا الصنف، فلا دلالة فيه على العموم لجميع الاصناف.

الجهة الثانية في طريق الاستدلال بالمرفوعة هو الاستدلال بعلية الوصف فيها، فان الشهرة التي هي الوصف للرواية قد علق عليها الامر بالاخذ فهي العلة له، و اذا

ص: 315

.....

______________________________

كانت الشهرة هي العلة للاخذ بالرواية فلا بد من الاخذ بكل شهرة، اذ لا فرق بين شهرة و شهرة، فالرواية حيث دلت على الاخذ بالرواية المشهورة لاجل تحقق الشهرة فهي تدل على الاخذ بكل ما تحقق فيه الشهرة، و المفروض تحقق الشهرة الفتوائية على الحكم فلا بد من الاخذ به.

و الجواب عنها: ان الوصف لا دلالة فيه على العليّة، و لذا يقولون ان للوصف اشعارا بالعليّة و الاشعار غير الدلالة، بل لو قلنا بعليّة الوصف فان المستفاد من الرواية هو الاخذ بالشهرة التي يكون الحكم المخبر به فيها ناشئا عن حس كما في الرواية المشهورة، لا في مثل الشهرة في الفتوى فان الحكم فيها مصدره الحدس دون الحس، و لعل الوجه في ذلك هو انه لما لم يكن الاستدلال بالعموم و لا بالاطلاق و انما كان من جهة عليّة الوصف، فالقدر المتيقن من كون هذا الوصف علة هو عليّة هذا الوصف المستند الى الحس دون الحدس.

و اما المقبولة، فهي مقبولة عمر بن حنظلة المروية عن المشايخ الثلاثة عن عمر بن حنظلة، و فيها انه يسأل السائل الامام عليه السّلام عن الروايتين المتعارضتين، و يفرض السائل تساوي الراويين من حيث العدالة و نحوها، فيقول الامام عليه السّلام:- بعد فرض السائل لتساوي الراويين- (ينظر في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين اصحابك فيؤخذ به، و يترك الشاذ الذي ليس بمشهور بين اصحابك، فان المجمع عليه لا ريب فيه)(1) الحديث.

و طريق الاستدلال بها ايضا جهتان: الاولى: علية الوصف كما مر في المشهورة، فان المراد من المجمع عليه الذي لا ريب فيه هو المشهور بقرينة قوله عليه السّلام و يترك الشاذ النادر، فالاخذ بالمشهور انما هو لاجل الشهرة كما يساعد على ذلك قوله: فان المجمع عليه لا ريب فيه، فان الظاهر ان العلة في الاخذ بالمجمع عليه حيث ان المشهور

ص: 316


1- 29. ( 1) الكافي ج 1، ص 68.

.....

______________________________

لا ريب فيه، و من الواضح ان العلة لعدم الريب في المشهور هو حيثية الشهرة فيه، فالرواية و ان دلت على اخذ الرواية المشهورة لان موردها هي الشهرة الروائية، الّا ان التعليل فيها ظاهر في كون العلة في الاخذ بها هو وصف الشهرة، و وصف الشهرة كما هو موجود في الشهرة الروائية كذلك هو موجود في الشهرة الفتوائية.

و الجواب عنها: ان مراد المستدل ان كان عليّة الوصف فقد مرّ الجواب عنه، و ان الوصف بما هو وصف لا دلالة فيه على العليّة، مضافا الى ان القدر المتيقن منه هو الشهرة في الرواية لانه عن حس، لا في الفتوى لانها عن حدس كما تقدم بيانه.

و ان كان المراد هو عليّة خصوص هذا الوصف بقرينة التعليل بقوله فان المجمع عليه لا ريب فيه بعد قيام القرينة في الرواية، بان المراد من المجمع عليه هو المشهور، فتكون الرواية دالة على ان وصف الشهرة بالخصوص هو العلة في وجوب الاخذ، لان عدم الريب في المشهور انما هو لاجل كونه مشهورا لا بشي ء آخر.

فالجواب عنه اولا: ان مرجع هذا الاستدلال الى الاستدلال بمنصوص العلة لا بمفهوم الوصف، لان المتحصّل منه ان الشهرة لكونها مما لا ريب فيه هي الموجبة للاخذ لا لكونها وصفا لحق الموصوف، فيكون مرجعه الى ان عدم الريب هو العلة في الاخذ بالرواية المشهورة، و هذه العلة موجودة في الشهرة الفتوائية فانها مما لا ريب فيها ازاء الفتوى غير المشهورة.

و ثانيا: ان العلة المنصوصة في المقام هي عدم الريب، و عدم الريب في الشي ء تارة يكون على وجه الاطلاق، بان يكون لا ريب فيه مطلقا لا بالاضافة الى شي ء آخر، و من الواضح ان الذي لا ريب فيه مطلقا هو ما اوجب العلم و الشهرة لا توجب العلم، و لو كانت مما يوجب العلم لخرجت عن كونها من الظنون.

و اخرى يكون على نحو الاضافة الى شي ء بان يكون مما لا ريب فيه بالنسبة الى غيره لا مطلقا كما في المقام، فان الرواية المشهورة لا ريب فيها بالنسبة الى الرواية غير المشهورة لا مطلقا، فالعلة المنصوصة المدعاة في المقام هي الاخذ بما لا ريب فيه

ص: 317

.....

______________________________

بالاضافة الى غيره، فيكون مرجع هذه الدعوى انه يؤخذ بكل مما لا ريب فيه بالاضافة الى غيره، و لازم هذا هو الاخذ بكل راجح بالنسبة الى غيره، فاذا كان هناك ظنان احدهما ارجح من الآخر فلا بد من الاخذ بالراجح منهما لانه لا ريب فيه بالنسبة الى الآخر، و هذا مما لا يلتزم به القائل بحجيّة الشهرة.

نعم يمكن ان يقول المستدل بان العلة المنصوصة في المقام هي ان المشهور لا ريب فيه، و هذه كلية تدل على ان كل مشهور لا ريب فيه.

و بعبارة اخرى: ان الرواية تدل على الاخذ بما لا ريب فيه من الشهرة بالاضافة الى الشاذ، و هذا كاف في الاستدلال لانه يدل على ان كل شهرة بالاضافة الى الشاذ لا ريب فيها و تكون العلة مما تعم الشهرة في الفتوى.

و بعبارة اوضح: ان العلة ليست هي عدم الريب قطعا، و لا عدم الريب بالاضافة بنحو الاطلاق ايضا، بل العلة هي عدم الريب الاضافي في خصوص الشهرة بالنسبة الى الشاذ النادر.

فالجواب عنه- حينئذ- ينحصر بان نقول بان مورد العلة حيث كان متعلق الشهرة فيه امرا حسيا فالعلة المنصوصة تدل على الاخذ بكل شهرة كان متعلقها امرا حسيا كالشهرة المتعلقة بالرواية و الخبر، و الشهرة المتعلقة بالفتوى ليس متعلقها امرا حسيا لوضوح كون الفتوى من الحدسيات دون الحسيات.

الجهة الثانية في الاستدلال بالمقبولة هي العموم المستفاد من قوله: ان المجمع عليه لا ريب فيه، فان المورد و ان كان هو الرواية إلّا ان المورد لا يخصص العموم.

و الجواب عنه: ان العموم المدعي في المقام هو المستفاد من لفظ المجمع عليه باعتبار كونه محلى بالالف و اللام و لا عموم فيه في المقام، لان الالف و اللام التي قيل بدلالتها على العموم هي الالف و اللام الجنسية لا العهدية، و الالف و اللام في المقام عهدية و المعهود هو قوله ما كان من روايتهم عنا.

ص: 318

نعم بناء على حجية الخبر ببناء العقلاء، لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيته، بل على حجية كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان (1)،

______________________________

و المتحصل من الرواية هو انه ينظر الى ما كان من روايتهم عنها فيؤخذ بالمروي عنا المجمع عليه و يترك الشاذ المروي عنا.

و ان كان العموم المدعى بلحاظ الموصول و هو ما كان من روايتهم عنا فعدم شموله للشهرة الفتوائية اوضح من ان يخفى، لوضوح عدم شمول المجمع عليه مع تقيده بكونه في الرواية للشهرة في الفتوى، و يظهر من المصنف انه اشار الى الاستدلال بالمشهورة و المقبولة من ناحية عموم الموصول، لانه قال (قدس سره): «لوضوح ان المراد بالموصول في قوله» عليه السّلام «في الاولى» و هي المشهورة هو قوله: «خذ بما اشتهر بين اصحابك و في الثانية» و هي المقبولة هو قوله: «ينظر الى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين اصحابك فيؤخذ به هو الرواية لا ما يعم الفتوى» أي ان المراد بالموصول في المشهورة و بالموصول في المقبولة هو الرواية: أي خذ بما اشتهر من الرواية عنا بين اصحابك، و خذ بما كان المجمع عليه من الرواية عنا بين اصحابك، و ليس في الموصول في المشهورة بعد انصرافه الى المتقيد بالرواية عموم يشمل الشهرة الفتوائية، و ليس في المقبولة بعد تصريحها بتقييده بالرواية عموم يعم الشهرة الفتوائية.

(1) هذا هو الدليل الثالث الذي يمكن الاستدلال به على حجية الشهرة.

و حاصله: ان الدليل على حجية الخبر الواحد هو بناء العقلاء على الاخذ به، و بناء العقلاء لا يختص بالخبر الواحد لخصوصية في الخبر، بل يكون الخبر من الامارات المفيدة للظن او الاطمئنان، و الضمير من قوله: «على حجيته» يرجع الى الخبر: أي لا يبعد دعوى عدم اختصاص بناء العقلاء بحجية الخبر، بل بناء العقلاء قائم على الاخذ بكل امارة تفيد الظن او الاطمئنان.

ص: 319

لكن دون إثبات ذلك خرط القتاد (1).

______________________________

و لا اشكال ان الشهرة في الفتوى من الامارات المفيدة لذلك، فالشهرة من جملة مصاديق ما قام عليه بناء العقلاء، و الظاهر من المصنف عدم استبعاد كون بناء العقلاء مما لا يختص بالخبر بل يشمل كل امارة مفيدة للظن او الاطمئنان.

(1) قد اورد على المصنف بان الذي دون اثباته خرط القتاد لا يخلو: اما ان يكون هو كون بناء العقلاء من أدلة حجية الخبر فسيأتي منه (قدس سره) ان عمدة أدلة حجية الخبر هو بناء العقلاء على التمسك به.

و اما ان يكون هو عدم اختصاص بنائهم بحجية الخبر و انه يعم كل امارة مفيدة للظن او الاطمئنان، فظاهر المصنف ايضا في نفس عبارته هذه هو تسليم ذلك و عدم استبعاده.

و اما ان يكون هو عدم كون الشهرة الفتوائية مما يفيد الظن ففيه اولا: انه من المسلم وجدانا افادة الشهرة للظن. و ثانيا: قد مر من المصنف في الاستدلال بالفحوى ما يظهر منه تسليم كون الظن الحاصل من الشهرة اقوى من الظن الحاصل من الخبر الواحد. فاي شي ء هو الذي يكون دون اثباته خرط القتاد؟

و لا يمكن ان يكون مراد المصنف ان الشهرة و ان افادت الظن إلّا انها ليست من الامارات المشمولة لبناء العقلاء، لان بناء العقلاء انما قام على الامارة الحسية المفيدة للظن أو الاطمئنان دون الحدسية من الامارات و ان افادت الظن، و الشهرة من الحدسيات لا الحسيات لما صرح به من دعوى قيام بناء العقلاء على ما افاد الاطمئنان و ان الشهرة يفيد الاطمئنان، و مع هذا كله فيجوز ان يكون مراد المصنف أن هناك بناءين من العقلاء: بناء على الاخذ بخبر الواحد و هو مختص بالحسي دون الحدسي و هذا البناء لا يشمل الشهرة، و بناء على الاخذ بما يفيد الاطمئنان و هذا يشمل الشهرة، و لكن كون الشهرة مما تفيد الاطمئنان دون اثباته خرط القتاد.

ص: 320

حجيّة خبر الواحد

فصل المشهور بين الاصحاب حجية خبر الواحد (1) في الجملة بالخصوص،

______________________________

و ينبغي ان لا يخفى ان الشهرة ليست بحجة، لانه لم يعلم ان مستندهم فيها دليل معتبر، فهي أضعف من الاجماع لوجود المخالف، و قد عرفت عدم حجية الاجماع فضلا عن الشهرة، و ان علم او حصل الاطمئنان بان لهم مستندا من دليل معتبر عندهم فقد عرفت ايضا عدم كفاية هذا العلم في الحجية، لان الدليل المعتبر لا بد و ان يكون رواية، و الرواية و ان كانت حجة من حيث السند و ان كان لاستناد المشهور اليها، الّا انها ليست بحجة من حيث الظهور، لان تحقق الظهور عندهم لا يوجب تحقق الظهور عند غيرهم كما مر بيان ذلك في الاجماع، و السبب في انحصار الدليل المعتبر في الرواية، لوضوح انه لو كان الكتاب لما خفي على من تأخر عنهم و على المخالف لهم في عصرهم، و عدم كونه هو العقل لبداهة عدم خفاء الدليل العقلي على غير المشهور، و عدم كونه هو الاصل و القاعدة لذلك ايضا.

(1) لا يخفى ان صلاحية الخبر لان يكون دليلا على الحكم او على موضوع ذي حكم انما تتم بجهات أربع:

الاولى: حجية الظهور و قد مرّ البحث عنها و ان الظهور حجة.

الثانية: كون الظهور الاستعمالي هو المراد الجدي، و قد مرّ ايضا قيام بناء العقلاء على ان ما كان اللفظ ظاهرا فيه هو المراد الجدي للمتكلم.

الثالثة: ان الظاهر الذي هو المراد جدّا بيانه قد كان الداعي لبيانه هو بيان الواقع، و هذه الجهة هي المعبّر عنها بجهة الصدور، و ان الاصل في ما تضمن الحكم ان يكون الحكم قد صدر لبيان الواقع و انه هو الحكم الواقعي و لم يصدر تقية او امتحانا، و هذه الجهة و ان لم تكن معنونة بذاتها في كلامهم إلّا ان الظاهر من الاصحاب بناؤهم على ان الاصل في جهة الصدور هو كون الحكم قد صدر لبيان الواقع، الا

ص: 321

و لا يخفى أن هذه المسألة (1) من أهم المسائل الاصولية، و قد عرفت في أول الكتاب أن الملاك في الاصولية صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق

______________________________

ان يوثق بصدوره لبيان غير الواقع، فما لم يوثق بذلك فالاصل فيه هو كون الصدور فيه لبيان الواقع.

و لا يخفى ان هذه الجهات الثلاث مما يشترك فيها الخبر الواحد غير المعلوم الصدور، و الخبر المعلوم الصدور، فان كون الخبر المعلوم الصدور انما يختلف عن الخبر الواحد غير المعلوم الصدور من جهة السند لا من جهة الظهور، و لا من جهة كون ظاهره هو المراد جدّا و لا كون صدوره لبيان الواقع، فان الجهات تتأتى في الخبر المعلوم صدوره ايضا.

الجهة الرابعة: هي حجية الخبر الواحد من جهة السند او انه من الظنون الخاصة المحتاجة الى دليل قطعي يقوم على حجيته، لما عرفت من ان الاصل عدم حجية كل ظن عدا ما يقوم الدليل القطعي على حجيته.

و مما ذكرنا يظهر خروج المعلوم الصدور عن محل البحث، فان المبحوث عنه في المقام هو هذه الجهة الرابعة، و هي حجيّة الخبر الواحد من ناحية السند لأنه لا يفيد الّا الظن بالصدور، فالخبر المعلوم الصدور خارج عن موضوع البحث في هذا الفصل.

(1) لا يخفى ان المحتملات في حجية خبر الواحد كثيرة:

منها حجيته مطلقا.

و منها حجية خبر العادل منه بخصوصه اما مطلقا او بشرط كون كل واحد من رواته معدلا بعدل واحد او بعدلين او موثقا.

و منها حجية الخبر الواحد الموثوق به و ان لم يكن رواته عدولا لا بحسب الاصطلاح فضلا عن ان يكون كل واحد منهم معدلا بعدلين، فان العادل بحسب

ص: 322

الاستنباط، و لو لم يكن البحث فيها عن الادلة الاربعة، و إن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الاصول هي الادلة، و عليه لا يكاد يفيد في ذلك- أي كون هذه المسألة أصولية- تجشم دعوى أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل، ضرورة أن البحث في المسألة ليس عن دليلية الادلة، بل عن حجية الخبر الحاكي عنها (1)، كما لا يكاد يفيد

______________________________

الاصطلاح هو الامامي الذي له ملكة الخوف من اللّه الرادعة عن الكبائر و عن الاصرار على الصغائر، نعم لا بد من ان تكون سلسلة الرواية موثوقا بهم.

و منها عدم حجية الخبر الواحد مطلقا.

و المشهور عند الاصحاب هو حجية الخبر الواحد في الجملة في قبال عدم حجيته مطلقا، و المراد من قوله: «بالخصوص» هو حجية الخبر الواحد بما هو خبر واحد لا لكونه من مصاديق حجية مطلق الظن.

(1) لا يخفى ان سبب الاشكال في هذه المسألة و في غيرها كمسألة التعادل و التراجيح هو لاجل البناء على ان موضوع علم الاصول هو الادلة الاربعة، و الاشكال من جهتين:

الاولى: ان البحث هنا عن حجية الخبر فلا بد و ان يكون بما هو بحث عن حجيّته من عوارض موضوع علم الاصول، و من الواضح ان البحث عن الحجية هو بحث عن دليلية الدليل، فهو بحث عن نفس الموضوع لا عن عوارض الموضوع، فان الخبر لو كان احد الادلة الاربعة لا يكون البحث عن دليليته بحثا عن عوارضه، لان البحث عن عوارض الموضوع لا بد و ان يكون بعد الفراغ عن موضوعيته، و لما كان الموضوع هو الدليل بوصف كونه دليلا فالبحث عن دليلية الدليل بحث عن نفس الموضوع لا عن عوارضه.

ص: 323

.....

______________________________

و اجاب صاحب الفصول عن هذا الاشكال: بان الموضوع ليس هو الأدلة بما هي أدلة بل نفس ذوات الأدلة لا بوصف كونها أدلة، و حينئذ يكون البحث عن دليلية الدليل بحثا عن عوارضه.

و في هذا الجواب تجشم واضح، فان الظاهر كون الأدلة بما هي أدلة موضوعا لا نفس ذوات الأدلة.

الجهة الثانية: انه لو سلّمنا ان البحث عن دليلية الأدلة الاربعة من العوارض إلّا ان الخبر الواحد ليس واحدا من الأدلة الاربعة، فان الأدلة الاربعة هي الكتاب و الاجماع و العقل و السنة، و من الواضح ان الخبر الواحد ليس من الكتاب و لا من الاجماع و لا من العقل فتبقى السنة، فاذا كان الخبر الواحد ليس من السنة يكون خارجا عن الأدلة الاربعة و يكون بحثا عن مسألة ليس لها مساس بما هو الموضوع لعلم الاصول، فيخرج البحث عنه عن ان يكون بحثا عن علم الاصول بعد فرض عدم انطباق ما هو الموضوع لعلم الاصول عليه.

و اما كون الخبر الواحد ليس من السنة، فلأن السنة هي قول المعصوم او فعله او تقريره، و الخبر الواحد هو الحاكي لاحد هذه الثلاثة، و من الواضح ان الحاكي غير المحكي عنه، و قد اشار المصنف الى الجهة الاولى من الاشكال، و ان الجواب المذكور عنها من التكلف و التجشم بقوله: «لا يكاد يفيد في ذلك» أي بعد كون الموضوع هو الأدلة يستشكل بكون البحث عن دليليّة الخبر ليس بحثا عن عوارض الموضوع بل هو بحث عن نفس الموضوع، فلا يكاد يفيد في ذلك «أي» في مقام الجواب عنه و تصحيح «كون هذه المسألة اصولية» ما اجاب عنه في الفصول من «تجشم دعوى ان» الموضوع هو ذوات الأدلة لا بما هي أدلة.

و عليه يكون «البحث عن دليليّة الدليل بحثا عن احوال الدليل» لانه أولا تجشم لان الظاهر كون الأدلة بما هي أدلة هي الموضوع لا ذوات الأدلة.

ص: 324

عليه تجشم دعوى أن مرجع هذه المسألة إلى أن السنة- و هي قول الحجة أو فعله أو تقريره- هل تثبت بخبر الواحد، أو لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة (1)؟. فإن التعبد بثبوتها مع الشك فيها لدى الاخبار

______________________________

و ثانيا: لا ينفع هذا الجواب مع ما فيه من التجشم في إدراج هذه المسألة في الأدلة الاربعة، لما يرد عليه من الجهة الثانية التي اشار اليها بقوله: «ضرورة ان البحث في المسألة» أي ان البحث عن حجية الخبر «ليس» بحثا «عن دليلية» احد «الأدلة» الاربعة، لوضوح ان الخبر الواحد ليس كتابا و لا اجماعا و لا عقلا «بل» و لا من السنة ايضا، لان الخبر حاك عنها، فالبحث عنه بحث «عن حجية الخبر الحاكي عنها» و البحث عن الحاكي ليس بحثا عن المحكى و هو واضح.

(1) هذا تعرّض لما أجاب به الشيخ الاعظم عن هذا الاشكال الثاني و هو تجشم و تكلف ايضا.

و حاصله: ان مرجع البحث في حجية الخبر الى البحث عن عوارض السنة، فانه يرجع الى ان السنة التي هي قول المعصوم او تقريره او فعله هل تثبت بالخبر الحاكي عنها ام لا تثبت إلّا بما يفيد القطع بها كالخبر المتواتر و الخبر المحفوف بالقرينة القطعيّة؟

و البحث عن ثبوت السنة بالخبر و عدم ثبوتها به بحث عن عوارض السنة، و قد اشار الى هذا بقوله: «تجشم دعوى ان مرجع هذه المسألة الى» البحث عن عوارض السنة التي هي المحكى، لان البحث عن حجية الخبر يرجع الى «ان السنة و هي قول الحجة او فعله او تقريره هل تثبت بالخبر الواحد او لا تثبت الى آخر الجملة» فلا يكون البحث هنا بحثا عن دليلية الدليل و لا بحثا عما هو خارج عن الموضوع بل هو بحث عن عوارض الموضوع، فان البحث عن ان السنة هل نثبت بالخبر الواحد ام لا تثبت بحث عن عوارضها بما هي دليل.

ص: 325

بها ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها، كما لا يخفى (1)، مع أنه لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجية الخبر، و المبحوث عنه في

______________________________

(1) لا يخفى ان المصنف في اول هذا الكتاب في مقام البحث عن موضوع علم الاصول ذكر هذا الجواب، و اورد عليه بنحو الترديد و ان المراد من ثبوت السنة بالخبر لا يخلو اما ان يراد به ثبوتها واقعا او ثبوتها تعبدا.

و هنا اعرض عن احتمال ارادة ثبوت السنة واقعا و تعرّض لثبوتها تعبدا.

و السبب في عدم تعرّضه للثبوت الواقعي هنا:

اما لما اورده هناك عليه من انه اذا كان المراد ثبوت السنة واقعا يكون البحث ايضا بحثا عن نفس الموضوع لا عن عوارض الموضوع، لان ثبوت السنة واقعا هو وجودها، و البحث عن وجود الموضوع بحث عن تحقق الموضوع لا عن عوارض الموضوع، فان البحث عن عوارض الموضوع انما يكون بعد الفراغ عن تحقق الموضوع.

او لاستحالة كون الخبر مما تثبت به السنة واقعا و توجد به، لان وجوده متأخر عن وجود السنة لوضوح تأخر وجود الحاكي عن المحكي، فلا يعقل ان يكون الحاكي مما يوجد به المحكي واقعا، فلذلك اقتصر هنا على التعرّض لثبوت السنة بالخبر تعبدا.

و أورد عليه بايرادين: الاول: ان البحث عن ثبوت السنة بالخبر تعبدا ليس بحثا عن عوارض السنة، بل هو من عوارض الخبر لان الثبوت التعبدي انما هو الثبوت التنزيلي، و الثبوت التنزيلي إنما يكون لما ليس له ثبوت واقعي و السنة لها ثبوت واقعي، و الذي ليس له ثبوت واقعي هو الخبر فهو الذي يكون له ثبوت تعبدي تنزيلي.

و بعبارة اخرى: ان معنى الثبوت التعبدي في المقام هو جعل الحجية لما ليس بحجة، و السنة الواقعية حجة واقعا فلا معنى لجعل حجيتها تنزيلا، بخلاف الخبر الحاكي لها فانه ليس بحجة، و بواسطة تنزيله منزلة السنة الواقعية قد جعلت الحجية له.

ص: 326

المسائل إنما هو الملاك في أنها من المباحث أو من غيره، لا ما هو لازمه، كما هو واضح (1).

______________________________

و الحاصل: ان السنة الواقعية المحكية مقطوعة التعبّد، و الثبوت التعبدي التنزيلي لا وجه لان يكون لما هو مقطوع التعبد بل لا بد ان يكون لمشكوك التعبد و هو الحاكي لها، فالأدلة الدلة على ثبوت التعبّد قد دلّت على لزوم التعبّد بالخبر المشكوك التعبّد، و لا معنى لان تدل على ثبوت التعبد لما هو مقطوع التعبّد و هو السنة الواقعية.

لا يقال: ان الثبوت التعبّدي انما لا يعقل للسنة المقطوع بتحققها، و اما السنة المشكوك تحققها فلا مانع من اعتبار الثبوت التعبدي لها، و من البديهي ان السنة المحكية بالخبر مشكوك تحققها لا مقطوعة التحقق.

فانه يقال: ان الشك في تحقق السنة انما نشأ من حيث ان طريق ثبوتها ليس مما يوجب القطع بها، لوضوح كون الخبر الواحد ليس كالخبر المتواتر او المحفوف بالقرائن القطعيّة مما يوجب القطع بتحقق السنة به، بل هو مما يشك بتحقق السنة به، فالثبوت التعبدي انما هو لجعل هذا الطريق المشكوك بمنزلة الطريق المقطوع تعبدا، فالتعبد و الجعل انما هو من عوارض هذا الحاكي لها و هو الخبر لا من عوارض نفس السنة الواقعية، و لذا قال (قدس سره): «فان التعبد بثبوتها» أي السنة «مع الشك فيها لدى الاخبار بها» المفروض كونه مما لا يوجب القطع بها لازمه كون هذا التعبد «ليس من عوارضها بل من عوارض مشكوكها» أي من عوارض السنة المشكوكة، فان السنة تارة يراد بها السنة الواقعية و حينئذ لا يصح اطلاقها على الخبر الحاكي لها، و اخرى تطلق السنة على ما يشمل الخبر فيكون الخبر من السنة المشكوكة، و التعبد انما يكون للمشكوك لا للمقطوع.

(1) هذا هو الايراد الثاني، و حاصله: ان المدار في البحث عن المسألة هو العنوان المبحوث عنه فيها، و العنوان المبحوث عنه هو حجية خبر الواحد و عدم حجيته، فكون البحث عن هذا العنوان مما لازمه البحث عن ما هو من عوارض السنة الداخل

ص: 327

.....

______________________________

في عوارض موضوع الأدلة لا يجعل البحث في هذا العنوان داخلا فيما هو الموضوع، بعد اعترافه بان هذا العنوان بنفسه البحث عنه بما هو ليس داخلا في الموضوع و انما لازمه هو الداخل، فالبحث في هذه بما هي معنونة بعنوان كونه بحثا عن حجية الخبر لا يكون بحثا عما هو من موضوع علم الاصول، فان الملاك في الدخول و الخروج هو دخول العنوان المبحوث عنه و عدم دخوله، لا دخول لازم ما هو المبحوث و الّا لوجب تغيير العنوان الى عنوان اللازم، و من الواضح ان العنوان المبحوث عنه هو حجية الخبر و هو ليس من السنة.

و بعبارة اخرى: ان السنة التي ادعى الشيخ ان البحث في هذه المسألة يرجع الى ثبوتها بالخبر هي نفس الوجوب المستفاد- مثلا- من الخبر القائم على وجوب صلاة الجمعة و المبحوث عنه في هذه المسألة هو وجوب تصديق العادل، و وجوب تصديق العادل غير وجوب صلاة الجمعة، فلو كان المبحوث عنه هو ثبوت السنة بالخبر لكان عنوان المسألة: هل تثبت السنة كالوجوب او غيره من الاحكام بالخبر ام لا؟ مع ان المبحوث عنه هو وجوب تصديق العادل الذي لازمه ثبوت السنة كالوجوب او غيره من الاحكام به، و لو كان المبحوث عنه هو اللازم له و هو عنوان ثبوت السنة بالخبر للزم تغيير عنوان المسألة اليه، و الى هذا اشار بقوله: «مع انه لازم لما يبحث عنه» أي ان ثبوت السنة بالخبر لازم لما يبحث «في» هذه «المسألة من» العنوان فان العنوان هو «حجية الخبر و» العنوان «المبحوث عنه في المسائل انما هو الملاك في انها من المباحث» الداخلة في موضوع العلم «او» انها «من غيره» لعدم شمول موضوع العلم لها «لا» ان الملاك في دخول المسألة في مباحث العلم «ما هو لازمه» أي لازم العنوان «كما هو واضح» و الّا لوجب تغيير العنوان المبحوث عنه الى عنوان ما هو اللازم له، فلو تمّ ما ادعى للزم ان يكون العنوان المبحوث عنه في المقام هو: انه هل تثبت السنة بالخبر ام لا؟

ص: 328

.....

______________________________

فاتضح من مجموع ما ذكرنا: ان الذي يرفع الاشكال بحذافيره هو انكار كون موضوع علم الاصول هو الادلة الاربعة لا بما هي هي و لا بما هي ادلة، بل موضوع علم الاصول الذي هو الملاك في كون المسألة اصولية هو صحة وقوع تلك المسألة في طريق الاستنباط، و هذا هو الذي أشار اليه في أول الامر و هو قوله: «و قد عرفت في اول الكتاب ان الملاك الى آخر الجملة».

قوله: (قدس سره): «في طريق الاستنباط الخ» المسألة الاصولية هي التي تقع نتيجتها في طريق الاستنباط للحكم الشرعي، بان يكون المتحصّل من المسألة الاصولية قضية كلية تقع كبرى في الشكل بحيث تستلزم الحكم المستنبط، كمسألة حجية الخبر الواحد فانها من مسائل علم الاصول، لان نتيجتها قضية كلية تكون مما يستلزم الحكم، فان نتيجة هذه المسألة هي حجية الخبر الواحد، و هذه النتيجة مما يستلزم الحكم بعد قيام الخبر الواحد على وجوب- مثلا- او غيره من الاحكام الخمسة، فنقول- مثلا- ان هذا الوجوب مما قام عليه الخبر الواحد، و كل ما قام عليه الخبر الواحد يلزم العمل به، فهذا الوجوب يلزم العمل به، فالنتيجة لهذه المسألة هي كون كل ما قام عليه الخبر الواحد يلزم العمل به، و هذه القضية تستلزم العمل بالوجوب المستفاد من الخبر الواحد.

و بعبارة أوضح: ان الخبر طريق الى الحكم و الحكم ذو الطريق، و من البديهي ان الطريق غير ذي الطريق و نتيجة حجية خبر الواحد هي حجية الطريق الذي يلزمه الاخذ بذي الطريق فالاستنباط هو الحكم الذي استلزمه حجية الخبر و حجية الخبر غير الحكم، و هما من قبيل اللازم و الملزوم، بخلاف التطبيق فانه من قبيل الكلي و الفرد لا من قبيل اللازم و الملزوم.

و بهذا يفترق الاستنباط عن التطبيق في القواعد الفقهية الكليّة، فانها و ان كانت القواعد الفقهية كلية ايضا كمثل كل مشكوك الطهارة طاهر و تكون كبرى ايضا في شكل ينتج حكما شرعيا، الّا ان الحكم الشرعي هو احد افراد القضية الكلية لا انه

ص: 329

أدلّة المنكرين لحجية خبر الواحد

و كيف كان فالمحكي عن السيد و القاضي و ابن زهرة و الطبرسي و ابن ادريس عدم حجية الخبر (1)، و استدل لهم بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم (2) و الروايات الدالة على ردّ ما لم يعلم انه قولهم عليهم السلام، أو لم يكن عليه شاهد من كتاب اللّه أو شاهدان، أو لم يكن موافقا للقرآن إليهم، أو على بطلان ما لا يصدقه كتاب اللّه، أو على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف، أو على النهي عن قبول حديث إلا ما وافق

______________________________

مما تستلزمه الكلية التي هي الكبرى في الشكل، فان قولنا هذا مشكوك الطهارة و كل مشكوك الطهارة طاهر فهذا طاهر و ان انتج طهارة هذا المشكوك إلّا ان هذا المشكوك الطهارة هو احد افراد القضية الكلية، بخلاف الوجوب المستنتج من حجية الخبر فانه ليس من افراد الخبر، لوضوح ان الوجوب هو المخبر به بالخبر و الخبر غير المخبر به فحجيّة الخبر لازمها العمل بالوجوب و ليس الوجوب هو نفس الخبر القائم عليه، بخلاف مشكوك الطهارة في القضية المستنتجة فانه نفس مشكوك الطهارة في القضية التي انتجتها، و انما الفرق بينهما بالكلية و الجزئية و هو الفرق بين الكلي و مصداقه.

(1) قد استدل على عدم حجية الخبر الواحد بالكتاب و السنة و الاجماع، و لم يستدل بالعقل لان الدليل العقلي هو ان الاصل في كل ظن عدم حجيته، و هذا الاصل مرتفع بالادلة التي اقيمت على حجية الخبر الواحد، فلذا استدلوا بغيره من الادلة الثلاثة.

(2) و هي قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ 30] و قوله عزّ من قائل:

إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(1) فانها قد دلت على عدم حجية الخبر الواحد لانها نهت عن اتباع غير العلم، و من الواضح ان الخبر الواحد لا يوجب علما.

ص: 330


1- 31. ( 2) يونس: الآية 36.

الكتاب (1) أو السنة، إلى غير ذلك و الاجماع المحكي عن السيد في مواضع من كلامه، بل حكي عنه أنه جعله بمنزلة القياس، في كون تركه معروفا من مذهب الشيعة.

______________________________

(1) الروايات التي استدل بها على عدم حجية الخبر الواحد هي على مضامين:

منها ما دل على ردّ كل ما لا يعلم انه من كلامهم عليهم السّلام، و لزوم الرّد لما لا يعلم انه من كلامهم يوجب الحصر في العمل بالخبر المتواتر او المحفوف بالقرائن القطعية، و اما الخبر الواحد فحيث لا يوجب العلم بان المخبر به من كلامهم فيجب ردّه، و الى هذا اشار بقوله: «الروايات الدالة على ردّ ما لم يعلم انه قولهم عليهم السّلام».

و منها: ردّ ما لم يكن عليه شاهد أو شاهدان من كتاب اللّه، فان هذا القسم من الروايات الدالة على ان الحجة من الخبر هو خصوص ما كان عليه شاهد من الكتاب و ردّ ما عداه يوجب سقوط المهم الذي ذهب المشهور الى حجيته من الخبر الواحد، فان الخبر الذي عليه شاهد من الكتاب يكون العمل به في الحقيقة من العمل بالكتاب دون الخبر الذي ليس عليه شاهد من الكتاب، و الى هذا اشار بقوله: «او لم يكن الى آخر الجملة».

و منها: ما ورد عنهم عليهم السّلام من ان الحديث الذي لا يوافق القرآن يجب ردّ علمه اليهم الدالة على ان ما لا يوافق الكتاب لا يعمل به قبل ان يرد اليهم ليبيّنوا الوجه فيه، و هذا ايضا يوجب سقوط المهم من الخبر الواحد، اذ قلّما يتفق خبر لا يكون مخالفا لعموم من القرآن او اطلاق منه، و الى هذا اشار بقوله: «او لم يكن موافقا للقرآن اليهم» أي الروايات الدالة على لزوم ردّ ما لم يكن موافقا للقرآن اليهم عليهم السّلام.

و منها: ما دلّ على بطلان الخبر الذي لا يصدقه الكتاب، فان معنى بطلانه هو عدم حجيته و عدم جواز العمل به، و هذا يدل ايضا على عدم حجية المهم من الخبر

ص: 331

الجواب عن الآيات و الروايات

و الجواب: أما عن الآيات، فبأن الظاهر منها أو المتيقن من إطلاقاتها هو اتباع غير العلم في الاصول الاعتقادية، لا ما يعم الفروع الشرعية (1)،

______________________________

الباطل غير الصحيح، و الى هذا اشار بقوله: «او على بطلان ... الى آخر الجملة».

و منها ما دل على النهي عن قبول الخبر الذي لا يوافق الكتاب، فان النهي لا يكون إلّا عمّا هو غير حجة، اذ لا يعقل النهي عن قبول ما هو الحجة، و الى هذا اشار بقوله: «او على النهي ... الى آخر الجملة».

قوله (قدس سره): «او السنة ... الخ» المراد من السنة هي السنة النبوية المقطوع بها.

قوله (قدس سره): «الى غير ذلك ... الخ» كالاخبار الدالة على ان ما خالف الكتاب يضرب به عرض الجدار او ما خالف قول ربنا لم نقله.

قوله (قدس سره): «و الاجماع ... الخ» قد ادعى السيد الاجماع على عدم حجيّة الخبر الواحد و انه من ضروريات المذهب و ان العمل بالخبر الواحد عند الشيعة كالعمل بالقياس المعلوم من مذهب الشيعة عدم صحة العمل به.

(1) من الآيات التي استدل بها هي قوله: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.*

و الجواب عنها اولا: ان المنصرف من هذه الآية هو الظن في اصول الدين، اما لان السياق فيها يقتضي ذلك لانها واردة في سياق قوله تعالى في سورة النجم إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(1) و السياق شاهد على ان الظن الذي لا يغني عن الحق شيئا هو الظن في اصول الدين، فان قوله إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ شاهد على ان المراد عدم اغناء ظن الذين لا يؤمنون بها، و قوله لَيُسَمُّونَ

ص: 332


1- 32. ( 1) النجم: الآية 27- 28.

.....

______________________________

الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى فانه شاهد ايضا على ان المراد هو الظن المتعلق بمثل ذلك، و هو الظن المتعلق باصول الدين، فان كون الملائكة ذكورا او اناثا مما يتعلق بالاصول لا بالفروع، و كذا ظن الذين لا يؤمنون بالاخرة فانهم هم الكفار المنكرون للبعث، و ظن هؤلاء انما هو في اصول الدين فان الذي ينكر اصول الدين لا يفكر في فروع الدين حتى يكون له ظن بها.

و اما لان الظاهر من الآية هو عدم اغناء الظن بما هو ظن عن الحق و ان اصاب الواقع، و كون الظن مع اصابته للواقع غير مغن عن الحق انما هو فيما اذا كان في اصول الدين، لان المطلوب فيها هو التيقن و عقد القلب على ما تيقن به، و اما الظن في الفروع فالمصيب منه للواقع لا يكون غير مغن عن الحق لفرض اصابته لما هو الحق و هو الواقع، و قد اشار الى الانصراف فيها الى الظن بالاصول بقوله: «فبان الظاهر» فانه انما يكون الظاهر منها هو الظن بالاصول لا بالفروع لاجل الانصراف، و لولاه لكانت مما تعمّ الفروع.

و ثانيا: انه لو تنزّلنا عن دعوى ظهورها بواسطة الانصراف في الظن في الاصول فلا اقل من ان يكون ما ذكرناه موجبا لاجمالها من حيث الشمول للفروع، لاحتمال كون البيان فيها انما هو لاجل خصوص الاصول، فان شمولها انما هو بالاطلاق و لا بد من احراز كون البيان لاجل ما يشمل الفروع، و ما ذكرنا اذ لم يصلح لان يوجب الانصراف فيها لخصوص الاصول فلا اقل من كونه موجبا لعدم احراز البيان فيها لما يشمل الفروع، فلا يكون لها اطلاق شامل للفروع و تكون مجملة و القدر المتيقن منها هو الظن في اصول الدين، و الى هذا اشار بقوله: «او المتيقن من اطلاقاتها هو اتباع غير العلم في الاصول الاعتقادية لا ما يعم الفروع الشرعية».

و اما آية وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ 33] فلا يتأتى فيها الجوابان المذكوران،

ص: 333

و لو سلم عمومها لها، فهي مخصصة بالادلة الآتية على اعتبار الاخبار (1).

______________________________

لان سياقها في مقام الفروع، فان ما قبلها وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ مضافا الى استشهاد الامام فيها على حرمة الغناء فان الآية وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا و استدل الامام بها على حرمة استماع الغناء لان استماعه مما يسأل عنه السمع، فسياقها صدرا و ذيلا و استشهاد الامام بها مما يقتضي شمولها للفروع، فلا يكون لها انصراف الى الظن بخصوص اصول الدين و لا يكون القدر المتيقن فيها ذلك فينحصر الجواب عنها بما يأتي.

(1) الظاهر من المصنف كون الادلة الآتية الدالة على حجية الخبر مخصّصة لهذه الآيات، و قد ذهب بعض الى كونها واردة على هذه الآيات، فان الورود هو خروج المورد عن العام موضوعا و لكنه بواسطة البيان، كورود الادلة المتكفلة للبيان على خروج ما فيه البيان عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و بهذا يمتاز عن التخصّص فانه ما كان الخروج فيه بذاته لا بواسطة البيان، كخروج الجاهل عن اكرم العالم فانه خارج بذاته.

و على كل فقد ذكر وجهان لكون الادلة الدالة على حجية الخبر واردة على الآيات:

الاول: ان المتحصّل من هذه الآيات هو عدم حجية غير العلم، و بعد قيام الادلة على حجية الخبر تكون حجة فتخرج موضوعا عن غير العلم الذي ليس بحجة.

و فيه: ان الورود مما اوجب خروج الشي ء بموضوعه لا بمحموله، و الموضوع في الآيات هو غير العلم و المحمول فيها عدم الحجيّة، و الادلة الدالة على حجية الخبر لا توجب كون الخبر علما بل هو بعد من غير العلم، لوضوح ان الخبر الواحد بعد فرض حجيته لا يوجب العلم، و كيف يدعى ذلك فيه مع انه من الظنون التي قام الدليل على اعتبارها، فهو من غير العلم و ان قام الدليل على اعتباره و انما يخرج عنها حكما فانه حجة دون غير العلم الذي لم يقم دليل على اعتباره.

ص: 334

.....(1)

بداية الوصول في شرح كفاية الأصول ؛ ج 5 ؛ ص335

______________________________

الثاني: ان المستفاد من هذه الآيات هو النهي الامضائي لما يراه العقلاء غير حجة من الظنون، فهذه ادلة امضائية لا تاسيسية، و اذا كانت امضائية لما لا يراه العقلاء حجة فما يراه العقلاء حجة خارج موضوعا، و الخبر الواحد حيث انه مما يراه العقلاء حجة فبواسطة بنائهم على حجيته يكون خارجا موضوعا عن هذا النهي الامضائي.

و الجواب عنه: ان الموضوع في هذه الآيات هو عدم العلم و هو مما يشمل عدم العلم الذي يعمل به العقلاء و عدم العلم الذي لا يعمل به العقلاء، فيكون بالنسبة الى ما لا يعمل به العقلاء امضاء و بالنسبة الى ما يعمل به العقلاء تاسيس و ردع لهم، و مما يقرّب عدم اختصاصها بالامضاء انه وردت ردعا لعمل اهل الجاهلية، و كون اهل الجاهلية كلهم من غير العقلاء بعيدا، فكون ادلة حجية الخبر واردة غير واضح الوجه، و يكفي في الجواب هو كون ادلة اعتبار الخبر مخصّصة لهذه الآيات، لوضوح شمولها للظن بالاصول و للظن بالفروع الحاصل من غير خبر الثقة و للظن الحاصل من خبر الثقة، فالادلة الدالة على حجية خصوص الظن الحاصل من خبر الثقة اخص منها فتكون مخصّصة لها، و لذا قال (قدس سره): «فهي مخصّصة بالادلة الآتية» الدالة «على اعتبار الاخبار».

نعم لا يبعد دعوى كون الادلة الدالة على حجية الخبر حاكمة على هذه الآيات، لان المتحصّل من هذه الآيات عدم اتباع غير العلم و عدم اغناء الظن، و الادلة الدالة على اعتبار الخبر وردت بلسان ان خبر الثقة علم تنزيلا كقوله عليه السّلام: (ما حدثا عني فعني يحدثان) فانه يدل على ان حديث العمريين بمنزلة حديثه و حديثه عليه السّلام يوجب العلم، فحديث العمري و ابنه مما يوجب العلم، و حيث ان حديثهم لا يوجب العلم واقعا فيكون الدليل الدال على حجية قولهما بلسان انه علم حاكما على الآيات الناهية على اتباع غير العلم، و حاكما على ما دل على ان الظن لا يغني لأنه جعله علما.

ص: 335


1- 34. آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

و أما عن الروايات، فبأن الاستدلال بها خال عن السداد فإنها أخبار آحاد (1).

______________________________

و هذا هو الفرق بين الحكومة و التخصيص، فان التخصيص هو رفع حكم العام عن الخاص مع حفظ الموضوع فيه كقوله لا تكرم زيدا العالم بعد قوله اكرم العلماء.

و اما الحكومة فهي اما رفع الحكم بلسان رفع الموضوع كما اذا قال اكرم العلماء ثم قال زيد ليس بعالم و كان زيد عالما واقعا، و كقوله عليه السّلام: لا شك لكثير الشك، فانه حاكم على ادلة الشك من حكم البطلان او البناء على الاكثر، و اما توسعة الحكم بتوسعة الموضوع كقوله عليه السّلام: الطواف في البيت صلاة، فانه اثبت حكم الصلاة للطواف بتوسعة الموضوع، و اعتبار الطواف صلاة و ادلة اعتبار الخبر بالنسبة الى العلم من توسعة الموضوع، فان المتحصّل من ادلة الاعتبار كون الخبر الواحد علما و ليس من غير العلم، و حيث كان- وجدانا- هو من غير العلم فتكون ادلة اعتباره بهذا اللسان حاكمة على ادلة العلم باعتبار توسعة الموضوع، و حاكمة على الآيات الناهية عن اتباع غير العلم باعتبار انها بلسان خروج الخبر الواحد موضوعا عنها لانه علم و ليس هو من غير العلم، فلسانها لسان الحكومة على ما دل على النهي عن اتباع غير العلم.

(1) حاصله: ان الاخبار المذكورة الدالة على عدم حجية الخبر هي بنفسها اخبار آحاد و لا بد في الدليل ان يكون حجة، فالاستدلال بها ممن لا يقول بحجية اخبار الآحاد استدلال منه بما ليس حجة.

فان قلت: انها و ان كان لا يصح الاستدلال بها بما هي دليل عند من استدل بها و لكنه يصح الاستدلال منه بها جدلا، لانها مع كونها اخبار آحاد لازم حجيتها عدم حجيتها.

قلت: اولا: انه لا يصح الاستدلال بها حتى جدلا لان الدليل الذي يلزم من وجوده عدمه لا يصلح ان يكون دليلا.

ص: 336

التواتر الاجمالي

لا يقال: إنها و إن لم تكن متواترة لفظا و لا معنى، إلا أنها متواترة إجمالا، للعلم الاجمالي بصدور بعضها لا محالة (1).

فإنه يقال: إنها و إن كانت كذلك، إلا أنها لا تفيد إلا فيما توافقت عليه، و هو غير مفيد في إثبات السلب كليا، كما هو محل الكلام و مورد النقض و الابرام، و إنما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب و السنة (2)،

______________________________

و ثانيا: ان تخريجها عن من يرى حجية الخبر هو ان المراد بها المخالف الذي يكون مباينا لكتاب اللّه دون المخالفة بنحو التخصيص او التقييد، و قد اشار الى عدم صحة استدلالهم بها بقوله: «فانها اخبار آحاد».

(1) حاصل لا يقال: ان الاستدلال بها منهم انما هو لانها ليست من اخبار الآحاد لانها متواترة اجمالا.

و توضيحه: ان التواتر تارة يكون باللفظ و المعنى كما ادعي تواتر الاخبار على ان الاعمال بالنيات قد تواترت الاحاديث فيها بهذه الجملة.

و اخرى يكون التواتر معنى لا لفظا بان تتواتر الاخبار على معنى يكون بالفاظ مختلفة بحيث كل لفظ منها لا يكون من المتواتر و لكن المعنى المدلول لها يكون متواترا كالاخبار الدالة على كرم الحسن عليه السّلام و شجاعة امير المؤمنين عليه السّلام فانها متواترة معنى.

و ثالثة: يكون هناك علم بصدور بعضها فان الاخبار اذا تكاثرت يحصل العلم بصدور بعضها، و المقام من قبيل الثالث فانا نعلم اجمالا بان بعض هذه الاخبار قد صدرت عنهم عليهم السّلام، و الى هذا اشار بقوله: «إلّا انها متواترة اجمالا للعلم الاجمالي بصدور بعضها لا محالة».

(2) حاصله: ان التواتر الاجمالي لازمه كون اخص الاخبار مضمونا هو الذي يعلم بصدوره قطعا، لانه اما ان يكون هو الصادر أو يكون ما هو اعم منه صادرا، فهو يكون صادرا ايضا، و قد عرفت ان الاخبار عبارة عن مضامين متعددة بعضها عام

ص: 337

.....

______________________________

و بعضها خاص و بعضها اخص، فالعام هو الدال على عدم حجية غير معلوم الصدور، و الخاص ما دل على انحصار الحجية بما وافق الكتاب و عدم حجية ما لا يوافق الكتاب سواء خالف الكتاب او لم يخالفه، و الأخص هو ما دل على عدم حجية خصوص المخالف للكتاب، و هذا الاخير لا ينفع السيد و اتباعه القائلين بعدم حجية الخبر الواحد مطلقا، فانه لنا ان نلتزم بذلك و نقول بحجية الخبر الواحد عدا الخبر الواحد المخالف للكتاب.

لا يقال: ان هذا و ان افاد في قبال دعوى السيد و اتباعه القائلين بالسلب الكلي و عدم حجية الخبر الواحد مطلقا، الّا انه اذا تمّ عدم حجية المخالف للكتاب يسقط المهم مما ذهب اليه المشهور من حجية الخبر الواحد مطلقا حتى المخالف للكتاب، فانه قلّما يوجد خبر واحد لا يكون على خلافه عموم او اطلاق من كتاب اللّه.

فانه يقال: ان المخالفة للكتاب هي المخالفة بنحو التباين او بنحو العموم من وجه، و اما المخالفة بنحو العموم و الخصوص و الاطلاق و التقييد فليست عرفا من المخالفة، فروايات المخالفة منصرفة عن هذه المخالفة، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله:

«انها و ان كانت كذلك» أي انها من المتواتر اجمالا المعلوم صدور بعضها «إلّا انها لا تفيد الا فيما توافقت عليه» تلك الاخبار و هو اخصها مضمونا و هو خصوص الخبر المخالف للكتاب، فانه هو الذي يكون متواترا اجمالا «و هو غير مفيد» لدعوى السيد «في اثبات السلب كليا» و ان الخبر الواحد مطلقا غير حجة «كما هو محل الكلام و مورد النقض و الابرام» فان المتواتر الاجمالي فيها اخص ما فيها «و» هي «انما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب و السنة» لا عدم حجية الخبر مطلقا.

ص: 338

المناقشة في دعوى الإجماع

و الالتزام به ليس بضائر (1)، بل لا محيص عنه في مقام المعارضة (2).

و أما عن الاجماع، فبأن المحصل منه غير حاصل، و المنقول منه للاستدلال به غير قابل، خصوصا في المسألة، كما يظهر وجهه للمتأمل، مع أنه معارض بمثله، و موهون بذهاب المشهور إلى خلافه.

و قد استدل للمشهور بالادلة الاربعة (3):

______________________________

(1) لعله انما كان الالتزام به ليس بضائر لان المراد بالمخالفة هي المخالفة بنحو التباين، و الالتزام بعدم حجية الخبر المخالف للكتاب بنحو التباين لا يضر بمقالة المشهور من حجية الخبر بعد ان كان الخبر المخصص و المقيد للكتاب ليس من المخالفة.

(2) لا يخفى ان المخالفة الموجبة لترجيح احد المتعارضين على الآخر عند تعارض الخبرين هي المخالفة للكتاب و لو بنحو العموم و الخصوص او الاطلاق و التقييد، بمعنى ان احد المتعارضين اذا كان مخصصا للكتاب و الآخر موافقا لعموم الكتاب، او كان احد المتعارضين مقيدا و الآخر موافقا لاطلاق الكتاب، فان الخبر الموافق للعموم و الاطلاق يترجح على المعارض المخالف للكتاب بنحو التخصيص او التقييد، فالمخالفة في باب التعارض هي المخالفة بنحو الاعم من التباين، و لا يضر هذا بكون المخالفة هنا هي خصوص المخالفة بنحو التباين و انها هي المنصرفة من اطلاق المخالفة، لان كون المخالفة في باب التعارض هي المخالفة بنحو اعم انما هي لقرينة خارجية دلت على ان مطلق المخالفة مرجحة، فكون المخالفة هناك هي المخالفة بنحو اعم لا يضر بكون المنصرف منها هي خصوص المخالفة بنحو التباين، و لعل هذا هو الوجه في الترقي ببل.

و حاصله: انه يمكننا ان نترقى و نقول بعدم حجية الخبر المخالف مطلقا و لو بنحو التخصيص و التقييد في خصوص باب المعارضة.

(3) قد عرفت ان تحقق الاجماع بوجهه الصحيح و هو الدخولي في عصر الغيبة مستحيل عادة.

ص: 339

الآيات المستدل بها على حجيّة خبر الواحد: منها آية النبأ

فصل في الآيات التي استدل بها: فمنها: آية النبأ، قال اللّه تبارك و تعالى:

إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا (1). و يمكن تقريب الاستدلال بها من

______________________________

و اما الاجماع المنقول فأولا: لا دليل على حجيّته لانه من الحدسيات لا الحسيات.

و ثانيا: انه لو قام الدليل على حجيته فلا يعقل ان يشمل الاجماع المنقول على عدم حجية الخبر، لان دليل حجية الاجماع المنقول هو شمول ادلة اعتبار حجية الخبر الواحد له، و لا يعقل ان يكون دليل اعتبار حجية الخبر شاملا لما يقتضي عدم حجية الخبر و عدم اعتباره فانه يلزم من وجوده عدمه.

و ثالثا: بانه معارض اجماع السيد باجماع الشيخ الذي ادعاه على حجية الخبر الواحد.

و رابعا: ان اجماع السيد موهون بذهاب المشهور الى خلافه، فان الاجماع المدعى اذا خالفه المشهور يسقط عن الاعتبار لو كان بأي وجه من الوجوه المذكورة للاجماع، لوجود مجهول النسب في المشهور، و عدم تأتي اجتماع العصر مع مخالفة المشهور.

و عدم صحة دعوى الاجماع العادي و الاتفاقي مع مخالفة المشهور واضح ايضا.

فاجماع السيد لو لم يكن له معارض لكان موهونا بمخالفة المشهور له، فكيف يكون حاله مع المعارضة.

و قد اشار الى عدم كونه من المحصّل بقوله: «المحصّل منه غير حاصل» و اشار الى المناقشة الاولى في المنقول بقوله: «و المنقول منه الى آخر الجملة» و الى المناقشة الثانية بقوله: «خصوصا في المسألة» و الى الثالثة بقوله: «مع انه معارض بمثله» و الى الرابعة بقوله: «و موهون بذهاب المشهور الى خلافه».

(1) من الآيات التي استدل بها على حجية الخبر الواحد اذا كان المخبر عادلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ

ص: 340

وجوه (1): أظهرها أنه من جهة مفهوم الشرط، و أن تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الذي جي ء به على كون الجائي به الفاسق، يقتضي انتفاؤه

______________________________

فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ 35] في سورة الحجرات و هي النازلة في الوليد بن عقبة في قضية بني المصطلق، و هم فئة من خزاعة على ما في مجمع البحرين لما بعثه النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم لأخذ صدقاتهم فخرجوا اليه فرحين بلقائه فظن الوليد انهم انما خرجوا ليقتلوه لعداوة كانت بينه و بينهم في الجاهلية فرجع الى النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قال له انهم منعوا صدقاتهم، فهمّ النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم بان يغزوهم فنزل الوحي عليه بهذه الآية.

(1) قد استدلوا بهذه الآية على حجية خبر العادل من وجوه:

منها: مفهوم الوصف فان وجوب التبيّن قد علّق على وصف الفسق، فيدل بمفهومه على عدم وجوب التبيّن عن النبأ اذا لم يكن الجائي به فاسقا.

و حاصله: ان الوصف المعلق عليه الحكم هو العلة المنحصرة له فيدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، و لما كان لزوم التبيّن معلّقا على وصف الفسق للمخبر، فاذا انتفى وصف الفسق عن المخبر بأن كان عادلا فينتفي لزوم التبيّن عند اخباره فلا يجب التبيّن عن الخبر اذا كان المخبر به عادلا.

و فيه: ان الوصف لا مفهوم فيه لعدم دلالته على العلية المنحصرة التي لا مفهوم مع عدمها، بل لا دلالة له على العلية فضلا عن الانحصار و انما له اشعار بالعليّة، و خصوصا في الآية المباركة فانه يحتمل ان يكون وصف الفسق قد ذكر لا لتعليق وجوب التبيّن عليه، بل للتنبيه على فسق الوليد فلا يلزم لغوية ذكره اذا لم يكن علة للحكم.

ص: 341

.....

______________________________

و منها: ان مرجع هذا الاستدلال الى كون العقل يدل على ان الوصف في المقام علة منحصرة لا من حيث دلالة مفهوم الوصف دلالة لفظية.

و حاصله: لخبر الوليد وصفان: وصف ذاتي و هو كونه خبر واحد، و وصف عرضي و هو كونه خبر فاسق، فاما ان يكون العلة لوجوب التبيّن هو وصفه الذاتي فقط و هو كونه خبرا واحدا، او يكون وصفه العرضي فقط و هو الحاصل من اضافته الى الفاسق، و اما ان يكون كل واحد منهما علة، و حيث ان ظاهر الآية ان لوصف الفسق خصوصية فلا بد من انتفاء الاحتمال الاول و هو كون العلة المنحصرة هي وصف كونه خبرا واحدا، و كذلك الاحتمال الآخر و هو كون كل واحد منهما علة مستقلة، لوضوح انه مع كون الوصف الذاتي علة مستقلة لا وجه لذكر الوصف العرضي، فيتعيّن ان العلة هي الوصف العرضي و هو كونه خبر فاسق.

فان قيل انه يمكن ان يكون العلة هي الجامع بينهما.

فانه يقال: ان الظاهر هو كون عنوان الفسق بخصوصه له دخل، و اذا كانت العلة هي الجامع لا يكون لوصف الفسق بخصوصه دخل، فكون الظاهر ان لعنوان الفسق بخصوصه خصوصية تنفي كون العلة هي الجامع.

و الجواب عنه: انه يحتمل ان العلة هي الوصف الذاتي، و الوصف العرضي انما جي ء به للتنبيه على فسق الوليد.

و منها: ان مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي التبيّن عن خصوص خبر الفاسق دون العادل، لكون الفاسق غير مأمون الكذب، بخلاف العادل فانه مأمون الكذب.

و الجواب عنه: ان مناسبة الحكم و الموضوع لا توجب القطع بأن العلية المنحصرة لوجوب التبيّن خصوص صفة الفسق، لانها مناسبة ظنيّة لا توجب اكثر من الظن بذلك.

و هناك وجوه أخر ضعيفة تركناها مخافة التطويل.

ص: 342

عند انتفائه (1).

______________________________

(1) و حاصله: ان القضيّة الشرطية حيث انها تدل على كون المقدّم هو العلة المنحصرة لسنخ الحكم المعلّق عليه فهي تدل على انتفاء الحكم حيث ينتفي الشرط.

و توضيحه: انه لا بد في القضية الشرطية من موضوع و هو المضاف اليه الطبيعة المتعلقة للحكم، و لما كان الحكم المتعلق بالطبيعة معلقا على الشرط و الشرط هو العلة المنحصرة لها، فلا بد من دلالة القضية الشرطية على انتفاء الحكم المتعلق بالطبيعة المضافة الى ذلك الموضوع عند انتفاء الشرط عن ذلك الموضوع، مثلا قولنا: ان جاءك زيد فاكرمه فان الحكم قد تعلق بطبيعة الاكرام المضاف الى زيد، و لما كان الحكم المتعلق بطبيعة الاكرام معلقا على المجي ء و هو العلة المنحصرة فالقضية الشرطية تدل على انتفاء الحكم- المتعلق بطبيعة الاكرام المضاف الى زيد المعلق على مجيئه- عن زيد حيث ينتفي مجيئه، فمفهوم ان جاءك زيد فاكرمه نفى وجوب اكرام زيد عند انتفاء مجيئه، فزيد هو الموضوع الموجود في القضية الشرطية المنطوقية و القضية المفهومية، و الموضوع في آية النبأ هو النبأ، و الحكم المتعلق بالتبيّن المضاف الى النبأ قد كان معلقا على مجي ء الفاسق بالنبإ، و حيث كان بمقتضى دلالة الشرطية ان العلة المنحصرة لوجوب التبيّن عن النبأ هو مجي ء الفاسق به، فلا بد من عدم الوجوب المتعلق بطبيعة التبيّن عن النبأ عند الشرط المعلق عليه و هو مجي ء الفاسق به، فلا يجب التبيّن عن النبأ الذي لم يجي ء به الفاسق و هو العادل، لوضوح ان الذي يجي ء بالنبإ اما فاسق او غير فاسق و غير الفاسق هو العادل، و هو الذي لا يجب التبيّن عن خبره.

فتحصّل مما ذكرنا: ان النبأ هو الموضوع في منطوق القضية الشرطيّة و هو متحقق في القضية المفهومية، فان النبأ كما يجي ء به الفاسق يجي ء به العادل، فان جاء به الفاسق فيجب التبيّن عنه و ان جاء به العادل لا يجب التبيّن عنه، و لا يكون الاخذ به من اصابة القوم بجهالة و لا العمل به مما يمكن ان يترتب عليه الندم، و الى هذا اشار بقوله: «و ان تعليق الحكم بايجاب التبين عن النبأ الذي جي ء به» الذي هو الموضوع

ص: 343

.....

______________________________

في القضية المنطوقية «على كون الجائي به الفاسق يقتضي انتفاؤه» أي يقتضي انتفاء الحكم الذي هو وجوب التبين «عند انتفائه» أي عند انتفاء ما علق عليه و هو مجي ء الفاسق فلا يجب التبين عن النبأ الجائي اذا لم يكن الذي جاء به فاسقا بان يكون الذي جاء به غير الفاسق.

ثم لا يخفى ان المشهور قد ضمّوا الى هذه القضية المفهومية مقدمة لتتم الدلالة على حجية خبر العادل، و السبب في ذلك ان القضية المفهومية هي ان لم يجئكم فاسق بنبإ فلا تتبينوا، و هذه القضية بنفسها لا تثبت حجية خبر العادل، فانها انما تدل على عدم وجوب التبين عن النبأ الذي جاء به غير الفاسق، اما انه يجب قبوله فلا صراحة في مقام الدلالة عليه. نعم بضمّ المقدمة التي ضمّوها اليها تكون النتيجة وجوب قبول خبر العادل.

و حاصل المقدمة: انه اذا كان نبأ غير الفاسق لا يجب التبيّن عنه كما هو مدلول القضية المفهوميّة، فاما ان يتوقف فيه او يقبل، و لا يعقل ان يتوقف فيه لان مرجع التوقف فيه مع عدم وجوب التبيّن عنه هو الردّ له، و لا يعقل ان يكون حكم خبر العادل الردّ له من دون تبيّن و حكم خبر الفاسق التوقف فيه و وجوب التبيّن عنه، فان العادل يكون اسوأ حالا من الفاسق و هذا معلوم العدم، فيتعيّن قبوله من دون تبيّن و هو معنى حجيته، فان الحجة هي التي تقبل من دون تبيّن عنها.

و انما احتاج المشهور الى هذه المقدمة لفهمهم من الامر بالتبيّن في القضية المنطوقية هو الوجوب النفسي دون الطريقي، أما اذا كان الوجوب طريقيا فلا حاجة الى ضمّ هذه المقدمة لان معنى كونه طريقيا ان وجوب التبيّن انما هو في مقام العمل فيكون الوجوب في مقام العمل فمع فرض العمل و الامر بوجوب التبيّن عن خبر الفاسق لاجل ان يكون العمل من غير جهالة فتدل القضية المفهومية على عدم وجوب التبيّن في ذلك المقام، و ان العمل بخبر غير الفاسق لا يجب التبيّن عنه، لان العمل به ليس

ص: 344

الإشكالات على دلالة آية النبأ

و لا يخفى أنه على هذا التقرير لا يرد: أن الشرط في القضية لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم له، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع (1)،

______________________________

من اصابة القوم بالجهالة، فتكون القضيّة دالة على حجيّة خبر العادل من دون ضمّ تلك الضميمة.

و البرهان على ان وجوب التبيّن طريقي لا نفسي امران:

الاول: ان الظاهر من الاوامر المتعلقة بالتبيّن و امثاله كالعلم هو كون الامر بالتبيّن و بالعلم لاجل كونه طريقا الى حصول العلم و الحجة المعذّرة.

الثاني: ان التعليل المذكور في الآية المباركة لوجوب التبيّن هو عدم الاصابة بالجهالة، و هذا التعليل ظاهر في كون وجوب التبيّن طريقيا الى عدم الاصابة بالجهالة.

(1) لا يخفى انه قد استشكل على دلالة آية النبأ على حجية خبر العادل باشكالات:

منها ما هو مختص بنفس الآية، و منها ما يعمّ كل ما يدل على حجية الخبر.

فمن الاشكالات المختصة بالآية ما اشار اليه بقوله: «لا يرد أن الشرط في القضية لبيان تحقق الموضوع الى آخر الجملة».

و توضيحه: ان هذا الاشكال هو كون الآية سيقت لتحقق الموضوع و لا مفهوم لها فلا يكون لها دلالة على حجية خبر العادل، و قد ذكر بنحوين:

الاول ما ذكره المصنف في حاشيته على رسائل الشيخ الاعظم، و حاصله: ان القضية الشرطية: تارة يكون التالي فيها مما ينتفي بانتفاء الشرط عقلا، مثل ان لقيت العالم فتعلّم منه، و مثل ان رزقت ولدا فاختنه، فان التعلّم من العالم و الختان للولد مما ينتفيان بانتفاء الشرط المعلقان عليه، لوضوح انه اذا انتفى لقاء العالم فلا يعقل التعلّم منه و اذا انتفى رزق الولد فلا يعقل تحقق ختانه، و من الواضح ان هذا القسم من الشرطية لا مفهوم لها، لان المفهوم انما يعقل دلالة القضية المنطوقة عليه فيما اذا امكن ثبوت التالي عقلا من دون تحقق الشرط المعلق عليه التالي، فتكون القضية

ص: 345

.....

______________________________

الشرطية من حيث دلالتها على كون الشرط هو العلة المنحصرة دالة على المفهوم، اما اذا كان التالي مما ينتفي عقلا بانتفاء الشرط فلا يتوهم ثبوته حتى تكون القضية الشرطية بمفهومها دالة على انتفائه.

و بعبارة اخرى: ان القضية الشرطية اذا كانت من هذا القبيل فيها يكون الموضوع هو الشرط، و من الواضح انتفاء المحمول بانتفاء الموضوع عقلا فلا تساق القضية الشرطية لبيان هذا المعنى، و انما تكون مسوقة لبيان ان هذا الشرط هو الموضوع في هذه القضية، و لذا يقولون ان هذه الشرطية سيقت لتحقق الموضوع لا للمفهوم، فلا تكون هذه الشرطية من افراد الشرطية التي ذهب المشهور الى دلالتها على المفهوم.

و اخرى: تكون الشرطية مما لا ينتفي التالي فيها عقلا بانتفاء الشرط كقولنا: ان جاءك زيد فاكرمه، فان الاكرام لا يحكم العقل بانتفائه بذاته عند انتفاء المجي ء، و هذه الشرطية هي التي قالوا بدلالتها على المفهوم على كون المجي ء هو العلة المنحصرة، و لو لا دلالة الشرطية على العلية المنحصرة لأمكن ان يثبت اكرام زيد لعلمه- مثلا- او لغيره.

و على كل فالعقل لا يرى ان الاكرام مما ينتفي بذاته عند انتفاء المجي ء، كما ينتفي التعلّم من العالم عند انتفاء لقاء العالم، و كما ينتفي الختان عند انتفاء رزق الولد.

اذا عرفت هذا .. فنقول ان الآية المباركة من الشرطية التي سيقت لتحقق الموضوع فلا يكون لها مفهوم، لان التالي فيها و هو نبأ الفاسق مما ينتفي بذاته عند عدم مجي ء الفاسق به، لان مدلول الآية هو وجوب التبيّن عن نبأ الفاسق عند مجي ء الفاسق به، و من الواضح ان نبأ الفاسق مما ينتفي بذاته عند انتفاء مجي ء الفاسق به، و الى هذا اشار بقوله: «فلا مفهوم له».

النحو الثاني: ما ذكره الشيخ الاعظم في الرسائل و هو لا يختلف عمّا ذكره المصنف في المقدمة المذكورة من كون الشرطية على قسمين، و لكنه يختلف عنه في

ص: 346

.....

______________________________

دعوى أنّ الشرطية التي تساق لتحقق الموضوع مفهومها مفهوم السالبة بانتفاء الموضوع، فمفهوم هذه القضية ان لم يجي ء الفاسق بنبإ فلا تتبينوا، و هذا المفهوم الذي هو مفهوم السالبة بانتفاء الموضوع لا دلالة على حجية نبأ العادل، لان الموضوع فيه هو مجي ء العادل به، و هذا موضوع غير الموضوع في الآية، فان انتفاء التبيّن عن نبأ الفاسق عند عدم مجي ء الفاسق به لا يقتضي انتفاء التبيّن عن نبأ العادل عند مجي ء العادل به، فانه من ثبوت حكم لموضوع غير الموضوع المنفي عنه الحكم.

و بعبارة اخرى: انه لا بد من اتحاد الموضوع في القضيتين المنطوقية و المفهوميّة، فوجوب التبين عن نبأ الفاسق و انتفائه عند عدم مجي ء الفاسق به لا يقتضي انتفاء التبين عن نبأ العادل، لان الموضوع في القضيتين غير الموضوع في القضية التي يراد انتفاؤه فيها.

و بعبارة اخرى: ان القضية التي مفهومها من باب السالبة بانتفاء الموضوع لا يكون المفهوم فيها مما يفيد، بخلاف القضية التي مفهومها ليس مفهوم السالبة بانتفاء الموضوع كقولنا ان جاءك زيد فاكرمه، فان الموضوع في القضية السالبة و الموجبة متحد و انما يختلفان بالسلب و الايجاب، فالآية المباركة مفهومها السالبة بانتفاء الموضوع و هو لا يفيد في اثبات ما يراد اثباته فيها من انتفاء وجوب التبيّن عن نبأ العادل عند مجي ء العادل به، و الى هذا اشار بقوله: «او مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع».

و قد تبيّن مما ذكرنا في تقرير هذا الاشكال انه مبني على كون الموضوع في الآية هو مجي ء الفاسق بالنبإ.

و اما على ما ذكره المصنف من كون الظاهر من الآية ان الموضوع فيها هو النبأ لا مجي ء الفاسق به، فلا تكون الآية مما سيقت لتحقق الموضوع، لوضوح ان الموضوع اذا كان فيها هو النبأ من دون تقيده بمجي ء الفاسق به لا يكون مما ينتفي بانتفاء مجي ء الفاسق به، لجواز ثبوته بمجي ء العادل به فتكون القضية مما سيقت للمفهوم و يكون

ص: 347

فافهم (1).

نعم لو كان الشرط هو نفس تحقق النبأ و مجي ء الفاسق به، كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، مع أنه يمكن أن يقال: إن القضية و لو كانت مسوقة لذلك، إلا أنها ظاهرة في

______________________________

الموضوع في القضية المنطوقية هو الموضوع في القضية المفهومية، و المتحصّل منها النبأ ان جاء به فاسق فتبينوا عنه و النبأ ان لم يجي ء الفاسق به فلا تتبينوا عنه، و ينتفي الاشكال بكلا نحويه، و لذا قال المصنف «على هذا التقرير لا يرد الى آخر الجملة».

(1) يمكن ان يكون اشارة الى ان القضية التي تساق لتحقق الموضوع: تارة يكون انتفاء التالي فيها بانتفاء الشرط لان التالي بطبيعته مما لا ثبوت له عند انتفاء الشرط كالختان المعلّق على رزق الولد و كالتعلّم من العالم عند انتفاء لقاء العالم.

و اخرى يكون سوق القضية لتحقق الموضوع منوطا بكيفية اخذ الموضوع فيها كما في المقام، فان النبأ ان كان هو الموضوع في القضيّة كانت مما سيقت للمفهوم، و ان كان الموضوع هو مجي ء الفاسق به كانت القضية مما سيقت لتحقق الموضوع، و الظاهر من الآية كون الموضوع فيها هو مجي ء الفاسق بالنبإ، و لو كان النبأ هو الموضوع لقال النبأ ان جاءكم به فاسق فتبينوا، فانه فرق واضح بين ان يقال: النبأ ان جاءكم فاسق به فتبينوا، و بين قوله ان جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا، فان الظاهر من الثانية كون الموضوع فيها هو مجي ء الفاسق بالنبإ، و عليه تكون القضية مما سيقت لتحقق الموضوع فلا يكون لها مفهوم او يكون مفهومها غير مفيد على ما عرفت في النحوين المتقدمين.

ص: 348

انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبين عند انتفائه و وجود موضوع آخر (1)،

______________________________

(1) حاصله: لو كان الموضوع في الآية مركبا من النبأ و مجي ء الفاسق به او كان هو النبأ المقيد بمجي ء الفاسق به كانت الشرطية في الآية قد سيقت لتحقق الموضوع و مع ذلك فهي تدل على حجية خبر العادل ايضا.

و توضيحه: انه مما لا ريب فيه ان الشرطية التي سيقت لتحقق الموضوع تدل على التعليق، و ان التالي فيها معلق على الشرط و من الواضح ايضا ان المعلق على الشرط، هو سنخ الحكم، فيكون المعلّق هو سنخ وجوب التبيّن و اذا كان سنخ وجوب التبيّن مما ينتفي بانتفاء موضوع القضية و هو مجي ء الفاسق بالنبإ فعند وجود موضوع آخر و هو نبأ العادل لا بد و ان لا يكون وجوب التبيّن متحققا، و الّا لم يكن سنخ وجوب التبيّن مما ينتفي بانتفاء الموضوع في القضية و هو مجي ء الفاسق بالنبإ، فكون القضية سيقت لتحقق الموضوع يكون آكد في الدلالة على انه لا يجب التبيّن عند نبأ العادل، لانه لو كانت الشرطية في الآية من الشرطية ذات المفهوم لامكن ان ينكر دلالتها على حجية نبأ العادل من ينكر مفهوم الشرط، اما اذا كانت مما سيقت لتحقق الموضوع فلا ينكر احد ان المحمول مما ينتفي بانتفاء الموضوع، و الى هذا اشار بقوله:

«مع انه يمكن ان يقال ان القضية و لو كانت مسوقة لذلك» أي و لو كانت مسوقة لتحقق الموضوع «إلّا انها» تكون دالة على حجية نبأ العادل لانها «ظاهرة» في تعليق سنخ الحكم الذي هو سنخ وجوب التبيّن على مجي ء الفاسق بالنبإ، و لازم هذا التعليق انتفاء سنخ وجوب التبين عند انتفاء مجي ء الفاسق بالنبإ، فتكون ظاهرة «في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق فيقتضي» هذا الانحصار «انتفاء وجوب التبين عند انتفائه» أي عند انتفاء مجي ء الفاسق بالنبإ، و لازم ذلك انتفاء وجوب التبيّن عند «وجود موضوع آخر» و هو نبأ العادل.

ص: 349

فتدبر (1).

و لكنه يشكل بأنه ليس لها هاهنا مفهوم، و لو سلم أن أمثالها ظاهرة في المفهوم، لان التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم و المنطوق، يكون قرينة على أنه ليس لها مفهوم (2).

______________________________

(1) لعله اشارة الى ما يمكن ان يدعى ان الشرطية التي سيقت لتحقق الموضوع لا تدل على التعليق من رأس.

و يرد على هذه الدعوى ان لازمها تعدد الوضع في حرف الشرط، و انه قد وضع للدلالة على التعليق في غير القضية التي سيقت لتحقق الموضوع، و اما في القضية التي سيقت لتحقق الموضوع فقد وضعت لان تدل على محض تحقق الموضوع من دون دلالة لها على التعليق فتكون كالقضية الوصفية، و هذا واضح البطلان لتبادر التعليق فيها، و لا فرق في دلالة حرف الشرط على التعليق بين قولنا ان جاءك زيد فاكرمه و بين قولنا ان رزقت ولدا فاختنه في انها تدل في الاولى على تعليق وجوب الإكرام على المجي ء، و في الثانية على تعليق الختان على رزق الولد.

(2) هذا من الاشكالات المختصّة ايضا بآية النبأ، و قبل بيان الاشكال نقول:

ان الاستدلال بمفهوم آية النبأ مبني على القول بدلالة القضية الشرطية على المفهوم، اما من يقول بعدم دلالتها على المفهوم فلا وجه للاستدلال بها في المقام، و الى هذا اشار بقوله: «و لو سلم ان امثالها ظاهرة في المفهوم».

و اما الاشكال فحاصله: ان دلالة القضية على المفهوم انما هو لدلالتها على ان الشرط هو العلة المنحصرة للتالي، و لازم ذلك هو الدلالة على المفهوم و هو الانتفاء عند الانتفاء، اما اذا كان التعليق في المنطوق ملحوقا بما يدل على ان الشرط ليس هو العلة فضلا عن ان يكون علة منحصرة للتالي فلا يكون في القضية المنطوقة تلك الخصوصية التي تستلزم الدلالة على المفهوم، مثلا قولنا ان جاء زيد فاكرمه لعلمه لا دلالة لها على المفهوم، بمعنى كون الاكرام علته التامة المنحصرة هو المجي ء لان

ص: 350

.....

______________________________

لعلمه قد دل على ان الاكرام معلولا للعلم لا للمجي ء، فلا دلالة لهذه القضية على انتفاء الاكرام عند انتفاء المجي ء و الآية من هذا القبيل، فان ذيل الآية و هو قوله تعالى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ قد دل على ان العلة للتبين عن نبأ الفاسق ليس فسقه بل هو اصابة القوم بالجهالة، و المراد من الجهالة عدم العلم، فبكون المتحصّل عن الآية- و اللّه العالم- انه اذا انبأكم الفاسق فتبينوا عن خبره، و لا تاخذوا به لان الاخذ به من مصاديق الاخذ بعدم العلم المستلزم لاصابة الناس بالجهل.

و الحاصل: ان المستفاد منها على هذا هو الاخذ بالعلم، لان النهي عن اتباع غير العلم و هو الجهل لازمه ذلك، و حينئذ تكون الآية دالة على النهي عن اتباع خبر العادل ايضا غير الموجب للعلم، لانه من الواضح ان خبر العادل لا يوجب العلم لاحتمال خطأ العادل على الاقل.

لا يقال: ان ذيل الآية و ان دل على ذلك الّا أن صدر الآية و هو التعليق في الشرط يستلزم الدلالة على المفهوم، فيكون صدر الآية دالا على المفهوم و ذيلها دالا على عدمه، فيقع التعارض بين الصدر و الذيل فلا تكون الآية دالة على النهي عن اتباع خبر العادل، فيكون المتحصّل منها هو النهي عن الاخذ بخبر الفاسق من دون دلالة فيها على المفهوم، و عدم الدلالة على النهي على الاخذ بخبر العادل لتعارض الصدر و الذيل فيه.

فانه يقال: قد عرفت فيما تقدم الفرق بين القرينة المتصلة بالكلام و بين القرينة المنفصلة عنه، و ان الاولى تمنع عن انعقاد الظهور و الدلالة، بخلاف الثانية فانها انما تمنع عن حجية الظهور لا عن انعقاده و دلالته، فالذيل في المقام قرينة متصلة على ان الشرط ليس علّة منحصرة، فلا يكون له ظهور و دلالة على العلية المنحصرة المستلزمة للمفهوم، و لا يكون المورد من التعارض بين الدلالتين لان المفهوم هو القضية المستلزمة للخصوصية المستفادة من المنطوق و هو كون الشرط علة منحصرة، و اذا

ص: 351

و لا يخفى أن الاشكال إنما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، مع أن دعوى أنها بمعنى السفاهة و فعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة.

ثم إنه لو سلم تمامية دلالة الآية على حجية خبر العدل (1)، ربما أشكل شمول مثلها للروايات الحاكية لقول الامام عليه السّلام بواسطة أو

______________________________

كان الذيل دالا على عدم كون الشرط هو العلة المنحصرة فلا تكون في القضية المنطوقية ظهور في الخصوصية التي تستلزم المفهوم.

فان قلت: اذا كانت علة التبيّن مشتركة بين الفاسق و العادل فما الوجه في ذكر الفاسق بالخصوص؟

قلت: لعل الوجه في ذلك التنبيه على فسق الوليد لانه لم يكن ظاهر الفسق، ثم لاجل ان التبيّن لا يختص بالفاسق ذكر العلة و هي الجهالة المشتركة بينه و بين غيره، و قد اشار المصنف الى الاشكال بقوله: «لان التعليل باصابة القوم بالجهالة» التي هي بمعنى عدم العلم «المشترك بين المفهوم» مراده من المفهوم هو عنوان العادل و الّا فان لازم العلة المشتركة هو عدم المفهوم «و المنطوق» الذي هو عنوان الفاسق هذا الاشتراك «يكون قرينة على انه ليس لها» أي ليس للقضية المعلّلة- بما يلزمه عدم كون عنوان الشرط علة منحصرة- «مفهوم».

(1) هذا هو الجواب عن هذا الاشكال، و حاصله: ان الاشكال مبناه ان العلّة للتبيّن هو الجهالة و عدم العلم المشتركة بين الفاسق و العادل، و اما اذا كان المراد منها هو السفاهة و العمل غير العقلائي فانه كثيرا ما يراد من الجهالة هو هذا المعنى، كما في قوله تعالى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ 36] فان الموعظة انما تكون عن

ص: 352

.....

______________________________

العمل غير المرضي و منه افعال السفهاء، و اما الجهل و عدم العلم بما هو عدم العلم ليس من السفه.

و بعبارة اخرى: ان المناسب للجهل هو التعليم و الايضاح و المناسب للسفه هو الموعظة و الرّدع، فالمراد من الجاهلين هم السفهاء الذين يفعلون بدافع الشهوات او الطغيان و التجبّر لا بما يقتضيه العقل و الانصاف، و مثله الجهالة في قوله تعالى:

لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ(1).

و من الواضح: ان الاخذ بما ياخذ به العقلاء و هو خبر العادل ليس من السّفاهة، و انما السفاهة هو الاخذ بخبر الفاسق غير المبالي بما يترتب على العمل بالكذب من الفساد، و على هذا فتكون العلة مما تختص بخبر الفاسق و لا تشمل خبر العادل و مبيّنة، لوجه عدم حجية خبره، و ان الاخذ به من الاعمال السفهيّة المستلزمة للندم غالبا، و في خبر الوليد قطعا لانه أخبر عن كفر بني المصطلق المترتب عليه جهادهم و قتلهم، و قد كان كذبا لانهم كانوا مؤمنين و اي فساد اعظم من قتل المؤمنين.

لا يقال: ان كون الجهالة بمعنى السّفه تنافي المورد فان النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم أجل من ان يعمل سفها.

فانا نقول: ان الوليد لم يكن ظاهر الفسق و الاعتماد عليه من السفه، و لكنه لما كان- واقعا- فاسقا نزلت الآية للتنبيه على فسقه الذي كان يكتمه و اعطاء ضابطة لكل خبر يكون من فاسق، و قد اشار المصنف الى الجواب بقوله: «و لا يخفى ان الاشكال انما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم» فانها حينئذ تكون علة مشتركة بين الفاسق و غيره «مع ان» مناسبة الحكم الموضوع و ان الذيل علة لما يختص بعنوان الفاسق دون غيره و لذا ذكر دون غيره تؤيد «دعوى انها» أي الجهالة «بمعنى السفاهة» لا عدم العلم و ان الاخذ بخبر الفاسق هو «فعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل» فان

ص: 353


1- 37. ( 1) النساء: الآية 17.

تقرير إشكال اخبار الوسائط

وسائط (1)، فإنه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق الذي ليس إلا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الاثر الشرعي بلحاظ نفس هذا الوجوب، فيما كان المخبر به خبر العدل (2) أو عدالة المخبر، لانه و إن

______________________________

الدعوى «غير بعيدة» بل قريبة لما عرفت من مناسبتها للنهي عن الاخذ بخصوص خبر الفاسق و وجوب التبيّن عن خبره بالخصوص، لأن الأخذ به من السّفه المستلزم للندم غالبا.

(1) لما فرغ من الاشكالات المختصة بآية النبأ اشار الى ما لا يختص بآية النبأ و لكنه ذكر في مبحث آية النبأ، كهذا الاشكال و هو عدم شمول ما دل على حجية خبر العادل للخبر مع الواسطة الواحدة او الوسائط المتعددة، و قد اشار بقوله مثلها الى ذلك و انه لا اختصاص لهذا الاشكال بآية النبأ و يشمل غيرها كصدّق العادل.

(2) توضيحه: يتوقف على بيان امور: الاول: انه قد ذكر هذا الاشكال بنحوين:

الاول: لزوم اتحاد الحكم و الموضوع، و الثاني: لزوم توقف دخول بعض افراد العام في العموم على ثبوت حكم العام لفرد آخر و محصله لزوم الدور، و الثاني مذكور في بعض نسخ رسائل الشيخ الاعظم، و يشير اليه المصنف بعد ذكره للاشكال بالنحو الاول و الجواب عنه.

الثاني: ان المراد من لزوم اتحاد الحكم و الموضوع هو لزوم محذور عروض الشي ء على نفسه، فانه لما كان الحكم من اعراض موضوعه و كل عرض غير معروضه بالبداهة و متأخر عن موضوعه رتبة الذي هو المعروض، لامكان وجود الموضوع من دون ما يعرض عليه، و لا يمكن وجود العارض من دون وجود الموضوع الذي يعرض عليه، فلا يعقل ان يعرض الشي ء على نفسه لانه عين نفسه لا غير نفسه، و لانه لا يعقل ان يتقدم الشي ء على نفسه او يتأخر عن نفسه، فالحكم لا يعقل ان يعرض على نفسه بان يكون نفسه موضوعا لنفسه.

ص: 354

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: ان الشي ء عين نفسه و في رتبة نفسه، و العرض لا بد و ان يكون غير موضوعه و متأخرا عن موضوعه، فعروض الحكم على نفسه هو محذور اتحاد الحكم و الموضوع، لبداهة اتحاد الشي ء مع نفسه، و الحال انه باعتبار كونه موضوعا يقتضي ان يكون غير عارضه و يقتضي ايضا باعتبار كونه موضوعا متقدما، فاذا عرض الشي ء على نفسه كان لازم ذلك انه عين عارضه لان الشي ء عين نفسه، مع انه لا بد ان يكون الموضوع غير عارضه، و لزم كونه متقدما على نفسه باعتبار كونه موضوعا، و متاخرا عن نفسه باعتبار كونه حكما.

الثالث: ان الموضوع لحجية خبر العادل مركب من ثلاثة اشياء: الخبر و كونه خبر عادل و كونه ذا اثر، و الوجه في اخذ الخبر و كونه عن عادل في الموضوع واضح، لدلالة نفس قوله صدّق العادل اذا اخبرك على ذلك.

و اما وجه كونه ذا اثر فلوضوح ان التعبّد بخبر العادل اذا لم يكن لخبره اثر لغو لا يصدر من الحكيم، لان جعل التعبّد بخبره انما هو للأخذ بما يترتب على خبره، و اذا لم يكن له اثر لم يكن هناك شي ء يؤخذ به.

اذا عرفت ذلك .. فنقول اذا اخبرنا الصّفار بان العسكري قال يجب كذا فيما اذا كنا في زمانه او اخذنا خبره من كتابه فلا اشكال، لتحقق الموضوع باجزائه الثلاثة و هو الخبر و كونه خبر عادل و له أثر، لانا قد سمعنا من الصّفار و هو عادل، و مؤدى خبره هو الوجوب الكذائي، فلا ريب في شمول صدّق العادل له.

اما اذا لم يخبرنا الصّفار و لم نأخذ الخبر من كتابه، و لكن اخبرنا المفيد عن الصّفار انه اخبره بقول الامام، و هذا هو الخبر ذو الواسطة الواحدة، او اخبرنا الكليني عن علي بن ابراهيم عن ابيه ابراهيم عن ابيه ابراهيم عن البزنطي عن الرضا، و هذا هو الخبر ذو الوسائط، فيشكل شمول صدّق العادل لذلك، و وجهه ما عرفت من لزوم كون الخبر ذا اثر، و في الخبر ذي الواسطة الواحدة او الوسائط كمثل خبر المفيد عن الصفار او خبر الكليني عن علي بن ابراهيم لا يوجد اثر سوى تصديق المفيد بان

ص: 355

كان أثرا شرعيا لهما، إلا أنه بنفس الحكم في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض (1).

______________________________

الصفار اخبره، و هذا المقدار لا يكفي في ترتيب الوجوب بل لا بد من شمول صدّق العادل ايضا للصفار حتى نصل الى الاخذ بما اخبر به و هو الوجوب، فصدّق العادل الشامل لخبر المفيد لا بد و ان يكون شاملا لخبر الصفار ايضا، و من الواضح ان خبر الصفار حيث كان منقولا بخبر المفيد عنه لا يكون ذا أثر الّا بعد شمول صدّق العادل لخبر المفيد، فصدّق العادل الشامل لخبر المفيد الذي لا اثر له سوى تصديقه بان الصفار اخبره لا يعقل ان يكون شاملا ايضا لخبر الصفار، لان لازم ذلك ان يكون هذا الحكم و هو وجوب تصديق العادل الناظر لخبر المفيد ناظرا الى نفسه فيما اذا شمل خبر الصفار، فيكون صدّق العادل الذي هو الحكم اللاحق لخبر المفيد المثبت لخبر الصّفار الذي هو حكم له ايضا، فيكون باعتبار كونه اثرا لخبر المفيد موضوعا لنفسه للأثر في خبر الصّفار، فانه لا بد ان يلحق خبر الصّفار وجوب التصديق كما لحق خبر المفيد لتتم السلسلة الى الاثر الذي هو الوجوب الكذائي، و الى هذا اشار بقوله: «فانه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق الذي ليس» هو «إلّا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الاثر الشرعي» و اذا اخبر المفيد عن الصّفار فيكون الاثر الشرعي لخبر المفيد ليس هو إلّا نفس تصديق المفيد بان الصّفار اخبره، و هذا هو احد اجزاء الموضوع لخبر الصّفار لان يلحقه وجوب التصديق ايضا، فيكون وجوب التصديق الذي هو الحكم موضوعا لنفسه فلا يكون هناك اثر شرعي لوجوب التصديق الا «بلحاظ نفس هذا الوجوب فيما كان المخبر به خبر العدل» و هذا معنى قولهم انه يلزم اتحاد الحكم و الموضوع.

(1) حاصله: ان اشكال اتحاد الحكم و الموضوع الوارد على الخبر ذي الواسطة فيما اذا اخبر العدل عن عدالة مخبر له بخبر، فانه يرد على خبر العدل المخبر عن عدالة مخبر له ما ورد على اخباره بان العادل اخبره، فانه اذا اخبر العدل عن عدالة مخبر

ص: 356

نعم لو أنشأ هذا الحكم ثانيا، فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضا، حيث إنه صار أثرا بجعل آخر، فلا يلزم اتحاد الحكم و الموضوع، بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلا جعل واحد (1)،

______________________________

آخر و لم يكن اثر هناك لعدالة المخبر عنه سوى تصديقه في اخباره كما اذا كان قد توفي فلا مجال للاقتداء به حتى يكون هو الاثر الشرعي، فلا فائدة في ثبوت عدالته و لا أثر لها تعبدا الا نفس تصديقه، فيكون وجوب التصديق الذي هو الاثر الشرعي للمخبر الاول هو بنفسه الاثر الشرعي لعدالة الذي اخبر عن عدالته، و قد عرفت ان عدالة المخبر احد اجزاء الموضوع لوجوب صدّق العادل، فيكون الحكم الذي هو صدّق العادل اللاحق لخبر المخبر الاول عن عدالة المخبر الثاني هو المثبت للعدالة التي هي الموضوع لنفس وجوب صدّق العادل اللاحق ايضا للعدل الثاني، فيكون صدّق العادل موضوعا للحكم الذي هو نفسه صدّق العادل ايضا، و الى هذا اشار بقوله:

«لانه و ان كان» تصديق العادل «اثرا شرعيا لهما» أي اثرا شرعيا لما كان المخبر به خبر العدل او عدالة المخبر «إلّا انه» قد حصل هذا الاثر الشرعي لخبر العدل الثاني و لعدالة المخبر الذي اخبر العدل الاول عن عدالته «بنفس الحكم» الذي هو صدّق العادل «في مثل الآية الآمرة بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض».

(1) توضيحه: ان اشكال اتحاد الحكم و الموضوع فيما اذا اخبر العادل عن اخبار عدل آخر له او عن عدالة مخبر انما يلزم فيما اذا كان هناك انشاء واحد فانه ليس له إلّا حكم واحد فيكون ذلك الحكم الواحد المنشأ بصدق العادل مرة واحدة موضوعا لنفسه، للزوم شمول هذا الانشاء الواحد ذي الحكم الواحد لخبر المفيد و لخبر الصّفار فيما اذا اخبر عن اخبار الصفار له، او عن عدالة الصّفار فيما اذا اخبر عن عدالته، فيكون صدّق العادل الشامل لخبر المفيد موضوعا لنفسه في خبر الصّفار او في عدالته، و اما اذا أنشأ صدّق العادل مرتين الاولى لخبر المفيد و الثانية لخبر الصّفار او لعدالته فلا يرد اشكال اتحاد الحكم و الموضوع، لوضوح كون الحكم المنشأ بصدق العادل الاولى غير

ص: 357

فتدبر (1).

______________________________

الحكم المنشأ بصدق العادل الثانية، فلا يكون الحكم في صدّق العادل الاولى موضوعا لنفسه، بل يكون الحكم في صدّق العادل الاولى موضوعا لحكم آخر غيره، و هو الحكم المنشأ ثانيا بصدق العادل الثانية، و لذا قال (قدس سره): «نعم لو أنشأ هذا الحكم ثانيا فلا باس في ان يكون بلحاظه ايضا» أي فلا بأس بان يكون صدّق العادل الاول موضوعا بلحاظ صدّق العادل ايضا المنشأ ثانيا «حيث انه صار» صدّق العادل «اثرا» شرعيا آخر «ب» واسطة «جعل آخر» بانشاء آخر لصدّق العادل مرة ثانية «فلا يلزم اتحاد الحكم و الموضوع» بل هو كما لو كان صدّق العادل الاول موضوعا لحكم آخر في الخبر الثاني او عدالة المخبر كما لو كان العدل الثاني حيا، فانه لا يكون الاثر الشرعي هو وجوب تصديقه بل يكون الاثر جواز الاقتداء به او قبول شهادته و هذا «بخلاف ما اذا لم يكن هناك إلّا جعل واحد» بإنشاء واحد فانه لا بد و ان يكون هذا الانشاء الواحد الذي ليس فيه إلّا جعل حكم واحد هو الاثر الشرعي الشامل للاول و للثاني.

(1) لعله اشارة الى ان الانشاء الثاني انما يرفع الاشكال في الخبر ذي الواسطة الواحدة و هو الخبر المخبر عن الخبر الثاني المتكفل للحكم الواقعي، اما اذا تعددت الوسائط فلا بد من تعدد الانشاء بمقدار تعدد الوسائط، هذا أولا.

و ثانيا: ان الواصل لنا ليس إلّا انشاء واحد و جعل واحد، و هو واضح في مثل آية النبأ فانها ليست إلّا آية واحدة قد تكفلت لانشاء واحد و جعل واحد.

ص: 358

حلّ الاشكال بجعل القضية طبيعية

و يمكن ذب عن الاشكال (1)، بأنه إنما يلزم إذا لم يكن القضية طبيعية، و الحكم فيها بلحاظ طبيعة الاثر، بل بلحاظ أفراده، و إلا فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطبيعة إلى أفراده، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم و الموضوع (2).

______________________________

(1) لا يخفى ان مراده من قوله الذّبّ عن الاشكال هو دفع الاشكال، و الحال ان الذّبّ عن الشي ء هو الدفاع عنه لا دفعه، فالاولى ان يقال و يمكن الذّبّ للاشكال او ذبّ الاشكال باعتبار كون الذّبّ متعدّيا.

(2) توضيحه: ان مراده من القضية الطبيعية ليست هي الاصطلاحية المنطقية، فانها هي القضية التي كان الحكم فيها على الطبيعة- بما هي كليّة- كقولنا الانسان نوع و الحيوان جنس، و النوع بما هو و الجنس بما هو لا وجود لهما الا في الذهن، و من الواضح انه المراد بهذه القضايا العامة هي الطبيعة بما هي موجودة خارجا، بل مراده من القضية الطبيعية هو ان الطبيعة في مقام الحكم لم تلحظ فانية في الافراد كما هي كذلك في القضية المحصورة، فان الطبيعة في القضية المحصورة قد لحظت بما هي فانية في الافراد، و في القضية الطبيعية المرادة في المقام هو لحاظ الطبيعة بما هي موجودة بوجودها السعي، فالافراد لم تلحظ لا بنحو التفصيل و لا بنحو الاجمال، و اذا كانت القضية ملحوظة كذلك لا يرد اشكال اتحاد الحكم و الموضوع، فان صدّق العادل الذي قد اريد به وجوب ترتيب الاثر قد لحظ فيه طبيعة الاثر، فالملحوظ في مقام الحكم هو نفس الطبيعة دون الافراد، و الذي يكون بعضه موضوعا للآخر هو الفرد، فان الفرد الاولى من تصديق العادل يكون موضوعا لفرد آخر من التصديق للعادل، و الحكم المترتب على الطبيعة الملحوظة يسري إلى جميع افراد الطبيعة لاتحاد الطبيعي مع فرده في مقام الوجود خارجا، فالحكم يكون ساريا لجميع الافراد من دون لزوم المحذور المذكور من اتحاد الحكم و الموضوع.

ص: 359

.....

______________________________

و بعبارة اخرى: ان القضية الطبيعة المقصودة في المقام في قبال المحصورة قد لحظت الطبيعة الموجودة بالاستقلال و بما هي منظور اليها و انها مالها ينظر، و اما في المحصورة فالطبيعة ملحوظة بنحو المرآة و الفناء في الافراد فتكون منظورة بالنظر الآلي المرآتي، فيكون المقصود بالحكم هو الافراد بنفسها، و في القضية الطبيعية المقصود بالحكم هو نفس الطبيعة بما هي موجودة خارجا أي بما انها لها وجود خارجي، و منها يسري الحكم الى الافراد لاجل اتحاد الطبيعية و الفرد في الوجود خارجا، و من الواضح ان التقدم و التاخر في افراد الطبيعة الطولية انما هو في افرادها لا في الطبيعة نفسها، فما فيه التقدم و التأخر الذي هو الافراد ليس موضوعا للحكم و ما هو الموضوع للحكم ليس فيه تقدم و تأخر.

و قد ظهر مما ذكرنا: ان القضية الطبيعية و القضية المحصورة تشتركان في كون الحكم فيهما يلحق الفرد إلّا انه في القضية الطبيعية انما يلحق الفرد لانه يسري اليه من الطبيعة المتحدة معه في الوجود، و في المحصورة يلحق الحكم الفرد لان الفرد بنفسه هو موضوع الحكم.

و لاجل ذلك لا يرد الاشكال اذا كانت القضية ملحوظة بنحو ان يكون الحكم فيها على نفس الطبيعة من دون لحاظ الافراد لا تفصيلا و لا اجمالا، و انما يرد فيما اذا كان الحكم على الطبيعة الملحوظة فانية في الافراد، فان الافراد فيها و ان لم تكن ملحوظة بنحو التفصيل لعدم حصرها و تناهيها في امثال هذه القضايا الحقيقية العامة، و لكنها ملحوظة بنحو الاجمال و كون الطبيعة مرآة اليها، فتكون الافراد لبّا هي الموضوع للحكم، و حينئذ يمكن ان يرد الاشكال بان يقال: ان الطبيعة الملحوظة مرآة لافرادها لا يعقل ان تكون ناظرة بنظر واحد الى الافراد التي يكون بعضها موضوعا للآخر، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «بانه انما يلزم» أي انما يلزم اشكال اتحاد الحكم و الموضوع فيما «اذا لم يكن القضية طبيعية» و هي التي لم يلحظ فيها الافراد

ص: 360

هذا مضافا إلى القطع بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الاثر- أي وجوب التصديق- بعد تحققه بهذا الخطاب، و إن كان لا يمكن أن يكون ملحوظا لاجل المحذور (1)، و إلى عدم القول بالفصل بينه و بين سائر

______________________________

انما كان «الحكم فيها بلحاظ طبيعة الاثر بل» الاشكال انما يرد فيما اذا كانت القضية محصورة فان الحكم فيها «بلحاظ افراده» أي افراد الاثر.

ثم اشار الى ان الحكم في القضية الطبيعية ايضا يلحق الفرد و لكنه لاجل سراية الحكم المترتب على الطبيعة الى الفرد لاتحادها في الوجود لا لكون الفرد فيها هو الموضوع و لذلك لا يرد الاشكال بقوله: «و إلّا فالحكم بوجوب التصديق» الملحوظ بنحو القضية الطبيعية «يسري اليه» أي الى الفرد لاجل «سراية حكم الطبيعة الى افراده» أي افراد طبيعة الحكم و لكنه «بلا محذور لزوم اتحاد الحكم و الموضوع».

(1) هذا جواب ثان عن اشكال لزوم اتحاد الحكم و الموضوع، و حاصله: انه لو سلّمنا عدم امكان شمول ما دل على حجية خبر العادل للخبر مع الواسطة للزوم اتحاد الحكم و الموضوع، الّا انا نقول بان المناط لجعل الحجية لخبر العادل- غير ذي الواسطة ذي الاثر الشرعي- موجود في الخبر مع الواسطة بعد ان كان مما ينتهي الى الاثر الشرعي الواقع في نهاية السلسة، و ان كان لا يمكن ان يشمله صدّق العادل بانشاء واحد، فان المصلحة الداعية لجعل حجية الخبر هو جعل الحجة المنجزة للتكاليف الشرعيّة، و هذا المناط كما انه موجود في الخبر غير ذي الواسطة موجود ايضا في الخبر مع الواسطة المنتهى بسلسلته الى التكليف الشرعي، و اذا علمنا بتمامية المناط في كليهما و ان المانع من الشمول هو عدم امكان ان يكون الانشاء الواحد شاملا له بنظر واحد، و ليس المانع ما يحتمل كونه مانعا لاصل المصلحة الداعية لجعل الحجية بالنسبة الى الخبر ذي الواسطة، فالعلة التامة لكون الخبر ذي الواسطة حجة شرعية في التنجيز و المعذورية موجودة، فلا فرق بين الخبر ذي الواسطة و الخبر مع الواسطة، و الى هذا اشار بقوله: «مضافا الى القطع بتحقق ما هو المناط في ساير

ص: 361

الآثار، في وجوب الترتيب لدى الاخبار بموضوع، صار أثره الشرعي وجوب التصديق (1)، و هو خبر العدل، و لو بنفس الحكم في الآية به (2)، فافهم (3).

______________________________

الآثار» الذي يكون ذلك المناط هو الداعي لجعل الحجية للاخبار ذوات الآثار الشرعية و هي الاخبار غير ذوات الواسطة فان ذلك المناط موجود ايضا «في هذا الاثر أي وجوب التصديق» الذي صار اثرا شرعيا «بعد» جعله و «تحققه بهذا الخطاب و ان كان» هذا الاثر الذي هو وجوب التصديق «لا يمكن ان يكون ملحوظا لاجل محذور» و هو لزوم اتحاد الحكم و الموضوع.

(1) هذا جواب ثالث و مراده هو الاجماع على وجوب ترتيب الاثر الشرعي على خبر العادل و ان كان ذلك الاثر الشرعي قد صار اثرا شرعيا بواسطة نفس جعل وجوب التصديق لخبر العادل الذي لا يمكن ان يكون هذا الجعل شاملا لنفس هذا الاثر الشرعي في الخبر ذي الواسطة.

و الحاصل: ان الاجماع قائم على وجوب ترتيب الاثر الشرعي، و لا فرق بين هذا الاثر الشرعي الحاصل بهذا الجعل و بين غيره من الآثار.

(2) فان خبر العدل في الخبر ذي الواسطة ليس له اثر شرعي غير نفس وجوب التصديق الذي قد صار اثرا شرعيا بواسطة نفس هذا الجعل أي ان وجوب التصديق صار اثرا شرعيا بعد جعل الشارع لوجوب التصديق، فان الاجماع يقتضي لزوم ترتيب كل اثر شرعي سواء كان ذلك الاثر قد جعل قبل جعل الحجية لخبر العادل او كان نفس وجوب التصديق المجعول بنفس صدّق العادل، و هو مراده من قوله:

«و لو بنفس الحكم في الآية».

(3) لعله اشارة الى ردّ ما يمكن ان يقال ان الاجماع هو القول بعدم الفصل لا عدم القول بالفصل، فان عدم القول لا يستلزم القول بالعدم.

ص: 362

و لا يخفى أنه لا مجال بعد اندفاع الاشكال بذلك للاشكال في خصوص الوسائط من الاخبار، كخبر الصفار المحكي بخبر المفيد مثلا، بأنه لا يكاد يكون خبرا تعبدا إلا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد، فكيف يكون هذا الحكم المحقق لخبر الصفار تعبدا مثلا حكما له أيضا (1)، و ذلك لانه إذا كان خبر العدل ذا أثر شرعي حقيقة

______________________________

و جوابه: ان عدم القول بالفصل في مثل المقام مما يستلزم القول بالعدم، لان كل الفقه في الغيبة الكبرى و جلّ الفقه في الغيبة الصغرى و الكثير منه في عهد الأئمة عليهم السّلام مستنده الخبر ذو الواسطة و لم نر من الفقهاء فرقا بينه و بين الخبر بلا واسطة.

و يمكن ان يكون اشارة الى ان الإجماع في المقام محتمل المدرك، فانه من المحتمل ان يكون السبب في اخذ الفقهاء بالخبر ذي الواسطة لان القضية طبيعية أو للقطع بالمناط، و عليه فلا يكون جوابا ثالثا.

و يمكن ان يكون اشارة الى ان الاجماع من الفقهاء السابقين انما هو لعدم التفاتهم الى الاشكال، و الفقهاء الملتفتون له انما هو لفساد الاشكال بما مر من الجوابين او غيرها، فلا وجه في دعوى الاجماع، و اللّه العالم.

(1) قد عرفت ان الاشكال في عدم امكان شمول صدّق العادل للخبر، تارة: بما ذكره المصنف من ناحية الاثر و لزوم اتحاد الحكم و الموضوع. و اخرى من ناحية عدم امكان اثبات نفس خبرية الخبر بنفس وجوب تصديق العادل، و قد ذكره الشيخ الاعظم في رسائله.

و توضيحه: انه قد مرّ ان وجوب صدّق العادل حكم موضوعه خبر العادل و قد عرفت لزوم تقدم الموضوع على حكمه، فلا بد من ثبوت خبرية خبر العادل اما بالوجدان بان يخبرنا العادل و نسمع منه، او بدليل آخر غير نفس صدّق العادل، و اما اثبات خبريته بنفس صدّق العادل لازمه اثبات الحكم لموضوعه و هو محال لانه دور واضح، لتوقف الحكم على موضوعه، فاذا كان الحكم هو المفيد لموضوعه لكان

ص: 363

بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية، أو لشمول الحكم فيها له مناطا، و إن لم يشمله لفظا، أو لعدم القول بالفصل، فتأمل جيدا (1).

______________________________

ثبوت موضوعه متوقفا عليه، و لازمه توقف الموضوع على الحكم المتوقف هو على موضوعه، فيتوقف ثبوت الحكم على نفس ثبوت الحكم، لان الحكم متوقف على الموضوع و قد فرضنا توقف الموضوع عليه، فيكون الحكم متوقفا على المتوقف على الحكم، و كل متوقف على شي ء يكون متوقفا على ما توقف عليه ذلك الشي ء، فاذا فرضنا ثبوت الموضوع بالحكم كان الحكم المتوقف على الموضوع متوقفا على نفسه، لانه هو الذي يتوقف ثبوت الموضوع عليه بحسب الفرض و هو الدور، و اما استلزام ذلك لشمول صدّق العادل للخبر مع الواسطة.

فبيانه: انه اذا اخبرنا المفيد عن الصّفار فالمحرز خبريته بالوجدان هو خبر المفيد لنا، و اما خبر الصّفار فليس بمحرز لنا وجدانا و انما يكون محرزا بواسطة صدّق العادل الآمرة بوجوب تصديق المفيد بان الصّفار اخبره، فثبوت خبر الصّفار انما حصل لنا بواسطة وجوب تصديق المفيد بما اخبر به و ما اخبر به المفيد ليس هو إلّا اخبار الصّفار له، فيكون صدّق العادل الشامل لخبر المفيد هو المثبت لخبرية خبر الصّفار، و صدّق العادل هو ايضا حكم يلحق خبر الصّفار ايضا، فيكون خبر الصّفار الذي هو الموضوع- ايضا- لصدق العادل قد توقف ثبوته على صدّق العادل الذي هو حكم له و يتوقف عليه توقف الحكم على موضوعه، فيتوقف ثبوت خبرية خبر الصّفار على صدّق العادل المتوقف على ثبوت خبر الصّفار لكونه موضوعا له، و هذا هو الدور.

(1) حاصله: انه بعد اندفاع الاشكال السابق بما مر من امكان كون القضية ملحوظة بنحو القضية الطبيعية او بواسطة تنقيح المناط او بعدم القول بالفصل- يتضح الجواب

ص: 364

.....

______________________________

عن هذا الاشكال، فالاجوبة الثلاثة المتقدمة جارية في دفع هذا الاشكال الذي كان ملخصه لزوم توقف خبرية الخبر على الحكم المتوقف ذلك الحكم على خبرية الخبر.

و كما عرفت في انه يمكن ان يكون الاثر ملحوظا في صدّق خبر العادل بما هو طبيعة الاثر من دون لحاظ افراد الاثر فلا يلزم اتحاد الحكم و الموضوع، كذلك يمكن ان يكون الخبر في قوله صدّق خبر العادل ملحوظا بنحو كونه طبيعة الخبر لا بنحو القضية المحصورة الناظر الى الافراد، بان يكون الجاعل قد لحظ الخبر في قوله صدّق خبر العادل بما هو طبيعة الخبر من دون لحاظ الافراد لا تفصيلا و لا اجمالا و حكم بوجوب تصديقه، فالموضوع لصدّق العادل هو طبيعة الخبر و المثبت لخبرية الخبر في الخبر ذي الواسطة هو الخبر المنطبق عليه تلك الطبيعة، فيتغاير الموقوف و الموقوف عليه.

هذا مضافا الى ما يمكن ان ايجاب عنه في خصوص هذا الاشكال حتى لو كانت القضية محصورة ناظرة الى الافراد، بان يقال: ان الثابت بواسطة الحكم في صدّق العادل هو ثبوت خبرية الخبر تعبدا، فخبر الصّفار المنقول بخبر المفيد ثبتت خبريته تعبدا بواسطة الحكم اللاحق لخبر المفيد، و موضوع صدّق العادل في خبر الصّفار ليس هو خبر الصفار الثابت تعبدا باخبار المفيد، بل موضوعه هو المحتمل كونه خبرا واقعا دون الخبر الثابت تبعدا فيكون الحكم قد اثبت غير ما هو الموضوع له.

و بعبارة اخرى: ان الموضوع لصدّق العادل في الخبر ذي الواسطة هو المشكوك الخبرية واقعا، و الثابت بصدق العادل هو الخبر التعبدي، كما ان الثابت بالبينة القائمة على مشكوك الخمريّة هو الخمر التعبدية و الموضوع للبينة هو مشكوك الخمرية واقعا، فما هو الموضوع لصدّق العادل غير ما هو الثابت بواسطة صدّق العادل، و اذا كان الموضوع لصدّق العادل غير ما ثبت لصدّق العادل ارتفع محذور الدور، لوضوح كون الموقوف عليه الحكم غير ما هو الموقوف على الحكم، فان الموقوف عليه

ص: 365

.....

______________________________

الحكم هو الخبر الواقعي المشكوك، و المتوقف على الحكم هو الخبر التعبدي دون الواقعي المشكوك.

و الجواب الثاني- ايضا- جار في دفع هذا الاشكال، فانه لو سلّمنا ان صدّق العادل لا يمكن ان يكون مثبتا للخبر في الخبر ذي الواسطة، إلّا ان المناط الموجب لتوسعة الاثر حتى يشمل الاثر في الخبر ذي الواسطة لا بد و ان يكون هو المناط للتوسعة في الخبر ايضا ليشمل التعبدي ايضا، اذ لا يعقل التوسعة في الاثر دون التوسعة في خبرية الخبر ايضا.

و الجواب الثالث: و هو القول بعدم الفصل- ايضا- جار في المقام لقيام الاجماع على عدم الفرق في الاخذ بخبر العادل سواء كان محرزا بالوجدان او كان محرزا باخبار العدل به، و قد اشار الى ما ذكرنا بقوله: «و ذلك لانه اذا كان خبر العدل ذا اثر شرعي حقيقة» كخبر الصّفار فهو «ب» واسطة «حكم الآية وجب ترتيب اثره عليه» و ان كان ذلك الخبر قد ثبت «عند اخبار العدل به» و هو المفيد و يكون خبر الصّفار «كسائر» الاخبار و «ذوات الآثار من الموضوعات» أي يجب ترتيب اثرها عليها و ذلك «لما عرفت من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر» كما يشمل الخبر الحاكي لنفس الاثر الشرعي من دون واسطة كما مر بيانه «بنحو القضية الطبيعية» و هو الجواب الاول «او لشمول الحكم فيها» أي في الآية «له» أي للخبر ذي الواسطة «مناطا» لا نظرا، فهو «و ان لم يشمله لفظا» كما في الجواب الاول و لكنه يشمله مناطا، و هذا هو الجواب الثاني «او لعدم القول بالفصل» و هو الجواب الثالث.

ص: 366

الاستدلال بآية النفر بوجوه ثلاثة

و منها: آية النفر، قال اللّه تبارك و تعالى: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائفة الآية، و ربما يستدل بها من وجوه (1):

أحدها: إن كلمة (لعل) و إن كانت مستعملة على التحقيق في معناه الحقيقي، و هو الترجي الايقاعي الانشائي، إلا أن الداعي إليه حيث يستحيل في حقه تعالى أن يكون هو الترجي الحقيقي، كان هو محبوبية التحذر عند الانذار، و إذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعا، لعدم الفصل، و عقلا لوجوبه مع وجود ما يقتضيه، و عدم حسنه، بل عدم إمكانه بدونه (2).

______________________________

(1) هذا هي الآية الثانية التي استدل بها لحجية خبر الواحد و هي قوله تعالى في سورة براءة: فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ 38] و تقريب الاستدلال بها من وجوه ثلاثة اشار اليها.

(2) توضيح الاستدلال بهذه الآية في هذا الوجه الاول يتوقف على تمهيد مقدمة حاصلها: ان الترجي الحقيقي المقابل للترجي الانشائي هو رجاء وقوع الشي ء الملائم وقوعه للنفس، و لازمه جهل المترجي بالوقوع و عدمه، اذ لو كان عالما بوقوعه فلا يكون وقوعه مرجوا له بل يكون معلوما له، و لو كان عدمه معلوما له فلا يعقل ان يتحقق منه الرجاء لوقوعه، و الظاهر من المشهور هو وضع كلمة لعل للترجي الحقيقي.

و الذي مرّ من المصنف في مبحث الاوامر وضع هذه الكلمة للترجي الانشائي دون الحقيقي، كما ان رأيه ذلك في صيغ الاستفهام و التمني و ساير هذه الصيغ المعدّة للانشاء، و لكن الظاهر منه انها و ان كانت موضوعه لانشاء الترجي إلّا انه حيث يكون الداعي لانشاء الترجي هو الترجي الحقيقي فيكون على هذا الترجي الحقيقي

ص: 367

.....

______________________________

من شروط الاستعمال لا انه هو المستعمل فيه اللفظ، كرأيه في وضع الحروف مثل في و من و الى و امثالها انها موضوعة لمعنى الظرفية و الابتداء و الانتهاء، و لكن الواضع قد اشترط ان لا تستعمل الّا حيث تكون هذه المعاني ملحوظة باللحاظ الآلي دون الاستقلالي، و اذا لم تكن موضوعة لذلك بهذا الشرط فهي منصرفة الى ذلك قطعا، فكلمة لعل اما موضوعة عنده للترجي الانشائي المشترط فيه كونه بداعي الترجي الحقيقي او انها منصرفة الى ذلك.

و قد تبين من هذا: ان كلمة (لعلّ) المستعملة في القرآن الكريم لا يعقل ان تكون مستعملة في الترجي الانشائي الذي هو بداعي الترجي الحقيقي، للزوم الجهل في حقّه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، و متى امتنع المعنى الحقيقي فلا بد من اقرب المجازات الى المعنى الحقيقي، و لما عرفت ان الترجي الحقيقي هو رجاء وقوع الشي ء الملائم وقوعه للنفس فاقرب المجازات يكون هو استعمالها في الترجي الانشائي بداعي المحبوبيّة لوقوع متعلق كلمة لعل.

اذا تمت هذه المقدمة، فنقول: ان مدخول لعل في هذه الآية هو الحذر، فتدل الآية على أنّ الحذر كان بداعي المحبوبية و يكون المتحصّل من هذه الآية هو الحض على النفر ليتفقه النافرون ثم يرجعون الى قومهم منذرين لهم بالاحكام التي تفقهوها، و حذر المنذرين- بالفتح- محبوب له تبارك و تعالى، و قد قام الاجماع و الدليل العقلي على ان الحذر اذا كان محبوبا فلا بد و ان يكون واجبا.

اما الاجماع فقد قام على ان الحذر انما هو في مورد الوجوب و الحرمة دون بقية الاحكام لجواز تركها، فالحذر لا يكون إلّا في مورد العقاب، اما على عدم الفعل الواجب، او على فعل الحرام، فالحذر عقيب الانذار اذا كان محبوبا يكون واجبا.

و اما العقل فلوضوح ان محبوبية الخوف من العقاب للعبد انما هو لبلوغ الحكم الى مرتبة التنجز و الفعليّة، فانه اذا بلغ هذه كان الحذر من العقاب عليه حسنا عند العقل و واجبا، اما اذا لم يبلغ هذه المرتبة فالعقل يحكم يقبح العقاب بلا بيان، و اذا كان

ص: 368

.....

______________________________

العقاب قبيحا فلا يكون الخوف منه حسنا و لا لازما، لبداهة انه مع حكم العقل بقبحه يكون هذا الحكم من العقل مؤمّنا من العقاب فلا يكون الحذر من العقاب حسنا و لا واجبا.

و اذا عرفت ما ذكرنا- تعرف بان ظهور الآية في محبوبية الحذر من المنذرين- بالفتح- عقيب انذار الطائفة الذين تفقهوا في الدين لازمه حجية قول المنذرين- بالكسر- لوضوح ان انذار المنذرين- بالكسر- بالاحكام اذا لم يكن حجة على المنذرين- بالفتح- لا يكون حذرهم من انذار المتفقهين حسنا و لا واجبا، لان تنجّز الحكم في حق العبد لا يكون إلّا بالعلم او بقيام الحجة عليه، و من البديهي ان المنذرين- بالفتح- لا يحصل لهم العلم من قول المنذرين- بالكسر- و اذا لم يكن مما يحصل منه العلم المنجز للحكم فلا بد و ان يكون الحكم قد تنجز بقيام الحجة على المنذر- بالفتح- و لا يكون قول المنذر- بالكسر- حجة على المنذر- بالفتح- إلّا بان يكون قد جعل حجة و اعتبر له ما للعلم من الاثر، فتكون الآية الآمرة بالنفر و الانذار و محبوبية الحذر عقيب الانذار دالة على حجيّة قول المنذر في حق المنذر، و قد اشار المصنف الى مختاره فيما وضعت له كلمة لعل بقوله: «ان كلمة لعل و ان كانت مستعملة على التحقيق في معناه الحقيقي» و مراده من المعنى الحقيقي للترجي هو الموضوع له كلمة لعل، و لذا عقبه بقوله: «و هو الترجي الايقاعي الانشائي».

و اشار الى ان الترجي الحقيقي الموجود في افق النفس هو إما شرط في الوضع او انه هو المنصرف اليه أي الموضوع له لفظ لعل هو الترجي الانشائي إما بشرط كون الداعي له هو التجري الحقيقي، و اما ان المنصرف من كلمة لعل عند اطلاقها هو الترجي الانشائي الذي يكون بداعي الترجي الحقيقي، و على كل منهما فانه يستحيل ان تكون هذه الكلمة مستعملة في القرآن بهذا المعنى لاستحالة الجهل عليه تعالى عن ذلك بقوله: «الّا ان الداعي اليه حيث يستحيل في حقه تعالى ان يكون هو الترجي الحقيقي» الموجود في افق النفس.

ص: 369

ثانيها: إنه لما وجب الانذار لكونه غاية للنفر الواجب، كما هو قضية كلمة (لو لا) التحضيضية، وجب التحذر، و إلا لغا وجوبه (1).

______________________________

و اشار الى انه مع تعذر هذا المعنى في استعمال كلمة (لعل) لا بد و ان تكون مستعملة في اقرب المجازات و هو الترجي الانشائي الذي كان بداعي المحبوبية بقوله:

«كان هو محبوبية التحذر عند الانذار» ثم اشار الى ان محبوبية التحذر من العقاب عند الانذار تلازم وجوبه شرعا و عقلا بقوله: «و اذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعا لعدم الفصل» أي للقول بعدم الفصل بين محبوبية الحذر من العقاب و بين وجوب الحذر شرعا.

و الى العقل اشار بقوله: «و عقلا» أي ان العقل يحكم بان محبوبية الحذر ملازمة «لوجوبه» لان محبوبية الحذر من العقاب انما تكون «مع وجود ما يقتضيه» أي ما يقتضي الحذر و وجود المقتضي للحذر هو تنجيز الاحكام، و المنجّز اما العلم او الحجة، فانه لو لا فعلية الاحكام و تنجزها فالعقل يحكم بقبح العقاب بلا بيان، و مع حكمه بالقبح لا يكون الحذر حسنا و لا واجبا عند العقل، و لذا قال: «و عدم حسنه بل عدم امكانه» لمحالية صدور القبيح من الحكيم «بدونه» أي بدون وجود ما يقتضي محبوبية الحذر، و حيث ان قول المنذرين- بالكسر- لا يوجب العلم فلا بد و ان يكون قولهم حجة و هو المطلوب.

(1) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه المستفادة من الآية لدلالتها على حجية خبر الواحد، و بيانه: ان الآية دلت على وجوب النفر و دلت على ان غاية هذا الواجب هو الانذار و لا بد ان تكون غاية الواجب واجبة ايضا، لبداهة عدم معقولية ان تكون الغاية للواجب ما يجوز تركه.

و الغاية لوجوب الانذار هو ان يكون انذار المنذر يوجب الحذر و الخوف، و اذا كان هذا هو الغاية للانذار فوجوب الانذار يدل بدلالة الاقتضاء على وجوب الحذر بحيث لو لم يكن الحذر مذكورا في الآية لدل وجوب الانذار عليه بدلالة الاقتضاء،

ص: 370

.....

______________________________

و يستلزم وجوب الحذر وجوب قبول قول المنذر- بالكسر- و وجوب القبول يستلزم عقلا حجيّة قول المنذر- بالكسر- في حق المنذر- بالفتح- لبداهة انه لا يجب قبول غير الحجة.

اما دلالة الآية على وجوب النفر فلان لو لا من حروف التحضيض و حروف التحضيض اذا دخلت على المستقبل افادت الطلب، و ظاهر الطلب هو الوجوب، فلولا قد دلت على التحضيض على النفر و هو من الامور المستقبلة فتدل على طلب النفر، و الطلب ظاهره الوجوب فيكون النفر واجبا.

و اما كون الانذار غاية لهذا النفر الواجب فيدل عليه اللام في قوله لينذروا، و كون غاية الواجب لا بد و ان تكون واجبة فالعقل دال على ذلك، و اما كون غاية وجوب الانذار هو الحذر فالوجدان و العقل يدل عليه، فانا لا نجد غاية لوجوب الانذار على المنذرين الّا لان يكون قولهم موجبا لحذر المنذر- بالفتح- و لازم ذلك هو كون قول المنذر- بالكسر- مقبولا عند المنذرين- بالفتح- لبداهة ان وجوب الانذار على النافرين اذا لم يكن قولهم موجبا للحذر المستلزم للقبول عند من ينذرونهم كان وجوب الانذار على النافرين لغوا، و وجوب القبول مستلزم لحجية قول المنذرين- بالكسر- على المنذرين- بالفتح- اذ لا يعقل ان يكون قبول غير الحجة واجبا.

و ملخص هذا الوجه: ان وجوب الانذار يدل بدلالة الاقتضاء على الحذر، و لازمه وجوب القبول المستلزم لكون قول المنذر الذي هو المخبر حجة و هو المطلوب، و قد اشار الى وجوب الانذار لانه كان غاية للواجب بقوله: «انه لما وجب الانذار لكونه غاية للنفر الواجب» و اشار الى وجوب النفر و انه مستفاد من التحضيض بقوله: «كما هو قضية كلمة لو لا التحضيضية» و اشار الى ان لازم وجوب الانذار هو وجوب القبول المستلزم لحجية قول القائل عند المقول له المستلزم لكونه مما تنجز عليه الحكم بالحجة بقوله: «وجب التحذّر» و اشار الى ان وجوب الانذار لو لم

ص: 371

ثالثها: إنه جعل غاية للانذار الواجب، و غاية الواجب واجب (1).

و يشكل الوجه الاول، بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع و عدم الوقوع في محذور مخالفته، من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة، حسن، و ليس

______________________________

يستلزم الحذر المستلزم للقبول كان لغوا بقوله: «و إلّا لغا وجوبه» أي لغى وجوب الانذار.

(1) هذا هو الوجه الثالث في إفادة الآية لحجية خبر الواحد، و حاصله: ان الآية تدل على وجوب الانذار، و قد جعل وجوب الحذر غاية لهذا الانذار الواجب، فان قوله لعلهم يحذرون بعد قوله و لينذروا قومهم ظاهر في كون الغاية للانذار هو الحذر لانها مثل قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى 39] و وجوب الحذر لازمه قيام الحجة عليهم بقول الطائفة النافرة.

و الحاصل: ان الحذر غاية للانذار الواجب و غاية الواجب واجبة، فالحذر يكون واجبا، و وجوب الحذر لا بد و ان يكون حيث تقوم الحجة على من وجب عليه الحذر، و حيث لا يحصل العلم من الانذار فلا بد و ان تكون الحجة مستندة الى حجية قول المنذر- بالكسر- في حق المنذر- بالفتح- و اما كون الانذار واجبا فهو اما لكونه غاية للنفر الواجب او لدلالة اللام الدالة على الطلب عليه.

و الفرق بين الوجه الثاني و الوجه الثالث هو انه في الوجه الثاني كان وجوب الحذر مدلولا عليه بدلالة الاقتضاء من جهة وجوب الانذار حتى و لو لم يكن الحذر مذكورا في الآية.

و اما بحسب الوجه الثالث فوجوب الحذر قد وقع غاية لوجوب الانذار في الآية، فالآية لفظها قد دلت على كون الحذر غاية لوجوب الانذار.

ص: 372

بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف، و لم يثبت هاهنا عدم الفصل، غايته عدم القول بالفصل (1).

______________________________

(1) توضيح هذا الاشكال هو ان الوجه الاول يبتني على كون محبوبية الحذر تلازم وجوبه عقلا و شرعا، اما عقلا فلأن الحذر من العقاب لا بد و ان يكون لقيام الحجة و حيث لا علم فلا بد و ان تكون الحجة هو قول المنذر بالكسر، و اما شرعا فلعدم القول بالفصل بين محبوبية الحذر من العقاب و بين الوجوب.

فاذا قلنا: ان محبوبية الحذر عقلا لا تلازم وجوبه لم يتم الاستكشاف العقلي على حجيّة الخبر.

و توضيح ذلك: ان الحذر المحبوب تارة يكون هو الحذر من العقاب و هو المستلزم عند العقل لحجية الخبر لان الحذر من العقاب، لا يعقل ان يكون الّا لوجود الحجة لاستلزام الحذر من العقاب لوجوبه عقلا، و وجوب الحذر من العقاب عقلا يستلزم حجية الخبر.

اما اذا كان الحذر ليس من العقاب بل يكون الحذر حذرا من الوقوع في المفسدة و من فوت المصلحة فلا يكون الحذر من ذلك عقلا مما يستلزم حجية الخبر.

و بعبارة اخرى: ان الحذر تارة يكون حسنا عند العقل، و مطلق الحسن العقلي لا يلازم الوجوب، فان الاحتياط في مورد الشبهة البدوية حسن عقلا مع حكم العقل نفسه بعدم وجوب الاحتياط.

و اخرى يكون واجبا و الواجب منه هو المستلزم لحجية الخبر فاذا كان الحذر المحبوب المستفاد من (لعلّ) المتعقب ذلك الحذر لانذار المنذرين بالعقاب كان هذا الحذر دليلا على حجية الخبر، و اذا كان الحذر محبوبا لكون المنذرين- بالكسر- لما اخبروا بالاحكام و كانت الاحكام تابعة للمصالح و المفاسد فيكون حذر المنذرين- بالفتح- انما هو لخوف الوقوع في المفسدة او لفوت المصلحة، و مثل هذا الحذر محبوب و حسن و لكنه لا يستلزم حجية قول المنذر بالكسر.

ص: 373

و الوجه الثاني و الثالث بعدم انحصار فائدة الانذار بإيجاب التحذر تعبدا، لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الاطلاق، ضرورة أن الآية مسوقة لبيان وجوب النفر، لا لبيان غايتية التحذر، و لعل وجوبه كان

______________________________

و الحاصل: ان الحذر لا ينحصر بالحذر من العقاب ليكون مستلزما للحجية بل يكون لخوف فوت المصلحة و الوقوع في المفسدة و هو لا يستلزم الحجية، و لم يذكر في الآية متعلق الحذر فيمكن ان يكون هو خوف فوت المصلحة و الوقوع في المفسدة، و اذا حصل هذا الاحتمال بطل الاستدلال لانه لا يتم إلّا بانحصار الحذر في الحذر من العقاب و قد اشار الى هذا بقوله: «بان التحذر» لا ينحصر بالتحذر من العقاب ليستلزم الحجية بل قد يكون «لرجاء ادراك الواقع و عدم الوقوع في محذور مخالفته من فوت المصلحة او الوقوع في المفسدة» و مثل هذا التحذر «حسن» عند العقل «و ليس بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف» و انما يكون واجبا فيما اذا كان الحذر حذرا من العقاب و ليس في الآية ما يدل على ان متعلق الحذر هو العقاب.

و بالجملة: ان الحذر من العقاب حسن و واجب و مستلزم للحجية و الحذر من فوت الواقع حسن و ليس بواجب و هو كالاحتياط في مورد الشبهة البدوية و لكنه غير مستلزم للحجية.

و اما دعوى عدم الفصل بين محبوبية الحذر و وجوبه الراجعة الى دعوى الاجماع.

فيرد عليها اولا: ان عدم الفصل لا يفيد الاجماع بل المفيد له هو القول بعدم الفصل و اليه اشار بقوله: «و لم يثبت هاهنا عدم الفصل» المراد من ثبوت عدم الفصل هو القول بعدم الفصل و هو لم يثبت و «غايته عدم القول بالفصل» أي ان غاية ما ثبت انه ما وجدنا من قال بالفصل بين المحبوبية و الوجوب، و عدم قولهم بالفصل لا يكون قولا منهم بعدم الفصل.

و ثانيا: ان الاجماع المدعى في المقام محتمل المدرك لاحتمال كون مدركه هو انهم يرون الملازمة العقلية بين محبوبية الحذر و وجوبه.

ص: 374

مشروطا بما إذا أفاد العلم (1) لو لم نقل بكونه مشروطا به، فإن النفر إنما يكون لاجل التفقه و تعلم معالم الدين، و معرفة ما جاء به سيد المرسلين

______________________________

(1) توضيح هذا الاشكال الظاهر من المصنف وروده على الوجه الثاني و الثالث معا:

ان المتحصّل من الوجه الثاني هو انحصار الغاية لوجوب الانذار في التحذّر، فيكون وجوب الانذار دالا بدلالة الاقتضاء على وجوب التحذّر، و لازم وجوب التحذّر عقيب الانذار حجية الخبر.

و المتحصّل من الوجه الثالث دلالة الآية على كون وجوب التحذر هو الغاية لوجوب الإنذار، و لا يتم دلالة هذين الوجهين على حجية الخبر إلّا بان يكون وجوب التحذّر غاية لكل فرد من افراد الانذار اما اذا كان غاية لمجموع المنذرين- بالكسر- فلا يكون دليلا على حجية خبر الواحد، لوضوح ان وجوب الحذر المترتب على مجموع انذار الطائفة المنذرة انما هو لحصول العلم للمنذرين- بالفتح- بواسطة كثرة انذار المنذرين، و لا مانع من ان يجب الانذار على كل فرد من افراد الطائفة النافرة و لا تكون الفائدة لكل انذار و هو وجوب الحذر، بل يجوز انه يجب الانذار على كل فرد لكونه جزء ما يوجب الحذر فلا تكون الغاية لكل انذار هو التحذر، و نحن نسلّم انه لو لا وجوب التحذر للغا وجوب الانذار، إلّا انه لا نسلّم ان التحذّر هو الغاية لكل فرد فرد من افراد الانذار، فلا تنحصر فائدة الانذار الواجب على كل فرد فرد من افراد الطائفة النافرة بكون غايته وجوب التحذر تعبدا، و لعله اشار الى هذا بقوله: «لعدم انحصار فائدة الانذار بايجاب التحذّر تعبدا».

و يحتمل ان يكون مراده من قوله بعدم انحصار فائدة الانذار بالتحذر تعبدا انه لا تنحصر فائدة وجوب الانذار في كون الغاية منه وجوب التحذر لاحتمال كون فائدته حسن التحذر، و قد عرفت انه انما يكون دليلا على حجية الخبر حيث تكون غاية الانذار هو وجوب التحذر، اما اذا كانت الغاية حسن التحذر فلا دلالة له على حجية الخبر، و يكون حاله حال الاحتياط في الشبهة البدوية.

ص: 375

.....

______________________________

و على هذا فيكون قوله: «بعدم انحصار فائدة الانذار الى آخره» مما يختص بالوجه الثاني و كان عليه ان يفصل بينه و بين قوله: «لعدم اطلاق الى آخره» بالواو، لان قوله لعدم يكون مختصا بالوجه الثالث.

اما اذا كان المراد منه ما ذكرناه اولا فيشترك الوجه الثاني و الثالث في انه ليس الغاية لوجوب الانذار منحصرة في وجوب التحذر، و حيث كان الوجه الثاني مبنيا على دلالة الاقتضاء و هي انما تكون حيث تنحصر الغاية في وجوب التحذر عقيب كل فرد من افراد الانذار، و اذا لم يكن فائدة وجوب الانذار الواجب على كل فرد منحصرة في وجوب التحذر، بل يحتمل ان يكون فائدته كونه جزء ما يوجب التحذر، و لذا اشار اليه بقوله: «بعدم انحصار الى آخر الجملة».

و لما كان المبنى في الوجه الثالث دلالة الآية بالدلالة اللفظية على كون وجوب التحذر غاية للانذار الواجب على كل فرد من افراد الطائفة النافرة- اشار الى الجواب بعدم الاطلاق.

و توضيحه: ان الاستدلال انما يتم حيث كان وجوب التحذر على المنذرين بالفتح واجبا مطلقا سواء كان الانذار مفيدا للعلم او لم يكن مفيدا، فان النافع هو الاطلاق الجاري في وجوب التحذر، و اما الاطلاق في وجوب الانذار بان يكون واجبا على المنذرين بالكسر ان ينذروا سواء كان انذار كل واحد واحد موجبا لوجوب التحذر ام لم يكن فلا تنفع، لما عرفت من امكان ان يكون انذار كل واحد واحد جزء ما يوجب التحذر، فوجوبه اعم من ان يكون مفيدا لوجوب التحذر منفردا او كان جزء ما يوجب التحذر، و اذا كان تمامية الاستدلال منوطا بالاطلاق في وجوب التحذّر دون الاطلاق الجاري في وجوب الانذار و لما لم تكن الآية مسوقة لبيان وجوب التحذر هو الغاية مطلقا بل كانت مسوقة لبيان وجوب الانذار- فلا يتم الاستدلال.

ص: 376

.....

______________________________

و من الواضح ان الآية مسوقة للحض على وجوب النفر و وجوب الانذار منهم، ثم دلت على ان وجوب التحذر مما يترتب على ذلك، و لم يكن سوق الآية لوجوب التحذر و لبيان انه هو الغاية لوجوب الانذار حتى يكون لها اطلاق من هذه الجهة.

و بعبارة اخرى: انه لو كان بدل لعلهم يحذرون و احذروا اذا انذرتم او شبه هذا التعبير لكان للآية اطلاق من ناحية وجوب التحذّر، فالاطلاق النافع لافادة حجية الخبر غير موجود و هو الاطلاق في وجوب التحذّر، و الاطلاق الموجود و هو اطلاق وجوب الانذار غير نافع لافادة حجيته، لما عرفت من ان الانذار و ان وجب على كل فرد إلّا انه لا يستلزم ان يكون الغاية لكل انذار هو وجوب التحذر، لامكان ان يكون انذار كل واحد- منفردا- جزء ما يوجب التحذّر، و يكون وجوب التحذّر مشروطا واقعا بما يوجب العلم الذي يحصل من تكاثر انذار المنذرين بالكسر.

فان قلت: الاطلاق في ناحية وجوب الانذار كاف في افادة كون الغاية و هي وجوب التحذر غاية لكل انذار، و اذا كان وجوب التحذر غاية لكل انذار يتم المطلوب من الاستدلال، و اما كون الاطلاق في ناحية الانذار مفيدا لذلك فلانه بعد ان كانت الغاية هي وجوب التحذر فوجوب الانذار منفردا فيما اذا كان وجوب التحذر مشروطا بالعلم لا وجه له، فان الانذار من المجموع هو المفيد للغاية دون كل انذار منفردا، فيكون وجوبه منفردا على كل واحد من الطائفة النافرة سواء أنذر غيره ام لم ينذر لغوا، فالاطلاق في ناحية الانذار يكفي لافادة ان وجوب التحذّر هو غاية لكل انذار منفردا.

قلت: لعل السبب في كون وجوب الانذار كان وجوبا مطلقا على كل واحد من النافرين لئلا يحصل التواكل منهم في مقام الانذار، فانه لو كان وجوبه مشروطا بانذار الجميع ليحصل العلم لامكن ان لا يحصل انذار من واحد منهم اصلا.

و على كل فقد اشار المصنف الى ما ذكرنا بقوله: «لعدم اطلاق يقتضي وجوبه» أي وجوب التحذر «على الاطلاق» سواء افاد الانذار العلم ام لا

ص: 377

صلى اللّه عليه و آله و سلّم، كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين (1)، على الوجهين في تفسير الآية، لكي يحذروا إذا أنذروا بها، و قضيته إنما هو وجوب

______________________________

«ضرورة ان» الاطلاق انما يستفاد حيث تكون الآية مسوقة لبيان كون وجوب التحذر غاية مطلقا، و لم يكن البيان في الآية مسوقا من هذه الجهة و انما كانت «الآية مسوقة لبيان وجوب النفر» و لوجوب الانذار «لا لبيان غايتية التحذر» لذلك و اذا لم يكن للآية اطلاق يدل على وجوب التحذر مطلقا سواء افاد الانذار العلم ام لا و غاية ما يستفاد حينئذ وجوب التحذر مجملا، فيمكن ان يكون وجوبه مشروطا بما اذا تكاثر الانذار فأفاد العلم، و لذا قال: «و لعل وجوبه كان مشروطا بما اذا افاد العلم» الذي يحصل من مجموع انذار الطائفة النافرة.

(1) كان مبنى الاشكال المتقدم هو كفاية الشك في كون وجوب التحذر غاية لكل فرد فرد من الانذار الواجب لاحتمال كونه غاية لمجموع انذار الطائفة النافرة، و مبنى هذا الاشكال الذي اشار اليه بقوله: «لو لم نقل الى آخره» هو ان في المقام قرينة على كون التحذر غاية لمجموع انذار الطائفة النافرة لا لكل فرد منها، و بيانه: انه اوجب اللّه النفر على طائفة من المؤمنين ليتفقهوا في الدين، و من الواضح ان نفرهم انما يكون لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيفقههم في الدين و يبلغهم احكامه و يعلمهم معالمه، و هذا التفقه و التعلم و المعرفة انما هو فقه و معرفة للاحكام الواقعية و يجب عليهم الانذار بهذه المعارف الحقيقية و الاحكام الواقعية، فاذا كان الانذار بها فلا بد و ان يكون الحذر الواجب هو الخوف من مخالفة هذه الاحكام الواقعية التي وقع بها الانذار، و اذا كان الحذر الواجب هو الحذر من مخالفة الاحكام الواقعية كان دالا على ان الحذر الواجب هو الحذر المشروط بالعلم بالواقع دون الحذر في مقام الشك في الحكم الواقعي، و من البديهي انه لو كان الحذر الواجب غاية لكل فرد من افراد الانذار لكان واجبا في حال الشك في الحكم الواقعي، و يختلف سياق الآية قطعا،

ص: 378

الحذر عند إحراز أن الانذار بها، كما لا يخفى (1).

______________________________

لان النفر هو لاجل الحكم الواقعي و الحذر الواجب يكون لغيره، و لازم ذلك ان يكون الحذر غاية لغير ما نفروا اليه و تفقهوه و انذروا به.

و بعبارة اخرى: ان الآية تدل على ان الخوف يجب على المنذرين- بالفتح- ان لا يقعوا في خلاف ما عرفه الطائفة النافرة و تفقهوه، و الذي عرفه الطائفة النافرة هو الاحكام الواقعية و معالم الدين الحقيقية، و كون الحذر الواجب هو الخوف من مخالفتها يستلزم ان تكون الاحكام الواقعية واصلة وصولا حقيقيا الى المنذرين- بالفتح- و لا تكون واصلة كذلك إلّا اذا احرزت بالعلم، و الاحراز بالعلم انما يكون مما يترتب على مجموع انذار الطائفة النافرة لا على انذار كل فرد منها، و الى هذا اشار بقوله: «كي ينذروا بها» أي كي ينذروا بما تفقهوا به و عرفوه و تعلموه، و الذي فقهوه و عرفوه و تعلموه هو الاحكام الواقعية.

و اشار الى انه اذا كان التفقه بها و الانذار بها يستلزم ان يكون الخوف الواجب هو الخوف منها، و اذا كان الخوف الواجب هو الخوف من مخالفة الاحكام الواقعية كان لا بد من احرازها بالعلم بقوله: «و قضيته» أي و قضيته كون التفقه للاحكام الواقعية و الانذار بها «انما هو» موجب لكون «وجوب الحذر عند إحراز أن الانذار بها» أي بالاحكام الواقعية، و من الواضح انه ما لم يحرز بالعلم لا يكون الانذار انذارا بها و انما يكون الانذار انذارا بها، حيث يتحقق انذار مجموع الطائفة النافرة لا بتحقق انذار أي فرد منها.

(1) لقد ورد في تفسير هذه الآية وجوه ثلاثة اشار الى وجهين منها:

الاول: ان المراد من النفر في الآية هو الخروج الى الجهاد، و ان تكون الطائفة النافرة هي المتفقهة و هي المنذرة عند رجوعها الى المتخلفين، و على هذا فيكون المرجع للضمير في يتفقهوا و ينذروا و قومهم و رجعوا هم الطائفة النافرة، و الضمير في اليهم و لعلهم مرجعه هم الفرقة المتخلفة، و يكون معنى الآية ان اللّه يجب ان ينفر الى

ص: 379

.....

______________________________

الجهاد طائفة من كل فرقة، و هؤلاء النافرون يجب عليهم التفقه ايضا و الانذار عند رجوعهم الى من تخلف من الفرق لعل المتخلفين يحذرون من انذار هؤلاء.

الثاني: ان المراد من النفر هو الجهاد و لكنه هو الجهاد الذي يأمر به رسول اللّه في بعوثه التي يبعثها للغزو، و على هذا فتكون الفرقة المتخلفة هي الفرقة الباقية مع رسول اللّه، و هي التي يجب عليها التفقه و الانذار، و اليها يرجع ضمير ليتفقهوا و لينذروا و قومهم و اليهم، و يكون ضمير رجعوا و لعلهم راجعا الى الطائفة النافرة، و على هذا يكون معنى الآية انه لا يجب على كل المؤمنين ان ينفروا كلهم الى الجهاد اذا بعثهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و امرهم به، بل يجب ان ينفر من كل فرقة طائفة الى الجهاد و يتخلف الباقون مع رسول اللّه، و يجب على المتخلفين ان يتفقهوا و يتعلموا معالم الدين منه صلى اللّه عليه و آله و سلم، و يجب ان ينذروا قومهم و هم الطائفة النافرة للجهاد اذا رجعوا اليهم بما تفقهوا به و تعلموه منه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لعل النافرين يحذرون من انذار المتخلفين، و الى هذين الوجهين اشار بقوله: «كي ينذروا بها المتخلفين» أي كي ينذر النافرون المتخلفين و هو الوجه الاول، و الوجه الثاني اشار اليه بقوله: «او النافرين» أي كي ينذر المتخلفون النافرين.

الثالث من الوجوه: ان يكون المراد من النفر ليس النفر الى الجهاد، بل المراد منه هو النفر الى رسول اللّه، و يكون معنى الآية انه لا يجب على المؤمنين الذين يبعد محل اقامتهم عن مدينة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم ان ينفروا الى رسول اللّه كلهم، بل يجب ان ينفر الى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم طائفة منهم ليتفقهوا و يتعلموا معالم الدين منه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و لينذر هؤلاء النافرون قومهم المتخلفين إذا رجعوا اليهم لعل المتخلفين يحذرون بانذارهم.

و الفرق بين الوجه الثالث و الاول هو ان النفر في الاول هو النفر الى الجهاد، و في الثالث هو النفر الى رسول اللّه، و اما في كون المنذرة هي الطائفة النافرة و المنذرة بالفتح هي الفرقة المتخلفة فلا فرق بينهما من هذه الجهة، فراجع.

ص: 380

ثم إنه أشكل أيضا، بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقا فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر، حيث إنه ليس شأن الراوي إلا الاخبار بما تحمله، لا التخويف و الانذار، و إنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد (1).

______________________________

(1) هذا اشكال ذكره الشيخ (قدس سره) في الرسائل على الوجوه الثلاثة في الآية و بيانه: ان الوجوه الثلاثة مبنية على وجوب الحذر عقيب الانذار الواجب، و لا يتم دلالتها على حجية الخبر الا بكون انذار المنذرين انما هو بالرواية منهم و الحكاية لما سمعوه، أما لو كان انذار المنذرين الذي يجب الحذر بعده كان مبنيا على رأي المنذر و اعمال اجتهاده فتكون الآية دالة على حجية رأي المجتهد في حق المقلد و لا تكون مربوطة بحجية رواية الراوي و خبره.

و اما كون انذار المنذر هو المبتني على رأيه لا على روايته فلان الانذار المشتمل على التخويف هو الذي يقتضي ان يتعقبه الخوف من المنذر- بالفتح- و من الواضح ان شأن الراوي بما هو راو نقل ما سمع من الاحكام و المعارف، و مدلول الحكم الذي ينقله الراوي لا يشتمل على تخويف و تهديد، و انما مدلوله الطلب اما لفعل الشي ء او تركه، و انما يكون المنذر مخوفا و مهددا بانذاره حيث يعمل رأيه و يقول- مثلا- هذه الاحكام واجبة او محرمة و الوجوب و التحريم تركهما يستلزم سخط اللّه و عقابه.

و الحاصل: ان الذي تفقه بالمعارف و الاحكام اذا عمل رأيه كان منذرا و مخوفا، و كان ما يبلغه انذارا و تخويفا، و اما اذا اقتصر على النقل المحض فلا يكون ما يبلغه انذارا و تخويفا.

و بعبارة اخرى: ان الانذار هو انشاء التخويف من المنذر لا نقله للحكم بما هو نقل محض، و انشاء المنذر بما هو انشاء منه هو شان المجتهد المرشد لا شان الراوي الناقل، فان انشاءه مستند الى رأيه و اجتهاده و نقله مستند الى روايته و سماعه، و الى

ص: 381

قلت: لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الاول في نقل ما تحملوا من النبي صلى اللّه عليه و على أهل بيته الكرام أو الامام عليه السّلام من الاحكام إلى الانام، إلا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام.

و لا شبهة في أنه يصح منهم التخويف في مقام الابلاغ و الانذار و التحذير بالبلاغ، فكذا من الرواة، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف، كان نقله حجة بدونه أيضا، لعدم الفصل بينهما جزما، فافهم (1).

______________________________

هذا اشار بقوله: «بان الآية لو سلم على وجوب الحذر مطلقا» سواء كان بالاحكام الواقعية او غيرها: اي سواء افاد العلم او لم يفد، و لكنها انما تدل على حجية رأي المجتهد و لا ربط بحجة رواية الراوي بما هو راوي «فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر حيث» ان الخوف الواجب هو المتعقب للانذار و «انه» أي الانذار «ليس شان الراوي» بما هو راو فان شان الراوي ليس «إلّا الاخبار بما تحمله» من الاحكام «لا التخويف و الانذار و انما هو» أي التخويف و الانذار «شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة الى المسترشد او المقلد».

(1) توضيح الجواب ان الشيخ (قدس سره) ان كان مراده ان الراوي بما هو راو ليس شانه ان يخوف و انما هو شان المجتهد و المرشد- فالجواب ما اشار اليه المصنف و هو ان الآية حيث دلت على وجوب الحذر عند انذار المنذر مطلقا سواء نقل الحكم غير المشتمل على انشاء التخويف او نقله و أنشأ التخويف ايضا، و الاجماع قائم على عدم الفصل بين نقله للحكم غير المجامع للتخويف و بين نقله للحكم مع انشاء التخويف ايضا معه، و الرواة في الصدر الاول كانوا يجمعون بين الرواية و الارشاد، و هم في حال كونهم رواة مرشدون ايضا، فالآية اذا دلت على حجية نقل المنذر اذا انضم اليه منه التخويف و الانذار كان نقله حجة ايضا فيما اذا لم ينضم اليه منه الانذار و التخويف.

ص: 382

الاستدلال بآية الكتمان

و منها: آية الكتمان، إن الذين يكتمون ما أنزلنا ... الآية.

______________________________

و ان كان مراد الشيخ (قدس سره) ان الآية انما تدل على خصوص حجية المنذر بما هو منذر و منشئ للتخويف، و ان للراوي حيثيتين: حيثية كونه راويا و ناقلا و هو من هذه الحيثية ليس بمنذر، و حيثية كونه منذرا و منشئا للانذار و ان حقيقة الانذار داخل في قوامها انشاء التخويف.

فالجواب عنه يكون بغير النحو الذي اشار اليه المصنف، و ذلك بان نقول ان الانذار هو الكلام المشتمل على التخويف، و هو يكون تارة بانشاء المنذر و اعمال رأيه و اجتهاده فيما فهمه من الكلام الذي سمعه.

و اخرى يكون بنقله لنفس كلام النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم المشتمل على التخويف، و النبي كما يذكر للطائفة النافرة الاحكام كذلك يذكر لها الكلام المشتمل على الوعظ و التخويف، فالراوي كما يكون راويا للحكم الذي سمعه كذلك يكون راويا للإنذار الذي سمعه، و كما يصدق الانذار منه على التخويف الذي ينشئه كذلك يصدق الانذار منه على الكلام الذي سمعه المشتمل على التخويف و التهديد، و لا يختص صدق الانذار بخصوص انشائه، بل يشمله و يشمل نقله له ايضا، و اذا كان نقل الراوي حجة في نقله لما سمعه من النبي المشتمل على التخويف كان نقله حجة ايضا في الحكم ايضا، لوضوح انه لا فرق بينهما من حيث الحجية لروايته بما هي رواية سواء كانت روايته حكما او كانت روايته كلاما يدل على التخويف، هذا كله اذا لم نقل بان الراوي الناقل للحكم المحض هو منذر ايضا لان الانذار هو التخويف سواء كان بمدلول الكلام المطابقي او كان بما يستلزمه اقتضاء، فان الحكم من الوجوب و الحرمة يقتضي التخويف و التهديد، لان الوجوب هو طلب الفعل الذي يستحق تاركه العقاب، و الحرمة هي طلب الترك الذي يستحق فاعله العقاب، فنقل الحكم المحض يدل ضمنا أو اقتضاء على التخويف و التهديد، و لعل المصنف اشار الى هذا الاحتمال في كلام الشيخ و الجواب عنه بقوله: «فافهم».

ص: 383

و تقريب الاستدلال بها: إن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلا، للزوم لغويته بدونه (1)، و لا يخفى أنه لو سلمت هذه الملازمة

______________________________

(1) هذه الآية الثالثة التي استدل بها لحجية خبر الواحد، و هي قوله تعالى في سورة البقرة مؤنبا لعلماء اهل الكتاب: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ 40].

و تقريب الاستدلال بها ان الآية قد دلت على حرمة كتمان البينات و الهدى، و لا شك في شمول البينات و الهدي للاصول و الفروع، و كما ان علامات النبوة التي وردت في التوراة دالة على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يحرم كتمانها، كذلك احكام اللّه التي جاء بها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يحرم كتمانها ايضا، و ان لحرمة الكتمان اطلاقا يشمل ما افاد العلم و ما لم يفد العلم، فيحرم كتمان الحكم على كل من عرفه سواء افاد اظهاره له العلم كما اذا اقترن اظهاره باظهار غيره، او لم يقترن اظهاره باظهار غيره فلا يكون مفيدا للعلم، و اذا حرم الكتمان و وجوب الاظهار مطلقا سواء افاد العلم او لم يفده كانت الغاية لحرمة الكتمان و وجوب الاظهار هو القبول، فان العقل لا يرى فائدة لحرمة الكتمان حتى لو لم يفد الاظهار العلم الا القبول، فانه لو لم يكن الغاية لوجوب الاظهار الذي لا يفيد العلم هو القبول لكان وجوب الاظهار و حرمة الكتمان حينئذ لغوا و اللغوية محال عليه تعالى في احكامه، و من الواضح ان لازم وجوب القبول هو حجية الخبر الذي لا يفيد العلم، لعدم امكان ان يجب قبوله و لا يكون حجة.

و قد تبين: ان الاستدلال بهذه الآية على نحو الاستدلال بآية النفر المتقدمة، فانه كان الاطلاق فيها لوجوب الانذار و لو لم يفد العلم مستلزما الوجوب القبول المستلزم لحجية خبر المنذر و ان الغاية لهذا الاطلاق هو القبول.

ص: 384

لا مجال للايراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر، من دعوى الاهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم، فإنها تنافيهما، كما لا يخفى (1)، لكنها ممنوعة، فإن اللغوية غير لازمة، لعدم انحصار الفائدة

______________________________

و الحاصل: ان مبنى الاستدلال بهذه الآية هو الاطلاق في حرمة الكتمان و وجوب الاظهار مطلقا، لان العقل يرى الملازمة بين الاطلاق الشامل لما لم يفد العلم و بين وجوب القبول المستلزم للحجية، و إلّا كانت حرمة الكتمان على وجه الاطلاق لغوا و الى هذا اشار بقوله: «ان حرمة الكتمان الى آخر الجملة».

(1) هذا تعريض بما اورده الشيخ (قدس سره) في رسائله على الاستدلال بهذه الآية، فان الشيخ (قدس سره) اورد على آية النفر بايرادين: حاصل الاول: دعوى الاهمال في الآية و عدم دلالتها على اطلاق وجوب القبول من كل فرد و لو لم يفد انذاره العلم، لعدم اطلاق في الآية من جهة وجوب القبول عند انذار كل منذر لأنها لا اطلاق فيها من ناحية وجوب الحذر عند انذار كل منذر.

و يمكن ان يكون المراد من قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ لعله يحصل لهم العلم من الانذار فيحذرون، و اذا لم يتم الاطلاق في وجوب الحذر عند كل انذار فلا تكون دالة على وجوب قبول كل انذار لتكون دالة على حجية الخبر.

و حاصل الايراد الثاني دعوى الاستظهار من آية النفر: ان الانذار الواجب هو الانذار المفيد للعلم، لأن وجوب الانذار انما هو بما عرفه المتفقهون من الاحكام الواقعية، و حيث ان انذار المنذر الواحد اذا لم ينذر غيره لا يكون موجبا للتخويف من مخالفة الحكم الواقعي لعدم حصول العلم بمجرد انذاره بالحكم الواقعي، فلا يكون الانذار الواجب الا الموجب للتخويف من مخالفة الحكم الواقعي، فيختص بصورة ما اذا افاد الانذار العلم و هو الانذار الحاصل من كل الطائفة.

ثم قال الشيخ في آية الكتمان بما حاصله: انه يرد عليها ما اورد على آية النفر من دعوى الاهمال و انه لا اطلاق في آية الكتمان يشمل وجوب القبول حتى لو كان

ص: 385

.....

______________________________

الاظهار غير مفيد للعلم، بل اختصاص آية الكتمان بوجوب الاظهار و حرمة الكتمان حيث يكون الاظهار موجبا للعلم.

لانه قال (قدس سره) و يرد عليها ما ذكرناه من الايرادين الاولين في آية النفر: من سكوتها و عدم التعرض فيها لوجوب القبول و ان لم يحصل العلم عقيب الاظهار، و هذا هو الايراد الاول.

ثم اشار الى الايراد الثاني بقوله: «او اختصاص وجوب القبول الى آخر ما ذكره».

و حاصله: ان حرمة الكتمان انما هي حرمة كتمان الحق و الواقع الذي هو الاحكام الواقعية، و اذا كان المراد بها وجوب اظهار الاحكام الحقة الواقعية و حرمة كتمانها فلا تكون الآية دالة على وجوب قبول الاظهار و ان لم يكن اظهار المظهر موجبا لوصول الحق و الواقع، فهي انما تدل على وجوب قبول الاظهار الموجب للعلم بالواقع، و على هذا فالآية اجنبية عن الدلالة على حجية الخبر الواحد، لان اظهار المخبر الواحد به لا يوجب العلم فلا يكون اظهاره وصولا للحق الذي يريد اللّه من الناس العمل به. هذا حاصل ما اورده الشيخ (قدس سره) على آية الكتمان.

و حاصل ما اراده المصنف بقوله: «و لا يخفى انه لو سلمت الى آخره» ان تسليم الملازمة و هي كون الغاية لحرمة الكتمان هو القبول ينافي الايراد عليها بالاهمال و بالاختصاص بما يفيد العلم.

و توضيحه: ان معنى الملازمة بين حرمة الكتمان و وجوب القبول هو كون العلة لوجوب القبول هي حرمة الكتمان، لان وجوب القبول هي الغاية لها، و من الواضح علية ذي الغاية لغايته، و من الجلي ايضا ان حرمة الكتمان هي بنحو الاستغراق و انه يجب على كل من علم بالبينات و الهدى ان يظهر ذلك و يحرم عليه كتمانه، و الاطلاق و الاستغراق في العلة يوجب الاطلاق في معلولها، فمع تسليم كون وجوب القبول هي الغاية الملازمة لحرمة الكتمان و ان حرمة الكتمان بنحو

ص: 386

بالقبول تعبدا، و إمكان أن تكون حرمة الكتمان لاجل وضوح الحق بسبب كثرة من أفشاه و بينه، لئلا يكون للناس على اللّه حجة، بل كان له عليهم الحجة البالغة (1).

______________________________

الاستغراق، لا وجه لدعوى الاهمال في وجوب القبول بعد الاعتراف بكونه هو الغاية لحرمة الكتمان، فانه يرجع الى التفكيك بين العلة و معلولها، كما انه لو تم الاطلاق في وجوب الحذر سواء افاد الانذار العلم ام لا لا بد من الاعتراف بوجوب القبول عند انذار كل منذر، و لازمه الدلالة على حجية الخبر.

كما ان الاعتراف بما ذكرناه من الاطلاق في حرمة الكتمان و ان الغاية له وجوب القبول ينافي ايضا الايراد عليه بان الآية تدل على وجوب قبول خصوص ما افاد العلم، لان الذي يريد اللّه العمل به هو العمل بالحق دون العمل مطلقا سواء كان الاظهار مفيدا للعلم به او لم يكن، لان لازم ذلك هو عدم الاطلاق في حرمة الكتمان، و انه لا يحرم على كل احد كتمان ما عرف من الحق اذا كان اظهاره لا يكون ايصالا للحق، و الى هذا اشار بقوله: «فانها» أي تسليم الملازمة و ان وجوب القبول هو الغاية لحرمة الكتمان «تنافيهما» أي تنافي الايراد على الآية بالايرادين: من دعوى الاهمال، و دعوى الاختصاص بخصوص الاظهار المفيد للعلم.

(1) حاصله: ان الاولى في الايراد على دلالة الآية على حجية الخبر انه تمنع الملازمة و ان الغاية لحرمة الكتمان الشاملة لكل من عرف البينات و الهدى ليس وجوب القبول، و لا تنحصر الغاية عقلا لحرمة الكتمان المطلقة بذلك، بحيث يكون وجوب القبول غاية لكل اظهار، و ان كنا نعترف بان الغاية لمجموع الاظهارات هو وجوب القبول لحصول العلم، و لا يستلزم ذلك كون وجوب القبول غاية لكل اظهار من هذه الاظهارات.

ص: 387

.....

______________________________

و بالجملة: ان وجوب الاظهار وجوب مقدمي لان يحصل من المجموع العلم بالهدى و البينات، و هذا الوجوب المقدمي مع كونه استغراقيا لا يلزم ان يكون لكل فرد منه وجوب القبول، لوضوح انه لا يشترط في وجوب المقدمة ايصالها الى ذي المقدمة، و حيث كان كل واحد من هذه الاظهارات هو جزء ما يترتب عليه ذو المقدمة و هو العلم بالهدى لذا وجب على كل من عرف اظهار ما عرف لئلا يحصل منهم التواكل و لان يترتب على المجموع وصول الهدى و العلم به، و الى هذا اشار بقوله: «فان اللغوية غير لازمة لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبدا» اذا لم يكن وجوب القبول تعبدا غاية لكل اظهار لا يلزم لغوية وجوب الاظهار و حرمة الكتمان، و السبب في عدم الانحصار هو «امكان ان تكون حرمة الكتمان» المطلقة الشاملة لكل من عرف الحق هو الوجوب المقدمي «لاجل» ان يترتب على مجموع الاظهارات «وضوح الحق بسبب كثرة من افشاه و بينه الى آخر كلامه» نعم لو سلمنا ان الغاية لكل اظهار- منفردا- وجوب القبول تعبدا و ان لم يفد العلم لكان ذلك مستلزما لحجية خبر الواحد.

و مما يدل على ان الآية لا ربط لها بحجية الخبران الآية واردة في مورد الذم و اللعنة لعلماء اليهود الذين عرفوا علامات النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كتموها، و لا يعقل ان يشمل دليل الحجية خبر اليهودي، بل في نفس الآية دلالة على كونها اجنبية عن حجية الخبر، لان الذي يستلزم حجية الخبر ما يكون هو المقتضي لايصال الهدى، دون الكتمان الذي يكون مانعا عن ان يصل الهدى، بحيث لو لا الكتمان لوصل لوجود البيان له الذي له اقتضاء الوصول لو لا كتمانه.

و بعبارة اوضح: ان حرمة الكتمان و وجوب الاظهار: تارة يكون هو الذي به يصل الهدى. و اخرى يكون الهدى قد بين و لبيانه شأنية الوصول، و لكن الكتمان يمنع عن وصوله.

ص: 388

الاستدلال بآية السؤال

و منها: آية السؤال عن أهل الذكر فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون. و تقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان (1).

______________________________

فان كانت حرمة الكتمان في الآية هي من النحو الاول الذي يكون به الوصول كان مجال لان يقال: ان الغرض لهذه الحرمة هو وجوب القبول، فيستلزم حجية الخبر كما مر بيانه.

و اما اذا كانت حرمة الكتمان من النحو الثاني، و ان الكتمان انما حرم لكونه مانعا عن وصول الهدى الذي له شأنية الوصول فلا تكون هذه الحرمة مما تدل على وجوب القبول و تستلزمه، و في الآية دلالة على كونها من النحو الثاني، لان ذيل الآية و هو قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ يدل على ان الهدى قد بينه اللّه للناس، و لكن علماء اليهود كتموه و منعوا عن وصوله و ظهوره، و لو لا كتمانهم لوصل، لان اللّه قد بينه و أوضحه للناس.

هذا كله، مضافا الى ان مورد الآية هو اصول الدين لان موردها هو كتمان علماء اهل الكتاب لعلامات النبوة المذكورة في التوراة، و لا حجية لخبر الواحد في اصول الدين، و كونها مخصصة بغير ذلك و ان كان عمومها يشمل اصول الدين بعيدة جدا، اذ ليس من المستحسن ان يخصص العموم باخراج مورده عنه.

(1) هذه الآية الرابعة التي استدل بها لحجية الخبر، و قد وردت هذه الآية و هي قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* في ضمن آيتين في سورتين في سورة النحل و هي قوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 41] الى آخر الآية، و في سورة الانبياء و هي قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ 42].

ص: 389

و فيه: إن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم، لا للتعبد بالجواب (1).

______________________________

و تقريب الاستدلال بها بنحو ما مر في آية الكتمان، مع ضم ضميمة اليها في المقام.

و بيانه: ان الآية قد دلت على وجوب السؤال عن البينات من اهل الذكر عند عدم العلم بالبينات، و من البين ان البينات و الذكر يشملان الفروع و الاصول.

و ان وجوب السؤال مطلق يعم ما اذا افاد الجواب العلم او لم يفده.

و انه لا خصوصية لحجية قول المسئول بما هو مسئول بل يعم المبتدئ ببيان البينات و ان لم يكن مسئولا بان كان مبتدأ بالبينات.

و ان الغاية لوجوب السؤال تنحصر في وجوب القبول.

و ان اهل الذكر الذي اوجب السؤال منهم هم مطلق من عرف الذكر سواء كانت معرفته له بالسماع مثلا او كانت معرفته مستندة بالتفكر و الروية و اعمال المقدمات المنتجة لذلك.

و بعد تمامية هذه المقدمات .. يتضح دلالتها على حجية الخبر، لان لانحصار الغاية من وجوب السؤال في وجوب قبول الجواب ممن افاد قوله العلم او لم يفد، مع عموم اهل الذكر لمن عرف بالسماع او بمثله من الحواس الظاهرة، مع عدم اختصاص ذلك بالاصول- لازمه حجية خبر المسئول و ان لم يفد قوله العلم، و لما كان ما في آية الكتمان من جملة مقدمات الاستدلال بهذه الآية قال (قدس سره):

«و تقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان».

(1) و حاصله: منع المقدمة الثانية، و هي ليس في وجوب السؤال اطلاق يعم ما افاد الجواب العلم و عدمه، بل في الآية قرينة على ان وجوب السؤال انما هو لتحصيل العلم، لوضوح ان قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ* يدل على ان الداعي لوجوب السؤال هو عدم العلم، و اذا كان ذلك فلا بد و ان يكون السؤال لاجل رفع

ص: 390

و قد أورد عليها: بأنه لو سلم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذكر، فلا دلالة لها على التعبد بما يروي الراوي، فإنه بما هو راو لا يكون من أهل الذكر و العلم، فالمناسب إنما هو الاستدلال بها على حجية الفتوى لا الرواية (1).

______________________________

عدم العلم، و من الواضح ان رفع عدم العلم انما يكون بالعلم، فيكون مدلول الآية انه يجب السؤال عليكم عما لا تعلمون حتى تعلموا، و اذا كانت هذه دلالتها تكون اجنبية عن الدلالة على التعبد بقبول جواب المسئول و ان لم يفد العلم.

و منه يظهر منع المقدمة الرابعة: و هي كون الغاية لوجوب السؤال هو وجوب القبول مطلقا بل وجوب القبول لما افاد العلم، و يمكن ايضا منع المقدمة الاخيرة، فان المراد باهل الذكر اما خصوص علماء اليهود و لا اشكال ان خبرهم عن الفروع ليس بحجة، او خصوص الأئمة الاطهار كما ورد بذلك اخبار كثيرة فيها الصحيح و الموثوق، و من الواضح ان قولهم مما يفيد و خبرهم خارج بالتخصص عن حجية خبر الواحد.

(1) لا يخفى ان الشيخ (قدس سره) في رسائله من جملة ما اورده على دلالة الآية: هو ان مفادها لو تم لكان خصوص حجية رأي المجتهد و العالم في حق المقلد الجاهل و حاصله: ان اهل الذكر لا يصدق على من عرف البينات بالسماع او مثله، فان الجاهل الذي يروي عن الامام ما سمعه منه لا يصدق عليه انه من اهل الذكر، و كذا لا يصدق على الراوي الذي شاهد الامام بفعل فيرويه فانه لا يصدق عليه انه من اهل الذكر، و المراد باهل الذكر هم العلماء الذين كانت معرفتهم مستندة الى الفكر و الرواية لا الى الرواية.

فالمتحصل من كلامه (طاب مرقده) انه لو سلمنا ان الآية تدل على وجوب القبول تعبدا لما اجاب به المسئول و هم اهل الذكر و ان لم يفد قولهم العلم، إلّا انها مختصة

ص: 391

و فيه: إن كثيرا من الرواة يصدق عليهم أنهم أهل الذكر و الاطلاع على رأي الامام عليه السّلام كزرارة و محمد بن مسلم و مثلهما، و يصدق على السؤال عنهم أنه السؤال عن أهل الذكر و العلم، و لو كان السائل من أضرابهم، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية، وجب قبول روايتهم و رواية غيرهم من العدول مطلقا، لعدم الفصل جزما في وجوب القبول بين المبتدئ و المسبوق بالسؤال، و لا بين أضراب زرارة و غيرهم ممن لا يكون من أهل الذكر، و إنما يروي ما سمعه أو رآه (1)

______________________________

بخصوص جوابهم بما هم علماء قد اجابوا عن فكر و روية لا عن رواية مستندها ما سمعوه او ما شاهدوه باحد الحواس الظاهرة.

و بالجملة: ان الآية لو تمت دلالتها لدلت على حجية الفتوى دون الرواية، و عبارة المتن واضحة.

(1) و حاصل ما اورده عليه انه لا إشكال انه في ضمن الرواة من هم من اهل العلم و الروية، و اذا وجب قبول خبر هؤلاء لانهم من أهل الذكر يجب قبول قول كل راو و ان لم يكن من اهل العلم، لقيام الاجماع او القول بعدم الفصل بينهما.

و الحاصل: انه كما قد قام الاجماع على قبول قول اهل الذكر و هم العلماء كزرارة و ابن مسلم و امثالهم من العلماء الرواة سواء كانوا مسئولين او كانوا مبتدءين بالقول من دون سؤال، كذلك قد قام الاجماع على عدم الفصل بينهم و بين غيرهم من الرواة العدول الذين هم ليسوا علماء، بل كانوا عدولا فقط و رواة، و عبارة المتن واضحة ايضا.

ص: 392

فافهم (1).

الاستدلال بآية الأذن

و منها: آية الاذن و منهم الذين يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن باللّه و يؤمن للمؤمنين فإنه تبارك و تعالى مدح نبيه بأنه يصدق المؤمنين، و قرنه بتصديقه تعالى (2). و فيه:

______________________________

(1) يمكن ان يكون اشارة الى عدم ورود الايراد على الشيخ (قدس سره) لان نظره (قدس سره) الى ان الآية مختصة بوجوب قبول الفتوى من حيث انها انما تدل على قبول جواب المسئول لان جوابه مستند الى فكره و رويته، فالعالم الذي هو مصداق اهل الذكر اذا كان راويا كان له حيثيتان: الجواب المستند الى سماعه و روايته و الجواب المستند الى فكرة و رويته، و الآية انما تدل على خصوص قبول جوابه المستند الى رويته و فكره، و لا تعرض فيها و لا دلالة على قبول جوابه المستند الى سماعه و روايته، فيكون الاشكال عليه بان اهل الذكر يكون راويا ايضا، و لا فصل بينه و بين غيره من الرواة في غير محله.

و لا بد في الاشكال عليه بان يقال: انا نمنع اختصاص اهل الذكر بخصوص العالم الذي يكون جوابه عن فكر و روية لا عن رواية، بل المراد من اهل الذكر هم اهل المعرفة بالواقع، و الحق و كما تكون المعرفة للحق و الواقع عن فكر و روية كذلك تكون بالسماع ممن لا ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى، فان الناقل كلامه و الراوي له راو للحق و الواقع، بل هو اولى بان يكون من اهل الذكر لقلة خطأ النقل للكلام من الناقل، و اما فكر العالم و رويته حيث انه لا عصمة لغير من عصمه اللّه فالخطأ فيه اكثر، فالآية لو تمت دلالتها على وجوب قبول الجواب من المسئول سواء افاد العلم ام لا لكانت دالة على حجية خبر العادل.

(2) هذه هي الآية الخامسة التي استدل بها لحجية الخبر و هي قوله تعالى في سورة براءة وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

ص: 393

.....

______________________________

وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ 43].

و تقريب الاستدلال بهذه الآية ان اللّه تعالى مدح نبيه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بانه يسمع من المؤمنين و يؤمن لهم فيما يخبرونه به، و المدح من اللّه على شي ء يدل على حسنه و صحة ارتكابه.

توضيح هذا التقريب: ان المراد من سماع النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم من المؤمنين هو سماعه من كل مؤمن لا من مجموع المؤمنين، و المقصود من سماعه صلى اللّه عليه و آله و سلم هو ترتيب الاثر على خبر المؤمن لا السماع الطبيعي للصوت، فان سياق الآية بقرينة قوله اذن خير لكم انه اذن خير لكل مؤمن، و انه انما يكون اذن خير للمؤمن حيث انه يرتب الاثر على كلامه لا لانه يسمع صوته، مضافا الى انه قرن تصديقه للمؤمن بتصديقه باللّه تعالى نفسه عزّ و جل، و من البين ان تصديقه باللّه تصديق بالواقع الذي يترتب عليه جميع الآثار، و في كون تصديقه للمؤمنين مقترنا باللّه دلالة قوية على مدح هذا التصديق و ان هذا التصديق التعبدي هو بمنزلة التصديق الحقيقي.

و منه ظهر ان لازم هذا المدح هو حجية الخبر، لانه:

اولا: ان كون الشي ء حسنا عند اللّه هو صحة ارتكابه في ترتيب آثاره عليه، لبداهة انه لو لم يترتب الاثر عليه ما كان ذلك سماعا لخبر المؤمن و صحة ترتيب الآثار، و حسن ذلك عند اللّه يدل بوضوح على حجيته تعبدا، و إلّا لكان ترتيب الآثار عليه غير صحيح و لا حسن.

و ثانيا: ان جعل تصديقه للمؤمنين مقرونا بتصديقه به تعالى الذي هو محض التصديق بالواقع يدل- أيضا- على ان ترتيب الاثر على خبر المؤمنين هو بمنزلة التصديق باللّه في كونه تصديقا بالواقع و بترتيب آثاره، و الى ما ذكرنا اشار بقوله:

ص: 394

أولا: إنه إنما مدحه بأنه أذن، و هو سريع القطع، لا الاخذ بقول الغير تعبدا.

و ثانيا: إنه إنما المراد بتصديقه للمؤمنين، هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم و لا تضر غيرهم، لا التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المطلوب في باب حجية الخبر (1)، و يظهر ذلك من تصديقه للنمام بأنه ما

______________________________

«مدح نبيه بانه يصدق المؤمنين» بقوله تعالى هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ و أكد ذلك حيث «قرنه بتصديقه تعالى» و هو كما انه دليل على المدح و دليل ايضا على حجية الخبر.

(1) توضيح الايراد الاول على الاستدلال بالآية لحجية الخبر: ان الآية انما تدل على حسن خلق النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم و هي اجنبية عن الدلالة على حجية الخبر، لان المراد بالتصديق للمؤمنين في الآية هو حصول القطع للنبي بمجرد قول المؤمنين لحسن ظنه بهم، فالمراد من انه اذن هو سرعة القطع له من اخبار المؤمنين، فهو يقطع من اخبارهم كما يقطع من اخبار اللّه، و على هذا فالآية تكون اجنبية عن الدلالة على الاخذ بقول المؤمنين تعبدا، لان اخذه بقولهم لقطعه من قولهم لا للجعل التعبدي، لكن هذه الصفة مما لا ينبغي ان تكون من صفاته فضلا عن ان يمدح عليها، لانه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بمنتهى الفطنة و الدقة و هي من صفات السذج.

و على كل فقد اشار الى هذا بقوله: «انه اذن و هو سريع القطع».

و الاستدلال الثاني ما اشار اليه بقوله: «و ثانيا» و حاصله: ان المراد من التصديق للمؤمنين الذي مدح اللّه نبيه عليه ليس التصديق الخياني و هو القطع بالواقع، لان اخبار المؤمن لا يوجب القطع غالبا، مضافا الى ان التصديق الذي مدح اللّه النبي عليه كان تصديقا للنمام الذي اخبر اللّه نبيه بانه نم عليه.

و منه يظهر انه ليس المراد منه هو التصديق بترتيب الآثار تعبدا على الخبر، لوضوح بعد ان اخبر اللّه نبيه بكذب هذا النمام و انه قد نم واقعا عليه، فقول هذا الكذاب لما احضره النبي و سأله عن نميمته اني لم افعل و تصديق النبي له انكاره يدل

ص: 395

.....

______________________________

بوضوح انه ليس تصديقا بترتيب جميع الآثار تعبدا، و كيف يعقل ان يكون ذلك مع اخبار اللّه بكذبه؟ بل المراد من هذا التصديق هو ترتيب بعض الآثار و هي الآثار التي تنفعهم و لا تضر غيرهم، و لو كان المراد ترتيب جميع الآثار لما كان تصديقه للمؤمنين نافعا لجميع المؤمنين بل كان نافعا لبعض و ضررا على البعض الآخر، فانه لو قال احد المؤمنين للنبي ان فلانا سرق او شرب الخمر فرتب النبي عليه جميع الآثار بان حد المشهود عليه، فانه و ان كان خيرا و نفعا للشاهد لتقديره له و اعتباره، إلّا انه ضرر على الآخر و هو المشهود عليه.

و ظاهر الآية انه اذن خير لجميع المؤمنين، و لا يكون اذن خير لجميع المؤمنين إلّا ان يكون المراد من التصديق الذي هو اذن خير للجميع و مدح اللّه عليه هو ترتيب بعض الآثار، و هو اظهار التصديق منه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لمن اخبره، و هذا الاظهار خير للمخبر و عدم ترتيب الاثر على هذا الاخبار بالنسبة للمخبر عنه هو خير له ايضا، و اذا كان المراد من التصديق هذا المعنى تكون الآية اجنبية الدلالة عن حجية الخبر تعبدا، و انما تكون من الآيات الدالة على عظيم خلقه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالاحسان الى جميع المؤمنين، و الى هذا اشار بقوله: «انما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم» و هي اظهار التصديق منه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لهم «و» ان «لا تضر غيرهم» و إلّا لما كان اذن خير لجميع المؤمنين «لا» ان المراد من تصديقه للمؤمنين هو «التصديق بترتيب جميع الآثار» و إلّا لم يكن خيرا لهم جميعا، بل كان خيرا لبعض و ضررا للبعض الآخر، و لو كان المراد من التصديق هو ترتيب جميع الآثار تعبدا «كما هو المطلوب في باب حجية الخبر» لما كان تصديقه صلى اللّه عليه و آله و سلّم للمؤمنين خيرا لجميع المؤمنين.

و قد ظهر مما ذكرنا: ان التصديق يطلق و يراد منه معان اربعة: التصديق الجناني، و سرعة القطع، و ترتيب جميع الآثار تعبدا، و ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم و لا تضر غيرهم.

ص: 396

نمه، و تصديقه للّه تعالى بأنه نمه (1)، كما هو المراد من التصديق في قوله عليه السّلام فصدقه و كذبهم، حيث قال- على ما في الخبر- يا أبا محمد كذب

______________________________

و المراد من الآية هو الاخير لوضوح عدم ارادة الاول و الثاني لعدم حصول القطع من اخبار المؤمن غالبا، و لان سرعة القطع ليست من الصفات الممدوحة فيه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و عدم ارادة الثالث و إلّا لما كان اذن خير للجميع، فيتعين ان يكون المراد من التصديق في الآية هو المعنى الرابع، و قد عرفت انه عليه تكون الآية اجنبية عن الدلالة على حجية الخبر تعبدا.

(1) قد عرفت ان استظهار كون المراد من التصديق في الآية هو المعنى الرابع مستند الى قرينة فيها تدل على ذلك و هي قوله تعالى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ

و هناك قرينة اخرى تدل على انه ليس المراد من التصديق فيها هو ترتيب جميع الآثار هي ما اشار اليها بقوله: «و يظهر ذلك من تصديقه للنمام» و هو مورد نزول الآية، فان المفسرين ذكروا وجهين لسبب نزولها:

الاول: انها نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يلمزون رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بما لا ينبغي فنهاهم احدهم عن ذلك خشية ان يطلع النبي على ذلك منهم فيعاقبهم، فقالوا له انه اذن اذا اطلع علينا ثانية فنقول له ما قلنا و نحلف له فيصدقنا، و هذا الوجه يناسب الجواب الاول و قد عرفت عدم صحته، فلا بد و ان يكون المراد ايضا في مدحه بالتصديق هو اظهار التصديق منه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لهم الذي هو خير لهم، فانه بعد كونهم من المنافقين فلا يعقل ان يكونوا مشمولين لحجية الخبر التي يراد بها ترتيب جميع الآثار، و الالتزام بدلالتها على حجية الخبر مع عدم انطباقها على مورد النزول بعيد جدا.

الوجه الثاني: و هو المشار اليه في المتن ان مورد نزولها هو النمام المنافق نبتل بن أوس، فانه كان يأتي النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم فيسمع كلامه في المنافقين و ينم به اليهم، فاخبر اللّه نبيه بنميمته فاحضره النبي و سأله فانكر و حلف انه لا ينم عليه فاظهر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم

ص: 397

سمعك و بصرك عن أخيك: فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا، و قال: لم أقله، فصدقه و كذبهم فيكون مراده تصديقه بما ينفعه

______________________________

صدقة، فخرج منه و جعل يلمزه و يقول هو اذن يصدق من كل احد، فانزل اللّه فيه هذه الآية.

و من الواضح: ان التصديق الذي مدح اللّه عليه نبيه ليس هو التصديق الجناني، و لا التصديق بمعنى سرعة القطع، و لا التصديق بمعنى ترتيب جميع الآثار، فان هذه المعاني الثلاثة تنافي اطلاع النبي على كذبه باخبار اللّه له بانه نمام، فانه مع اخبار اللّه له يكون تصديقه الجناني بكذبه لا بصدقه، و لا يعقل ان يحصل للنبي القطع بصدقه مع اخبار اللّه له بكذبه، و لا يعقل ايضا ان يكون خبر النمام المعلوم الكذب مما يشمله دليل الحجية للخبر فيتعين المعنى الرابع و هو اظهار التصديق له من النبي صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و بهذا كان اذن خير له و للمؤمنين جميعا.

و من الواضح ان هذا المعنى الرابع هو الذي يجتمع مع تصديق النبي اليه، فان التصديق الحقيقي بقول اللّه تعالى و اظهار التصديق للنمام مما يجتمعان، اما التصديق للنمام بأحد المعاني الثلاثة المتقدمة فلا يعقل ان يجتمع مع التصديق باللّه في اخباره بكذب هذا النمام، فمورد النزول من اتم القرائن على ان المراد من التصديق في الآية هو اظهار الصدق لا ترتيب جميع الآثار، و الى هذا اشار بقوله: «و يظهر ذلك» أي كون المراد من التصديق في الآية هو اظهار الصدق فقط يظهر واضحا «من تصديقه صلى اللّه عليه و آله و سلّم للنمام بانه ما نمه و تصديقه للّه تعالى بانه نمه» فان التصديق بمعنى اظهار الصدق دون معانيه الثلاثة هو الذي يمكن ان يجتمع مع تصديق اللّه تعالى.

ص: 398

و لا يضرهم، و تكذيبهم فيما يضره و لا ينفعهم، و إلا فكيف يحكم بتصديق الواحد و تكذيب خمسين (1)؟ و هكذا المراد بتصديق المؤمنين في

______________________________

(1) لا يخفى ان غرض المصنف الاستشهاد على ان التصديق يطلق و يراد منه اظهار الصدق دون ترتيب جميع الآثار، و قد اشار الى مورد قد اطلق التصديق فيه و اريد به اظهار الصدق فقط، و هو ما ورد في هذا الخبر و هو الامر بتكذيب السمع و البصر الممكنى به عن العلم بالواقع: أي الامر بتكذيب ما علم انه هو الواقع و الامر بتكذيب القسامة- بالفتح- و هي الأيمان التي تقسم على اولياء الدم، و المراد منها في الخبر اليمين من المخبر على خبره، و من الواضح ان شهادة خمسين مع حلفهم على خبرهم مما يوجب القطع، فالامر بتكذيبهم امر بتكذيب ما حصل القطع به للقاطع في حال قطعه، فالامر بالتكذيب في حالتي العلم و القطع لا بد و ان يكون المراد منه اظهار الصدق دون التصديق بمعانيه الثلاثة، لعدم ارادة المعنى الاول و الثاني، لعدم امكان حصول التصديق الجناني و القطع بشي ء مع حصول العلم بنقيضه من السمع و البصر او من شهادة خمسين قسامة، و لا يعقل ان يكون المراد هو المعنى الثالث و هو ترتيب جميع الآثار اذ لا معنى لترتيب الآثار مع العلم بالخلاف، و لا معنى ايضا لتقديم قول واحد على قول خمسين و قد حلفوا عليه ايضا- فيتعين ان يكون المراد من الامر بالتكذيب و من الامر بالتصديق في قوله فصدقه و كذبهم هو المعنى الرابع و هو اظهار الصدق.

لا يقال: ان المعنى الرابع من التصديق في الآية ليس هو مجرد اظهار الصدق، بل هو مع كونه خيرا للطرفين، و هذه الرواية ليست شاهدا على اظهار الصدق بما هو للطرفين، فان اظهار الصدق و ان كان خيرا للمشهود عليه إلّا ان التكذيب ليس خيرا للشاهدين بل هو ضرر عليهم مع انهم خمسون قسامة.

فانه يقال: المراد من الخير للطرف الثاني هو عدم الضرر عليه لا نفعه، و ايضا ليس المراد من التكذيب لهم مواجهتهم بانكم كاذبون، بل المراد في مقام الاخلاق

ص: 399

قصة إسماعيل، فتأمل جيدا (1).

______________________________

و الجمع بين الشهادة على شخص بما يضره و تكذيبه لما شهدوا به عليه هو اظهار صدقه و هو ينفعه، و عدم ترتيب الاثر على الشهادة لا رميهم بالكذب و هذا لا يضر الشاهدين، فالمراد من تكذيبهم عدم ترتيب الاثر على قولهم لا رد قولهم و شهادتهم بانكم تكذبون حتى يكون ضررا عليهم، و الى هذا اشار بقوله: «فيكون مراده تصديقه بما ينفعهم و لا يضرهم الى آخر الجملة» كما انه اشار الى هذا المعنى بقوله السابق في الآية: «هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم و لا تضر غيرهم» و اشار الى انه لا يعقل ان يكون المراد من التصديق في هذه الرواية هو المعنى الثالث بقوله: «و إلّا فكيف يحكم بتصديق الواحد الى آخر الجملة» أي مع كون الشاهدين قد بلغ عددهم خمسين قسامة و هذا مما يفيد القطع غالبا و المنكر واحد، و لا يعقل ان يكون المراد من التصديق هو ترتيب جميع الآثار.

(1) لا يخفى ان المصنف انما اشار الى قصة اسماعيل لان الشيخ ذكرها كدليل لان يكون المراد من التصديق في الآية هو ترتيب جميع الآثار، فانه قال (قدس سره) بعد ان قرب الاستدلال بالآية، و يزيد في تقريب الاستدلال وضوحا ما رواه في فروع الكافي في الحسن بابراهيم بن هاشم انه كان لإسماعيل بن ابي عبد اللّه عليه السّلام دنانير و اراد رجل من قريش ان يخرج الى اليمن، و يظهر ان الصادق علم ان ولده اسماعيل يريد ان يعطي الدنانير لهذا الرجل ليشتري له بها، فقال له ابو عبد اللّه عليه السّلام: يا بني اما بلغك انه يشرب الخمر، قال سمعت الناس يقولون، فقال يا بني ان اللّه عزّ و جل يقول يؤمن باللّه و يؤمن للمؤمنين، يقول يصدق اللّه و يصدق للمؤمنين، فاذا شهد عندك المسلمون فصدقهم.

فان ظاهرها كما يدعيه الشيخ من كون المراد بالتصديق في الآية هو ترتيب جميع الآثار، لانه امر اسماعيل بتصديق المؤمنين في ان الرجل يشرب الخمر، فهو غير مامون لان الفاسق لا يؤتمن و نهاه عن اعطائه له الدنانير، فان قوله عليه السّلام أما بلغك

ص: 400

.....

______________________________

انه يشرب الخمر ظاهر في ان الغرض منه نهي اسماعيل عن اعطائه الدنانير لان الفاسق غير مأمون، فالرواية لها ظهور في لزوم تصديق المؤمنين في شهادتهم عليه بشرب الخمر و لزوم ترتيب جميع الآثار على شهادتهم التي منها عدم ائتمان الرجل و عدم اعطائه الدنانير، و لذلك اشار المصنف اليها للتنبيه الى الجواب عنها، و ان المراد من التصديق فيها ليس ترتيب جميع الآثار.

و قد اجاب الشيخ عنها ايضا، و توضيح الجواب عنها: ان التأمل في الرواية يعطي ان الغرض منها في الامر بالتصديق هو الارشاد و المحافظة على ان لا تذهب دنانير اسماعيل، و حيث ان اسماعيل لم يعتن بشهادة المؤمنين كما يشعر به قوله ان الناس يقولون، فاراد الصادق ان يامره باظهار تصديق المؤمنين و العمل بالاحتياط فيما يعود الى حفظ ماله، و حيث يظهر من الرواية ايضا ان الرجل عازم على الخروج الى اليمن سواء اعطاه اسماعيل او لم يعطه، و يظهر ايضا ان كونه ممن يشرب الخمر معروف بين الناس، لذا كان تصديق المؤمنين بانه يشرب الخمر لا يضره لمعروفيته بذلك، و لم يكن المقام مقام اقامة الحد عليه ليكون ضررا عليه هذا التصديق، و كذا عدم اعطائه الدراهم فان غايته عدم نفعه لو كانت على نحو البضاعة، فالامر بالتصديق في هذه الرواية ارشاد يراد منه الالتزام بتصديق المؤمنين فيما ينفع اسماعيل من المحافظة على امواله و لا يضر المشهود عليه، فلا تكون لها دلالة على ترتيب جميع الآثار، و اللّه العالم.

ص: 401

ص: 402

الفهرس

ص: 403

ص: 404

الفهرس

المقصد السادس: في بيان الامارات المعتبرة شرعا او عقلا 1

خروج مباحث القطع عن علم الاصول 3

إرادة خصوص المجتهد من المكلف 4

الفرق بين قسمة المصنف (قده) و قسمة الشيخ (قده) 9

الامر الاول: لزوم العمل بالقطع عقلا 14

مراتب الحكم و ترتب استحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الفعلي 20

الامر الثاني: التجري و الانقياد 24

دلالة الآيات و الروايات على استحقاق المتجري للعقاب 45

كلام صاحب الفصول في تداخل العقابين و الايراد عليه 55

منشأ توهّم صاحب الفصول 57

الامر الثالث: اقسام القطع 58

القطع الموضوعي و اقسامه الاربعة 59

قيام الامارة مقام القطع الطريقي 64

عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي مطلقا 67

كلام الشيخ الأعظم (قده) و النظر فيه 69

امتناع اجتماع اللحاظين الآلي و الاستقلالي 71

عدم قيام غير الاستصحاب من الاصول مقام القطع الطريقي 76

عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي 81

كلام المصنف في حاشية الرسائل 83

الامر الرابع: اخذ القطع بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده 91

ص: 405

أخذ الظن بحكم في موضوع نفسه أو مثله أو ضده 94

الأمر الخامس: الموافقة الالتزامية و عدم وجوبها 101

جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي 107

الأمر السادس: قطع القطاع 115

تبعية القطع الموضوعي لدليل الاعتبار 116

حجية القطع الطريقي مطلقا 117

الأمر السابع: العلم الإجمالي 121

اقتضاء العلم الإجمالي للحجيّة 128

الامتثال العلمي الإجمالي 133

إجزاء الاحتياط المستلزم للتكرار 140

الامتثال الظني التفصيلي 143

الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا 151

إمكان التعبّد بالأمارة غير العلمية شرعا 156

محاذير التعبّد بالأمارة غير العلمية 165

المحذور الأول 168

المحذور الثاني 172

المحذور الثالث 175

الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري بتعدّد الرتبة 203

تأسيس الاصل في الشك في الحجيّة 206

حجية ظواهر الألفاظ 214

عدم تقييد الظواهر بالظن الفعلي 216

ص: 406

عدم تقييد الظواهر بالظن بالخلاف 217

عدم اختصاص حجيّة الظهور بمن قصد افهامه 218

أدلة المحدثين على عدم حجيّة ظواهر الكتاب 221

في تضعيف أدلّة المحدثين 226

اسقاط العلم الاجمالي بالتحريف لحجيّة الظواهر 240

إخلال القرينة المتصلة بالظهور 246

اختلاف القراءات 248

الشك في الظهور لاحتمال وجود القرينة 253

الشك في الظهور لاحتمال قرينيّة الموجود 258

حجيّة قول اللغوي 260

الاجماع المنقول 268

اختلاف الألفاظ الحاكية للإجماع 277

حجيّة الإجماع المنقول الكاشف عن رأي المعصوم 278

بطلان الطرق المعهودة لاستكشاف رأي المعصوم 292

تعارض الاجماعات المنقولة 298

نقل التواتر بالخبر الواحد 303

الشهرة في الفتوى 309

حجيّة خبر الواحد 321

أدلّة المنكرين لحجية خبر الواحد 330

الجواب عن الآيات و الروايات 332

التواتر الاجمالي 337

ص: 407

المناقشة في دعوى الإجماع 339

الآيات المستدل بها على حجيّة خبر الواحد: منها آية النبأ 340

الإشكالات على دلالة آية النبأ 345

تقرير إشكال اخبار الوسائط 354

حلّ الاشكال بجعل القضية طبيعية 359

الاستدلال بآية النفر بوجوه ثلاثة 367

الاستدلال بآية الكتمان 383

الاستدلال بآية السؤال 389

الاستدلال بآية الأذن 393

الفهرس 403

آل شيخ راضى، محمد طاهر، بداية الوصول في شرح كفاية الأصول - قم، چاپ: دوم، 1426 ق.

ص: 408

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.